«في مديح الكسل»: ماذا يقول برتراند راسل عن عالمنا اليوم؟

الإثنين 14 أيلول 2020
مديح الكسل
تصميم ندى جفّال.

لم يدم وهم «المساواة» في المرض طويلًا؛ فبعد أن أثارت إصابات السياسيين بفيروس كورونا المستجد والتخبط العالمي بدايات انتشار الفيروس الوهم بأن الجميع أمام المأزق ذاته، أثبتت الآثار الناجمة عن الجائحة، والمتمثلة في الضرر الاقتصادي والتفاوت في مستويات الرعاية الصحية، أن الجائحة كغيرها من الكوارث، تلقي بأسوأ آثارها على الشرائح المهمشة اقتصاديًا واجتماعيًا.

لا تكتسب النقطة السابقة أهميتها من اليوم بالضرورة، كونها تعبر عن شيءٍ من التكرار المرتبط بحركة التاريخ، إلا أن الرهان عليها يكمن في المستقبل، في عالم ما بعد كوفيد-19، وإذا ما كان سيبنى بالاعتماد على دروسٍ متعلّمة، أم أنه سيكمل ضجيجه السابق بعد فترة التوقف هذه.

هذا المقال ومقالات أخرى متاحة للاستماع عبر صفحات صوت.

والواقع أن بعض هذه الدروس لا تعود إلى فترة قريبة من الزمن، بل إلى عقود طويلة مضت وبضع نكسات اقتصادية، كما في مقالة الفيلسوف البريطاني برتراند راسل «في مديح الكسل»، التي كتبها عام 1932 عندما كانت بريطانيا ضحية الكساد الكبير، والتي تثبت لأسباب عديدة أنها ملائمة ليومنا هذا، ولمشكلة الوقت الذي بتنا نجد نفسنا أمام فائضٍ منه بعد حياةٍ من التأقلم مع الإنهاك ونظام العمل الطويل.

الحرب ضد الفضيلة

تدور فكرة مقال راسل حول فكرة بسيطة مفادها أن ضررًا جسيمًا يلحق بعالمنا تحت مسمى فضيلة العمل، ويسعى خلال المقال لشرح هذه الفكرة ودعم تقليص ساعات العمل إلى أربع ساعات يوميًا، مبتدئًا بتفحص مغالطةٍ قديمة تربط بين اللذة والخطيئة، فالشيطان وفقها لا يقرب الأيادي المشغولة ويتسلل إلى ذواتنا عندما نستريح أو نحظى بأي متعة لا تشبه شقاء العمل.

يشرح راسل بعدها أنواع العمل، مقسمًا إياه -عبر أسلوبه الذي لا يخلو من المرح- إلى نوعين مبدئيًا؛ يعتمد أولهما على تحريك المادة المحسوسة أو تغيير طبيعتها، وهو نوعٌ منهك قليل المردود، وآخر يعتمد على توجيه عمال الصنف الأول وأمرهم، لينقسم بعدها إلى مستشارين للآمرين ومستشاري المستشارين وغيرهم، وهم عناصر البنية الفوقية من سياسيين أو قادة أو رجال دين، الذين لا يعجب راسل كسلهم بطبيعة الحال.

ولكي يحلل راسل هؤلاء يربط بين تراكم الثروة والراحة، فعندما يعمل الإنسان، منتجًا السلع أو الخدمات، ويحصل على مقابل لعمله يجب أن يكون أمام مفترق طرقٍ نظريًا، يتوقف عنده عن العمل حين يصل إلى حاجته ويبدأ بالراحة، أو يزيد من عمله واستهلاكه معًا. أما عمليًا، فإن الكهنة والمحاربين، كما يحددهم راسل، يحصلون على حصتهم من قوت العامل، ليكون عملهم الوحيد في الحقيقة حض العامل على مزيدٍ من الجهد. ومع تطور وسائل الإنتاج، فإن مراكمة الثروة وطبيعة ملكية هذه الوسائل يوديان بنا إلى مختلف الاحتمالات، كإنتاج الفوائض عما نحتاجه حقًا والتضخم والكساد الاقتصادي.

وبينما يصعب تصوّر عالم لا يعمل فيه أحد، يمكن تصوّر آخرٍ أكثر عدالة، حيث لا يعمل المحظوظون غير العاطلين عن العمل لساعات طويلة وإضافية، بينما يبقى الآخرون -الأقل حظًا- بلا عملٍ بوصفهم جيشًا احتياطيًا، يسمح لأصحاب رؤوس الأموال بالضغط لتخفيض الأجور وتهديد العاملين. ووفقًا لهذه المقاربة، فإن «الكسل» لن يصبح ضارًا إلا بحالاتٍ معينة، يخص بها راسل المراكمين ذاتهم والوَرَثة وطبقة الملّاك الذين يعتاشون من تأجير مساحات من الأرض، والذين يشتركون جميعًا بطريقة جمع الثروة والراحة التي تعتمد على استغلال عمل الآخرين وفائض قيمته.

وتقوم بروباغاندا فضيلة العمل -بوصفها مفرزًا طبيعيًا للطبقة السابقة- على تصورات عن نبالة لقمة العيش المغموسة بالعرق والعمل المجهد الشريف، ويشرح راسل ذلك عبر مقارنةٍ ذكية بين هذا التصوّر الذي يبنيه الأغنياء عن الفقراء وذاك الذي يتبناه الرجل ويحصر المرأة بهالة قدسية مفترضة، تمدحها في الظاهر وتعيقها حقيقةً بحجة صون هذه الهالة التي تفسدها القوة ومجمل الممارسات التي يحتكرها الرجال.

وتشترك المقاربتان بالآلية المعقدة لممارسة العنف، والأهم تكريسه، عبر بناء تصورٍ راسخ لدى الضحايا أيضًا، كما يقول الفيلسوف الإنكليزي صراحةً حين يؤكد أن المعتادين على العمل لساعات طويلة لن يجدوا في الاسترخاء إلا عذابًا أو عرضًا ملازمًا للبطالة، إذا ما توقفوا فجأةً عن ممارسته.

مأساة اليوم

وفي الحقيقة فإن النقطة السابقة تثبت قيمتها اليوم، في عصر الاستراحة الكبرى القسرية الذي نعيشه. فبعد أن باتت شرائح كبيرة من العاملين أو الموظفين مضطرة لملازمة المنزل، سواء للعمل منه أو بسبب توقف أعمالها، وجد كثيرون منهم أنفسهم أمام عذابٍ يشبه ذاك الذي تحدث عنه راسل إلى حدٍ ما. ولكي نفهم هذه الظاهرة حقًا علينا العودة خطوة إلى الوراء، إلى عالمنا القديم.

لا يخفى على أي باحثٍ متمرسٍ عن وظيفة في عصرنا هذا حزمة النصائح والمراجع التي يجب عليه المرور بها، والتي تحل أحيانًا مكان مواعظ الكهنة، وإن اختلفت بالتسميات وجاءت من منصات تعليمية أو خبراء «موارد بشرية». وفي الحقيقة فإن التحليل النصي لهذه المواعظ يصل بنا إلى النقطة ذاتها، إذ على الموظف أن يسلّم عنقه قبل أن يباشر عمله حتى، وأن يبدي منذ لحظة تسليمه السيرة الذاتية ورسالة الدافع صفات كالمرونة والعمل تحت الضغط، وهي بكلمات أكثر وضوحًا قابلية للعمل ساعاتٍ إضافية دائمًا، ودون إزعاج يذكر حول المقابل المادي.

نحن ندين للراحة بالكثير من الإنجازات التي حققتها البشرية، والتي لم تكن لتحدث دون فسحة من الوقت.

أكثر من ذلك، عملت دور عبادة العمل المعاصرة على ترسيخ ثقافة الإجهاد هذه بطرقٍ أخرى كإظهار فرص التدريب غير المأجورة بوصفها خطوةً ضرورية لتسلّق السلم، رغم كونها خيارًا إقصائيًا لمن يحتاجون بكل بساطة مقابلًا ماديًا لعملهم، أو عبر تسليط الضوء على سردية ريادي الأعمال الذي يبدأ من الصفر ويبني إمبراطوريته، ويعج عالمنا اليوم بأمثلة واضحة عن هؤلاء في قطاع التقانة خصيصًا، وقد يكون أبرزهم الأمريكي إيلون ماسك ونظام عمله المرهق، الذي يستلزم الإيمان به درجةً متطرفة من الداروينية الاجتماعية التي لا بقاء فيها للنوع المكتفي بمجرد العمل 40 ساعة أسبوعيًا.

عودةً إلى اليوم، عملت الجهات ذاتها منذ بداية فرض الحجر المنزلي منتصف شهر آذار الماضي على نزع أي ملمح للاسترخاء من هذه الفترة العصيبة، وحوصرنا مرة أخرى بخطابٍ عن فوائد الحجر المنزلي لتنمية الذات وتطوير المهارات الضرورية لسوق العمل تحديدًا، ما جعل الكثيرين أمام تصورٍ غير واقعي عن طبيعة هذه الفترة وما جرى خلالها بالفعل، رغم أن هذه الجهات تتوجه إلى جيل الألفية الذي بات الإنهاك إحدى السمات التي تعرّفه.

يقدم ما سبق إجابةً جزئية عن عدم قدرتنا على التعامل مع فائض الوقت هذا كهديةٍ مفاجئة حصلنا عليها، ولا شك أن جزءًا آخر من الإجابة يكمن في ظروف هذه الإجازة، باعتبارها ناتجًا لوباءٍ عالمي كارثي يغيّر شكل حياتنا وتفاعلنا مع الآخر. إلا أن جزءًا آخر شديد الأهمية يكمن في شكل الاقتصاد في المستقبل. فمع تضرر كثير من الأعمال والإعلانات المستمرة عن تخفيض الميزانيات، يخاف كثيرون أن الأعمال التي خسروها قد لا تعود أبدًا ويتساءل آخرون كل يوم عن مستقبل مسيرتهم وأعمالهم، وإن كان عمال المياومة هم الأكثر تضررًا من هذا الحال، فهذا لا يمنع تشاركهم هذه المخاوف مع الموظفين والفنانين وغيرهم.

السؤال عن المستقبل

يوضح راسل في مقاله بأن مسيرة التقدم التكنولوجي ستوفر لنا المزيد من الراحة وتقلل الوقت اللازم لإنجاز الكثير من الأعمال. وفي الواقع فإن الاقتصادي الإنكليزي جون مينارد كينز يشاركه رؤية شبيهة، إذ تنبأ في مقالته «الإمكانيات الاقتصادية لأحفادنا» والمنشورة عام 1930، أننا في المستقبل سنتمكن من الوصول إلى مستوى معيشة جيد بالعمل لـ15 ساعة أسبوعيًا بعد مئة عام. حقيقةً، لم يتغير الكثير مع اقتراب حلول الميعاد الذي افترضه كينز، واقتصر الأمر على تحركات فردية، كتقليص السويد ساعات العمل لست ساعات يوميًا واتجاه بعض الشركات نحو تقليص عدد ساعات العمل لانعكاس الأمر إيجابيًا على الجانب الإنتاجي.

إن هذه «الهوة»، كما يصفها سمير أمين في مقدمة كتابه «الاقتصاد السياسي للتنمية في القرنين العشرين والواحد والعشرين»، بين تطوير الرأسمالية للقوى المنتجة وبين الاستخدام الفعلي لنتائجها هي التي تفسر عدم تحقق هذه الرؤى الإيجابية للمستقبل،[1] وتحوّل التكنولوجيا إلى بعبعٍ يهدد جميع العاملين (بمن فيهم الصحفيون اليوم) ويجعل من استغلالهم أمرًا أيسر أحيانًا، كما سيؤكد ذلك العاملون من المنازل اليوم الذين تحوّل تجاوزهم ساعات العمل الاعتيادية إلى أمرٍ طبيعي.

إن كل هذا يؤكد أن الإجابة لا تكمن فقط في التقدم التكنولوجي رغم الأهمية التي يقدمها، وهو أمرٌ لم يخف على راسل وأقرانه. إذ إن البحث عن شروط عملٍ أفضل لن يكون نتيجة بحثٍ مطول في أقسام الموارد البشرية في الشركات الكبرى، ولن يقوم إلا عبر حركة قوامها العدالة الاقتصادية والتنمية المستدامة.

وفي هذا الشأن، قد نغفل أهمية الأخبار والأرقام التي عنيت بانخفاض نسب التلوث أثناء فترة الحجر حول العالم، إلا أن مسيرة التقدم المنهكة هذه لا تنحصر أضرارها بالمناخ أو التلوث وحسب، بل بالأوبئة والجوائح التي يشير العلم بوضوح إلى توقع المزيد منها إذا ما استمرت هذه السيرورة على ما هي عليه، لتكون الحضارة العاجزة عن الاستراحة، أو التوزيع العادل لها، جديرةً بالإدانة كما يقول راسل.

وبينما ترتبط مفردة «الاسترخاء» بساعات فرجة متعاظمة على نتفلكس أو غيرها اليوم، فإنها لا تنحصر بهذه البساطة. فنحن ندين للراحة، كما يقول راسل، بالكثير من الإنجازات التي حققتها البشرية، والتي لم تكن لتحدث دون فسحة من الوقت، لتشمل الاستراحة الحقيقية بذلك الفرجة واللعب والحرية للتأمل والتفكير، بعيدًا عن العمل بمعنى «متطلب السوق» الذي بات اليوم يهدد التعليم بحد ذاته، ويقيّم التخصصات الأكاديمية بحسب الطلب والمرتب، كما تدلنا على ذلك النكت المطلقة حول دراسة العلوم الإنسانية والفنون من جهة، والأسئلة المثارة دائمًا حول صعوبة دخول أبناء الطبقات العاملة للوسط الفني من جهة أخرى. أي أن تغيير الطريقة التي نقضي خلالها الشق «الجدي» من حيواتنا، سيغير بالضرورة الشق الآخر، لارتباطهما العضوي، ما يفسح المجال أمام مزيد من الاهتمام بالصحة النفسية والمجالات التي سنمارسها سعيًا وراء السعادة.

  • الهوامش
    [1] سمير أمين، الاقتصاد السياسي للتنمية في القرنين العشرين والواحد والعشرين.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية