فيلم «Tenet»: أبطال فارغون وأشرار مملون

الثلاثاء 17 آب 2021
ملصق فيلم «Tenet» على مجلة «Total Film».

صدر في أيلول الماضي أحدث فيلم للمخرج البريطاني-الأمريكي كريستوفر نولان. ونولان، لمن لا يعرفه، أحد أهم المخرجين في ساحة السينما الأنجلو-أمريكية. منذ أن استلم فيلم «تذكار» (Memento)، وهو مشروعه الإبداعي الكبير الأول، أثبت قدرته على إخراج الصورة باحترافية وأناقة، وكتابة سيناريوهات مثيرة للاهتمام وفريدة من نوعها، كما أثبت قدرته على أن يصبح صانع أفلام رؤيوي يفكر خارج الصندوق. أتذكر جيدًا عندما نزل إعلان فيلم «دونكيرك» (Dunkirk) في صيف عام 2016. عرض الفيديو صورة جنود يقفون على مرفأ مترقبين شيئًا ما. حينها علق قريب لي: «سأشاهد لكريستوفر نولان أي شيء، حتى لو تم الإعلان عنه بملصق دعائي أسود ليس عليه سوى اسمه بالأبيض».

لهذا، كان من الطبيعي ارتفاع التوقعات قبل أن يصدر فيلمه الأخير «تينيت» (Tenet). وكان ينتظر من هذا الفيلم أن «ينقذ صناعة السينما من جائحة كورونا». إلا أن الفيلم صدر في دور العرض بداية الخريف، وعلى المنصات الإلكترونية في نهايته، وكانت النتيجة النهائية مخيبة للآمال. لم يكن عملًا غير قادر على منافسة أعماله السابقة فحسب، بل كان ببساطة فيلمًا سيئًا، وأضعف عمل قدمه المخرج منذ أن بدأ مسيرته.

لم يكن من السهل كتابة هذه المراجعة، لكوني غير قادر على تلخيص ماهية قصة الفيلم بالضبط، وهو ما حصل مع كثير من المشاهدين. فقصة الفيلم تسرد بطريقة متتابعة وسريعة ومربكة، من خلال مجموعة من المهام والعمليات التي تتولاها الشخصية الرئيسية، بطريقة تحرف انتباه المشاهد عن الحدث الرئيسي للقصة. لذلك، سأضطر لغايات هذه المراجعة، إلى حرق أحداث أساسية لمن لم يشاهد الفيلم، حيث سأحاول شرح القصة بطريقة مقلوبة، أي من وجهة نظر الشرير أو الخصم الأساسي في القصة، خاصة وأنه سيكون محور هذا المقال.

في مدينة بحوث علمية سرية في روسيا، يجد العامل الروسي «أندريه سايتور» كبسولة وقت مدفونة تحت الأرض، لا تحتوي هذه الكبسولة شيئًا من الماضي، بل من المستقبل، حيث تم اكتشاف تكنولوجيا فيزيائية تعمل على عكس الإنتروبيا (القصور الحراري) للأشياء والأشخاص، لتعود إلى الخلف في الزمن بدل أن تتجه إلى الأمام. يقتل «سايتور» زميله الذي عثر معه على الكبسولة، ويستخدم هذه التكنولوجيا وقدرته على التواصل مع حلفائه في المستقبل لكي يصبح ثريًا أوليغارشيًا، وينفذ خطة موضوعة من قبلهم لإعادة العالم إلى الوراء، أي إنهائه بطريقة معكوسة، (وذلك لدوافع وأهداف غامضة تتعلق بمعاقبة أهل الماضي على كوارث التغير المناخي ومحو آثارها). وهنا، يتعين على بطل القصة، وهو أمريكي كان يعمل مع وكالة الاستخبارات المركزية وبات يعمل مع منظمة سرية تدعى «Tenet»، إيقاف مخططات «سايتور».

لم يتمكن نولان من حماية فنه من انخفاض جودته، بل عجز أيضًا عن حماية رؤيته الفنية المستقلة من تأثيرات الثقافة السياسية والاجتماعية السامة التي يعيش فيها.

إن كانت هذه الحبكة تبدو مثيرة للاهتمام، فهذا لا يعني أن المخرج قد نجح في عرضها للمشاهد بوضوح. في هذا العمل، يقوم «مُستجد الخيال العلمي»[1] على فكرة إيجاد نسخة أقرب إلى الواقع من السفر عبر الزمن، حيث تتحرك الأشياء والأشخاص إلى الوراء بذات السرعة التي يتحركون فيها إلى الأمام، وهذا بعكس الأفلام التقليدية للسفر عبر الزمن، حيث تتنقل الشخصيات بسلاسة وسهولة عبر مئات وآلاف السنين، نحو الماضي والمستقبل، وذلك دون شرح علمي مقنع.

ربما كانت لتصلح مثل هذه الفكرة الإبداعية من أجل فيلم مستقل صغير الطاقم والميزانية، ولكن عند محاولة المخرج تطبيقها على فيلم ضخم وصاخب مثل «تينيت» فإننا نجد أنه قد فشل في عرضها بشكل سلس وذكي على الشاشة. على سبيل المثال، لاحظتُ أن فكرة إطلاق النار المعكوس (خروج الرصاصة من المكان الذي أطلقت عليه وعودتها إلى السلاح الذي أطلقت منه) جميلة ولافتة في المشاهد الصغيرة والبسيطة في الفيلم، لكنها فوضوية ومربكة وغير مبررة سرديًا في مشاهد الحركة الضخمة والحربية. 

المعضلة الثانية في الفيلم تتمثل في بطل الفيلم، أو الشخصية الرئيسية، والتي تدعى «الشخصية الرئيسية» فحسب (The Protagonist). هذه الشخصية موجودة في الفيلم فقط من أجل أن تكون موجودة، ولتنفيذ الخطط المعطاة لها، ليس لها قصة أو دوافع شخصية أو تطور سردي، أو أي درس تتعلمه في نهاية القصة، ليس لها عيوب أو مخاوف أو رغبات ترتبط بشكل محوري بقصة الفيلم. وهنا، من الغريب أن يقدم المخرج للمرة الأولى شخصية رئيسية ذات أصول إفريقية، ويحرمها في ذات الوقت من امتلاك اسم أو تاريخ أو سمات مميزة أو حتى فكر مستقل.

كيف لا تكتب عدوًّا؟

مع أن العديد من الصفحات النقدية قد أشارت إلى المعضلة الأولى المتعلقة بفكرة الخيال العلمي المستجدة، والمعضلة الثانية المتعلقة بالشخصية الرئيسية، إلا أنه قد ندر الحديث عن إشكالية أساسية في الفيلم، وهي الشرير (The Antagonist)، أي العدو أو الخصم. «أندريه سايتور»، ببساطة، شخصية بغيضة، ولا أقصد هنا امتلاكه صفات بغيضة فحسب، فهذا معهود وطبيعي حتى في أفلام نولان السابقة، بل أقصد أيضًا أن من البغيض مشاهدة الشخصية على الشاشة. ليس لـ«سايتور» أي حضور أو كاريزما، هو رجل قاسٍ ونرجسي بطريقة منفرة، يحتضر بسبب الإشعاعات التي تعرض لها في حياته المبكرة، وعلى هذا الأساس، إن كان سيموت فعلى العالم أن يموت معه. يسيطر على حياة زوجته «البريطانية البريئة الشقراء» التي لا تطيقه ولا تبذل جهدًا في إخفاء ذلك، ومع ذلك، لا يمتلك أي ذرة من النضوج العاطفي أو الكرامة لكي يتركها تذهب في طريقها، بل يضطهدها ويمارس عنفًا ساديًا عليها. 

الأسوأ من ذلك كله، وبالعودة إلى الماضي عدة سنوات، سنجد أن الممثل البريطاني «كينيث برانا»، الذي قام بدور «سايتور»، قام بتأدية دور «فيكتور شيريفين» رجل استخبارات وأعمال أوليغارشي روسي نرجسي وقاسٍ وبغيض في فيلم «جاك ريان: الشبح المجند» (Jack Ryan: Shadow Recruit). هذا يعني أن كريستوفر نولان لم يكلف نفسه حتى عناء البحث عن ممثل لم يقم بهذا الدور من قبل، بل قام بإعادة تدوير شخصية «سايتور» من شخصية مطابقة من فيلم آخر.

إذن، هذا ليس شريرًا «نولانيًا». ما يفاجئني في هذا الفيلم أنها قد تكون المرة الأولى التي لا يريدنا فيها نولان أن نستثمر فكريًا وفلسفيًا في استكشاف العدو، بل يريدنا أن نكرهه بلا عقل، على نحو يذكرنا بوباء كراهية «جولدستاين» في رواية «1984». وإذا كانت مشكلة بطل الفيلم، لدى نهاية الحبكة، أنه لا يتعلم ما هو جديد، فإن مشكلة الشرير الأساسية أنه لا يعلمنا ما هو جديد. المستغرب في الموضوع أن هذا كله أتى من مخرج رؤيوي، غالبًا ما برع في تصميم الأشرار أو المنافسين أو التحديات الأساسية في القصص التي يرويها، لأنه يجعل تلك العناصر مرتبطة بذات وعقل وهوية الشخصية الرئيسية (وذاتنا وعقلنا وهويتنا كذلك).

قد تكون هذه هي المرة الأولى التي لا يريدنا فيها نولان أن نستثمر فكريًا وفلسفيًا في استكشاف العدو، بل أن نكرهه بلا عقل.

يحكي نولان في فيلم الغموض «تذكار» قصة محقق خاص يعاني من حالة نادرة من فقدان الذاكرة، بحيث لا يتذكر الأمور التي حدثت للتو، ويحتاج إلى تسجيل وكتابة الحاضر من أجل ألا ينساه في المستقبل القريب، هنا تصبح الذاكرة الخائنة هي العدو، لأنها تمنعنا من التفريق بين الحقيقة والكذب والصديق والعدو. أما فيلم «العظمة» (The Prestige) فيتحدث عن قصة لاعبي خفة متنافسين مهووسين بالفوز على بعضهما، بحيث يصبح هوس المبدع والفنان بالفوز والانتصار عدوًا أساسيًا يؤدي إلى قتله، أو قتل جزء من ذاته وهويته.

أما في فيلم «فارس الظلام» (The Dark Knight) فقد صنع نولان إحدى أفضل الشخصيات الشريرة في تاريخ السينما: «الجوكر»، عميل الفوضى ومجندها وبيْدقها الوفي، الذي جاء كتحدٍ شديد الحماسة، وردة فعل على محاولة فارس الظلام تطبيق النظام بأي ثمن في صراع قد لا يكون أي أحد فيه محق، صراع في دواخلنا بين الرغبة السلطوية في الأمن والرغبة في جنون الثورة.

أما فيلم «بداية» (Inception)، فهو في بنية قصته الفوقية يعود إلى ثيمة المنافسة، ولكن هذه المرة بين الرأسمالية العائلية التقليدية المحافظة والرأسمالية المعولمة الشرسة، في عالم دستوبي واقعيّ، يصبح فيه العقل ميدان التنافس، وهو في بنية قصته التحتية يجعل «الفكرة» سلاحًا معديًا يلوث العقل، وينتشر فيه ويجعلها كذلك عدوًا أساسيًا يمنعنا من التفريق بين الواقع والحلم. وتصبح الفكرة في شاكلتها الأكثر شراسة صدمة تفترسنا، وتسحبنا إلى ماضينا المظلم وإلى أسوأ حالاتنا.

أما فيلم «دونكيرك» فيجعل من القصة الحقيقية لإخلاء 400 ألف جندي من القوات البريطانية من شاطيء شمال فرنسا فرصة لاستكشاف «رعب الحرب» كعدو أساسي، بدل استكشاف «فظائع الحرب» كما هو معهود عليه في أفلام الحرب العالمية الثانية، بحيث لا يظهر النازيون كأعداء أمام الكاميرا معظم الفيلم، بل يظهر الموت والتهديد به والخوف منه.

الروس قادمون!

يتحدث مشهد كامل في فيلم «تينيت» عن الكيفية التي استحوذ فيها «أندريه سايتور» على نفوذ عميق داخل المؤسسة السياسية البريطانية. لم يكن اختيار الجنسية الروسية لشخصية «سايتور» عرضيًا، بل جاء في سياق اجتماعي وسياسي محدد، يتعلق بالتوترات بين الغرب وروسيا، وادّعاءات تتعلق بالتدخل الروسي في «الديمقراطيات» الغربية. وبالعودة إلى شخصية «فيكتور شيريفين» في فيلم «جاك ريان: الشبح المجند»، سنجد أنها كذلك صممت وكتبت في السياق المسيّس ذاته، قبل أن يعاد تدويرها لاحقًا. في ذاك الفيلم، يخطط رجل الأعمال والاستخبارات الروسي، من خلال جواسيس مختبئين في المجتمع المهاجر الروسي، لتنفيذ هجوم على السوق المالي في نيويورك، من أجل تعريض الولايات المتحدة للإفلاس. (يصل الأمر لتحويل الكنائس الأرثوذوكسية الروسية في أمريكا إلى أوكار جواسيس، تمامًا كما تم تحويل المساجد إلى أوكار للإرهابيين العرب والمسلمين في العديد من الإنتاجات الأمريكية المشابهة).

يبدو أن المخرج الرؤيوي قد ضعفت رؤيته هذه المرة، إلى درجة انتقاله من العملية الفردانية القائمة على الإبداع الفكري والفني في «كتابة وتصميم العدو»، إلى عملية التفكير الجماعي القائمة على المشاركة عن قصد وغير قصد مع أوساط السياسة والاستخبارات والإعلام والثقافة والفن في «صناعة العدو».

لقد عاد «الشرير المتخيل الروسي» إلى واجهة الثقافة والسياسة الغربية والأمريكية قبل أكثر من عقد تقريبًا، بعد تراجع الآثار النفسية والثقافية الأولية على المجتمع الغربي، نتيجة هجمات 11 أيلول والحروب الأمريكية اللاحقة، وصولًا إلى اغتيال أسامة بن لادن، وبعد ظهور عدد من نقاط التماس والتوتر بين الغرب وروسيا. وتبلورت صورة «العدو» الروسي تلك بالأخص بعد انتخاب دونالد ترامب رئيسًا للولايات المتحدة، حيث تبنى الحزب الديمقراطي سردية «التدخل الروسي» في الانتخابات للحفاظ على حالة إنكار خسارة معركتهم الانتخابية أمام مقدم برنامج مسابقات. أما مشاهير هوليود فقد شاركوا في هذا التدليس وتلك الهستيريا الماكارثية، بحجة محاربة «ترامب» الذي جاء من وسطهم.

نعم، هنالك عدة نقاط تماس حقيقية بين الغرب وروسيا، مثل مسألة ضم القرم في أوكرانيا، ومسألة التدخل في سوريا، ومسألة محاولة الاغتيال بالمواد السامة في سالزبوري وأمسبوري في المملكة المتحدة. إلا أن عملية صناعة العدو الروسي وتعظيمه في الولايات المتحدة تبدو هستيرية ودرامية وركيكة وسخيفة، حتى بالمقارنة مع صناعة العدو العربي والإسلامي من قِبل جورج بوش والمحافظين الجدد قبيل اجتياح العراق. بدأ أقطاب الإعلام والسياسة من جهة وأقطاب الأفلام والفن من جهة أخرى يتأثرون ويؤثّرون على بعضهم البعض بشأن روسيا (والأعداء المتخيلين الآخرين)، بطريقة أحدثت ضررًا بحق الخيال الأدبي والحقيقة الصحفية في ذات الوقت.[2]

يبدو أن كريستوفر نولان، ومنتجي الفيلم الذين دفعوا فاتورة باهظة، ونحن الذين انتظرنا الفيلم بفارغ الصبر، قد وقعنا جميعًا في فخ قداسة المخرج الرؤيوي وترفعه عن الخطأ. إذ لم يتمكن نولان من حماية فنه من انخفاض جودته، بل عجز أيضًا عن حماية رؤيته الفنية المستقلة من تأثيرات الثقافة السياسية والاجتماعية السامة التي يعيش فيها.

  • الهوامش

    [1] المُستجد في الخيال العلمي، أو ما يدعوه الأكاديمي اليوغوسلافي دراكو سوفين «Novum» هي التطورات والإبداعات العلمية والتكنولوجية الغرائبية الأصيلة التي يرتكز عليها السرد في أدب الخيال العلمي. 

    [2] للمزيد من الأمثلة على تلك الدعاية؛ قال كيث أولبرمان، الإعلامي في مجلة «جي كيو»، بعد الانتخابات الرئاسية عام 2016: «نحن في حرب مع روسيا، وبالأحرى خسرنا حربًا مع روسيا من دون معركة، نحن لم نعد أمة مستقلة، لم نعد ديمقراطية، لم نعد شعبًا حرًا، نحن ضحايا انقلاب غير دموي -حتى الآن- هندسته روسيا (..) القيادة العسكرية لهذه الأمة ستعطى إلى حثالة! [ترامب]، روسي حثالة!». أما الأعلامية رايتشل ماداو في «MSNBC» فقد قدمت تقريرها وكأنها تقدم قصة فيلم خيالي «إنها 50 درجة تحت الصفر في ولايات داكوتا، ماذا سيحدث لو قطعت روسيا الكهرباء؟ ماذا ستفعل لو فقدت التدفئة على نحو غير مؤقت بفعل قوة أجنبية في ذات اليوم الذي أصبح فيه الجو مشابهًا لجو أنتاركتيكا؟ ماذا ستفعل أنت وعائلتك؟». 

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية