فيلم «حرقة»: وراء كل شباب مقهور ثورة مهدورة

الأربعاء 22 آذار 2023
فيلم حرقة
مشهد من فيلم «حرّقة». المصدر: IMDb.

في روايته اليتيمة «الفهد»، يقول الكاتب الإيطالي، جوزيبي دي لامبيدوزا، على لسان أحد الأرستقراطيين المناهضين للثورة «إذا ما أردنا إبقاء الأمور على حالها، فيتعيّن أن تتغيّر هذه الأمور». هذا النهج المتناقض ظاهرًا بين إرادة التغيير والرغبة في التغيير، هو في الحقيقة نهج شديد الانسجام في اختطاف التغيير وتحويل وجهته نحو العودة إلى نقطة الصفر. عندها يستدير الزمان كهيئته الأولى وكأنه لم يتحرك أبدًا. في أول فيلم روائي طويل له، يرسم لطفي ناثان، المخرج الأمريكي من أصول مصرية، صورة هذا التغيير الوهمي الذي حدث بعد ثورات الربيع العربي، مستعينًا بقصة شاب تونسي، يعيش ما عاشه محمد البوعزيزي، في المدينة نفسها، سيدي بوزيد، وتحت الظروف ذاتها، بعد عشر سنوات من احتراق البوعزيزي في ساحة عامةٍ مطلقًا ثورةً لن تنتهي إلا بهروب رئيس البلاد.

الأسئلة حول حال البلاد بعد عشر سنوات تبدو غير مجديةً، ولا الحسرات أيضًا. هذا الفيلم هو درس في الكف عن الاعتقاد بأن الزمن يقهر الزوايا الحادة ويغلق الجراح. فهو على العكس من ذلك يزيد تلك الجراح عمقًا وتلك الزوايا حدةً. ذلك ما تكشف عنه قصة البطل عليّ، العالق في دوامة الحياة في تونس دون أفق أو أمل. في العشرينيات من عمره، يقاتل كل يوم لكسب لقمة العيش من خلال بيع البنزين المُهربّ بمبالغ سخيفة ويبتزه رجال الشرطة. عندما يسأله أحد الأصدقاء «هل أنت بخير؟» يجيب «أنا على قيد الحياة».

ممزقًا بين إحساس قوي بالعائلة ورغبةٍ في جمع المال وفرار من جحيم البلاد من خلال رحلات الهجرة غير النظامية، التي تسمى في العامية التونسية «الحرقة»، يتبخر الحلم فجأةً في اللحظة التي توفي فيها والده تاركًا وراءه فوضى من الديون، ويجد نفسه مجبرًا على العناية بشقيقتيه الصغيرتين، بعد رحيل شقيقه الأكبر اسكندر للعمل كنادل في منتجع سياحي بمدينة الحمامات. وما يزيد البؤس درجةً هو محاولات أصحاب الديون إخراجهم بسبب عجزهم عن الدفع. سيتعين على عليّ أن يكدح أكثر، لكنه مع ذلك عاجز عن الظفر بالمزيد. ليجد ضالته في تاجر البنزين المهرب، والذي سيعرض عليه العمل معه في التهريب على الحدود، وهنا تتطور علاقته برجال الشرطة والجمارك وحرس الحدود الفاسدين. لم تعد الرشاوي التي يدسها في أيدهم مجرد دنانير قليلة، كما كان يفعل عندما كان مجرد بائع للبنزين. 

هذا الفيلم هو درس في الكف عن الاعتقاد بأن الزمن يقهر الزوايا الحادة ويغلق الجراح. فهو على العكس من ذلك يزيد تلك الجراح عمقًا وتلك الزوايا حدةً.

هل تعرف ذلك الإحساس؟ حين تنظر لأمر ما وترى أنه يمكن أن يسبب لك الضرر، كأن تكون واقفًا مثلًا فوق جسر عالٍ وتنظر للطريق في الأسفل، وعقل يقول لك ماذا لو تقفز؟ هكذا حال بطل الفيلم. المضي بالنسبة له موت، والبقاء موت. يغادر عليّ أحلام «الحرقة»، نحو الضفة الشمالية للبحر المتوسط، لكنه يتجه للاحتراق داخليًا في البلاد من خلال العمل كسائق لسيارة تهريب تحمل على ظهرها شحنات البنزين المعرض للاشتعال في كل لحظة، بسبب السرعة العالية ومخاطر الانقلاب خلال عمليات المطاردة التي تقوم بها قوات الشرطة.

بلا مساحيق، يصور المخرج لطفي ناثان هذا الواقع البائس للشباب التونسي في المناطق الأكثر بؤسًا، بعد عشر سنوات من احتراق البوعزيزي. إنهم يحترقون كل يوم، رمزيًا وفعليًا. حيث يلقى العشرات من الشباب العامل في التهريب كل عام حتفه بسبب المطاردات البوليسية، إما من خلال حوادث السير أو بسبب اندلاع الحرائق. هذا الجزء من الفيلم يكشف عن مناظر طبيعية صحراوية ممتدة، هي الساحة الجغرافية للتهريب في البلاد. يرافقه التعليق الصوتي لفتاة صغيرة يتناقض مع هدوء هذه البانوراما الشاعرية من خلال استحضار المياه الملوثة بالفوسفات وبيئة يبتلى بها البؤس وغياب الأمل.

يلفت ناثان في فيلمه النظر نحو قطاع واسع من الشباب الذين حالت الظروف بينهم وبين الهجرة. الذين مكثوا عالقين في الدوامة نفسها، فيما النظام، بجميع مستوياته، يعيد بناء نفسه كما في السابق. في كتب وأفلام ومسرحيات، سردت العديد من قصص المهاجرين في العقد الذي تلا الثورة. لكن هذا الفيلم يركز على أولئك الذين بقوا. أولئك الذين بقوا والذين يتعين عليهم التعامل مع الحقائق المريرة لبلد يعيث فيه الانحلال الاجتماعي والفساد. داخل هذا القفص، الذي يسمى وطنًا، كان على عليّ، الذي لعب دوره الممثل التونسي آدم بسة، أن يعيش «الحرقة» كل يوم، لا بوصفها رحلة من ممزوجة بالخوف والأمل على قارب خشبي لبض ساعات، ولكن بوصفها رحلة ممتدة في الزمن داخل مكان ضيق، تعيد ولادة نفسها كل صباح في دورةٍ سيزيفية لا تنتهي. 

كما يلقي الفيلم الضوء بشكل ثانوي على حياة فئة أخرى من الشباب، يمثلها شقيق علي الأكبر، اسكندر، والذي توجه للعمل في قطاع السياحة داخل أحد المنتجعات. يقيم المخرج المقارنة بين أوضاع هؤلاء وجذورهم المناطقية والطبقية، وبين البيئة التي يعملون فيها والفئات التي يخدمونها. حتى إن عليّ عندما يزور شقيقه هنا، لا يسبح حيث تسبح جموع السياح الأوروبيين البيض الميسورين، بل يبتعد نحو شاطئ صخري قاسٍ كي يغطس داخل الماء، متذكرًا أنه لم يتغير شيء: لا يزال رجال الشرطة الفاسدون يلعبون لعبة الابتزاز نفسها، والسياح على البحر يشترون نفس الهدايا التذكارية من الباعة المتجولين، والسلطات صماء للأبد.

بلا مساحيق، يصور المخرج لطفي ناثان الواقع البائس للشباب التونسي الذي يحترق كل يوم، في المناطق الأكثر بؤسًا، بعد عشر سنوات من احتراق البوعزيزي.

لكن ما يلفت النظر حقًا في هذا الفيلم المختصر لمأساة طويلة (ساعة ونصف تقريبًا) هو بطله الممثل التونسي آدم بيسة، الذي يلعب دورًا تونسيًا لأول مرة. ولد بيسة لأبوين تونسيين في فرنسا، لكن صلته بالبلاد لم تنقطع أبدًا، فقد كان يعود إليها كل صيف، وبات يعرف منذ طفولته واقع تلك المناطق الداخلية البائسة، وحال شبابها، واللافت تمكنه الجيد من لهجتها العامية، فقد بدا في الفيلم كأنه واحد من شباب سيدي بوزيد. وقد زادت براعته في إتقان أدوار الحركة من قدرة المخرج على تصوير مشاهد المطاردات والعمل في التهريب على الحدود، حيث ظهرت متقاربةً جدًا مع الواقع. وهو ما جعله يخطف جائزة أفضل ممثل في مسابقة «نظرة ما» خلال مهرجان كان السينمائي بدورته الـ75، في أيار الماضي. 

وكذلك اللافت في هذا الفيلم قدرة المخرج على القيام بمسح واسع للمكان الشاسع، من خلال متابعة رحلات عليّ ذهابًا وإيابًا إلى الحدود الليبية، تستكشف الكاميرا الأراضي التونسية الممتدة، كما ترسم خريطة أفقية في لقطات شاملة كبيرة حيث تختفي الصورة الظليلة الضعيفة لعليّ، التي فسرها آدم بيسة بشكل ملحوظ. لا يوجد شيء مجازي في هذا الطمس الجسدي: يجعل المخرج إخفاء جسد علي في الفضاء العام محركًا لغضبه المتزايد. أكثر من البؤس، كانت اللامبالاة والعجز هي التي استهلكت الشاب تدريجيًا، الشباب العالق في شباك الآليات القاسية لنظام تمزق لعقود وكان ضحاياه كل أولئك الذين لا نريد أن نراهم. فهو مسح جغرافي يغرقنا في قلب قصة إنسان تحطم على الجدران الخشنة لبلد فقد كل أشكال التعاطف مع مواطنيه. ويبدو ذلك مدفوعًا بالخلفية الوثائقية للمخرج، والتي تظهر بشكل أوضح في محاولة دمجه لعناصر حقيقية من الشارع، حيث كان يجري تصوير الفيلم. فقد جرت كواليس التصوير خلال الأزمة الصحية الخانقة التي ضربت البلاد صيف عام 2021، والتي انتهت بالانقلاب الذي نفذه الرئيس قيس سعيد وإزاحة الحكومة والبرلمان. استغل المخرج ناثان بعض الاحتجاجات الشعبية التي كان جاريةً وصورها بوصفها جزءًا من الفيلم، محاولًا عدم خيانة الأشخاص الذين يروي قصتهم المأساوية.

لا أريد أن أحرق أحداث الفيلم بالنسبة للقارئ، ولا أن أكشف عن طبيعة النهاية، لكن محمد البوعزيزي حين أضرم النار في نفسه قبل أكثر من عقد، لم يكن في تلك اللحظة يعتقد أنه يلقي بجذوة الثورة في موقد العالم العربي المهجور، بل كانت أقصى أمانيه أن يتخلص من عبء ذلك الجسد المسجون في وطن كفَ منذ عقود عن أن يكون مصدر بهجة أو أمن أو كرامة. أي أنه لم يعتبر الموت هو الهزيمة، ولكنها الحياة. لكن في قلب ذلك اليأس، بزغت الثورة، حين لم يكن أحد ينتظرها. كنا جيلًا محظوظًا في تلك اللحظة، وعلى قدر ذلك الحظ جاءت الخيبة باردةً كالموت. بين محمد البوعزيزي وعليّ عشر سنوات من الخيبة، ولدت صغيرةً ثم كبرت تحت أعيننا. كم من الرفاق ماتوا كمدًا؟ كم من الشباب ذهب أدراج الأحلام؟ كم من اللصوص عاد إلى السلطة شامتًا؟ ذلك العالم الذي تصورناه منسجمًا تشارف فوضاه على الاكتمال ويستدير الزمان كهيئته الأولى، لا فقط في منع حق الحياة بكرامة، بل في منع حق الكلام عن الكرامة أيضًا.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية