خلف الملاعب: أفلام عن جمر كرة القدم ورمادها

الأحد 27 تشرين الثاني 2022
أفلام كرة القدم
تصميم محمد شحادة.

بين كرة القدم والسينما وشائج قوية. أقواها الأساس المشترك للنداء الجمالي القوي الذي يمارسانه على الجمهور. وعلى نحو أكثر وضوحًا وبساطةً: الانبهار الذي يثيره مشهد الحركة سواء داخل الشاشة الكبيرة أو على أرض الملعب المستطيل. إلى ذلك فهما يحظيان بشعبية في جميع أنحاء العالم من خلال حقيقة أنهما يتحدثان «لغة كونية». ذلك أن المشهد الرياضي والسينما، الصامتين في بداياتهما، لا يتعين عليهما التغلب على العقبة اللغوية، بل يقفزان فوقها للوصول إلى الجماهير ذات الأصول المتنوعة. وهما يأتيان من جذور الازدراء نفسها. في بدايتهما، خلال الشطر الأخير من القرن التاسع عشر، كان على كرة القدم والسينما في أوروبا مواجهة ازدراء مؤيدي الثقافة النخبوية وأعمدتها، حيث رأوا فيهما مجرد «عروض عامة» تهدد المكان والحيّز الذي يشغله المسرح والجمباز والمبارزة. لكن الجماهير الشعبية رأت فيهما عكس ذلك، من خلال قدرتهما على منح الجماهير فرصة للهروب من رمادية الحياة اليومية، ووسيلة للتعبير عن إبداعهم الفكري والبدني. وثالثًا وهو الأهم، اكتشف الناس فيهما فرصة للصعود الاجتماعي وتحقيق القيمة والمكانة دون أن يكون الفرد الصاعد حصيلة مسار من إعادة الإنتاج الاجتماعي أو مستندًا إلى إرث اجتماعي وامتيازات طبقية.

منذ منتصف الستينيات، قدمت كرة القدم المتلفزة جوهر ما كان يمكن أن يكون قوة جذبها. أدى تطوّر البث التلفزيوني خلال العقود الأخيرة إلى رفع سقف التوقعات لدى الجمهور. ذلك أن تطور التقنيات في الصورة والصوت لنقل المباريات جعل من المستحيل على أي مخرج سينمائي أن يحاكي الصورة الحية للعب، لذلك نادرًا ما يكون التمثيل السينمائي للأحداث الرياضية مُرضِيًا. ولسدّ هذه الفجوة تتجه أغلب الأعمال السينمائية، إلى اللعب في هوامش الكرة لا في قلبها، أي في سرد حكايات أبطالها، لاعبين وجماهير، خلف الملاعب. فيما يركز اتجاه ثانٍ من المخرجين على الأعمال الوثائقية، التي ستفيد من الأرشيفات الحية للمباريات. 

هنا قائمة بخمسة أفلامٍ، الأساس المشترك بينها هو إعادة إنتاج قصص أبطال كرة القدم والمهتمين بها خارج الملاعب، أي أنها تلعب في ذلك المجال الغائب عن رؤيتنا ورؤية غُول البث التلفزيوني.

دييغو مارادونا: القليل من الغش والكثير من العبقرية (2019)

يصل المخرج البريطاني من أصول هندية، آصف كاباديا، إلى محطة مارادونا قادمًا من سنوات خبرة طويلة في الأفلام الوثائقية، بعد أن خطف أوسكار 2016، عن فئة الوثائقيات بفيلم عن حياة المغنية ايمي واينهاوس، وقبلها جائزة الأكاديمية البريطانية لأفضل فيلم وثائقي، عن فيلم «سينا» (2010) عن السيرة الذاتية لسائق السباقات البرازيلي أيرتون سينا. وكعادته في أسماء أفلامه يتجه نحو البساطة فيسميه «دييغو مارادونا» دون تعقيدات أو استعارات. لكن هذه البساطة لا تبدو حاضرةً دائمًا في هذا الوثائقي. ذلك أن كاباديا، وفي تتبعه لحياة مارادونا، كان يقلب المشاهد ذات اليمين وذات الشمال. بين صورة مارادونا العبقري ومارادونا الغشاش، كما في كأس العالم عام 1986. وبين صورة البطل الرياضي واللاعب المحطم الذي يغرق في مستنقع المنشطات والمخدرات. قام كاباديا ببناء فيلمه من 500 ساعة من اللقطات التي تم التقاطها من أرشيف مارادونا الشخصي وأرشيف المسابقات التي شارك فيها، وطريقته في تقطيع تلك اللقطات، ونسجها في نسيج فيديو ملحمي، يمنح الفيلم نقاء وحيويةً نادرين. 

على مدار الفيلم كان كاباديا يحاول نزع السحر عن «الطفل الذهبي» لكنه كلما قدم الوجه السلبي لهذا الطفل، يبدو السحر أكثر هالةً وقوةً. فالجانب الآخر من صورة البطل طاغٍ على نحو تغرق فيه كل السلبيات. جانب الطفل الفقير الذي كان يلعب في أوساط محرومة يترجمها الفيلم بلافتة تقول «مرحبًا بمرضى الكوليرا» رفعها مشجعو الفرق من المناطق الأكثر ثراءً في البلاد. أو مكالمته شديدة العطف مع والدته بعد أن هزمت الأرجنتين ألمانيا الغربية بنتيجة 3-2 في المباراة النهائية لكأس العالم 1986، التي أعاد كاباديا بثّ تسجيلها الصوتي بكل تلك اللثغة العذبة والحميمة وذلك الإخلاص للأم ومن خلالها للجذور الشعبية في الأحياء الفقيرة لبوينس آيرس. 

متلازمة كانتونا: Looking For Eric (2009)

إيريك بيشوب، رجل في منتصف العمر يعمل ساعيًا للبريد، ويشاهد كل يوم بحسرةٍ حياته العائلية تنهار من حوله. ومع ذلك فهو مشجع شديد الوفاء لفريق مانشستر يونايتد، ويحتفظ بملصق كبير لصورة بطل النادي إيريك كانتونا، وعندما لا يجد أحدًا يصغي إليه يتوجه إلى الصورة ليحدثها. لكن كانتونا يظهر لبيشوب في إحدى المرات منتصبًا على قامته داخل غرفته الصغيرة، ويشرع في الحديث معه حول مشاكله، وهنا يبدأ المخرج كين لوتش في سرد الحكاية ببطليْن: اللاعب والمشجع، لكأنه يردّ الاعتبار لذلك السديم الواسع من المشجعين، الذين يصنعون النجوم ولا يدري أحد عنهم وعن حيواتهم التي تنهار كل يوم من حولهم بسبب ما يتعرضون له من سحق اجتماعي وطبقي. يظل المخرج كين لوتش في فيلمه ملتزمًا بشدة بجذوره من ذوي القمصان الزرقاء، فهو ابن عائلة من الطبقة العاملة، ويبدو بارعًا في رواية قصص المحرومين والمضطهدين، وعينه على إيقاعات حياة الطبقة العاملة البريطانية. يفضل لوتش هذا النوع من الأشخاص الذي تتجاهله هوليوود إلى حد كبير، فيضيء لنا في أفلامه عوالم مضطربة من مدمني الكحول، والأمهات العازبات، وعمال البناء، بروح الدعابة والتعاطف.

وعلى هذا النحو يسير فيلم البحث عن إريك جامعًا بين روح الدعابة والتعاطف. لكن براعة لوتش تبدو أكثر وضوحًا في اختيار الممثل البطل، إذ لم يتجه نحو ممثلي السينما لإعادة بناء شخصية «الملك كانتونا»، بل جلب كانتونا شخصيًا إلى الشاشة الكبيرة، فجاء الفيلم حيًا وحقيقيًا إلى أبعد الحدود. من خلال هذا الخيار يخرج لوتش من معضلة المطابقة بين البطل الرياضي في الواقع وصورته في السينما، والتي يلخصها الروائي والسيناريست البريطاني، نيكولاس بيتر جون هورنبي بالقول إن «المعضلة الكبرى هي هل توظف لاعبين لا يستطيعون التمثيل أم ممثلين لا يستطيعون لعب كرة القدم؟». 

بطاقة حمراء في وجه الفيفا: (2022) FIFA Uncovered

وثائقي من أربع حلقات، أنتجته نتفليكس، يقوم أساسًا على عشرات المقابلات مع صحفيين ومسؤولين سابقين في الفيفا، إلى جانب معطيات قضائية بعد الغارة الأمنية على مقر الفيفا في زيورخ بتوجيه من مكتب التحقيقات الفيدرالي في عام 2015. ويقوم كذلك على بحث تاريخي واسع في تاريخ المنظمة غير الربحية، التي تحولت إلى مؤسسة تدر أرباحًا خيالية على أصحابها، بطرق مشروعة وغير مشروعة. يكشف الوثائقي من خلال مسار زمني لتاريخ الفيفا الوجه الخفي للمنظمة، والدور الذي لعبته في تبييض صورة الأنظمة العسكرية في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، في الأرجنتين وإسبانيا، من خلال منحهما حق تنظيم كأس العالم. وكيف تحولت منذ منتصف السبعينيات مع رئيسها الجديد حينذاك البرازيلي، جواو هافيلانج، إلى وسيلة لكسب العمولات والرشاوى، بعد أن عزز فريقه الحاكم بخليفته المستقبلي سيب بلاتر. يظهر بلاتر في الوثائقي على أنه صاحب رؤية ماكرة، والذي عند اكتشافه للطبيعة الفاسدة لرئيسه هافيلانج، يتطور إلى مفاوض ومبتزّ، مستفيدًا من قوة المعرفة التي يمتلكها لإخراج رئيسه من العمل وخلافته على عرش أقوى منظمة دولية. في عهد بلاتر ستشهد المنظم سنوات مجدها النيولبيرالي، ومأسسة الفساد داخلها وفقًا لقواعد وضعها بلاتر بنفسه -كما يكشف الفيلم- بمساعدة عدد من أعضاء اللجنة التنفيذية، على رأسهم رئيس اتحاد الكونكاكاف (اتحاد كرة القدم في أمريكا الشمالية والوسطى والكاريبي)، جاك وارنر، والذين حولوا التنافس على استضافة كأس العالم إلى مزاد علني.

تكمن قوة هذا الوثائقي في مستوى الأقدمية والشهرة لمن تمت مقابلتهم فيه. فهم الأشخاص الذين كانوا في الغرفة الداخلية للفيفا حرفيًا عندما حصلت وقائع الفساد. هؤلاء هم الشخصيات التي تعمل كنقاط محورية في الفيلم، بما في ذلك جاك وارنر. كما يبدو توقيت البثّ مصدر قوة ودعاية لهذا الفيلم، عشية كأس العالم، خاصة عندما تكون إحدى أهم القضايا المطروحة حوله هي كيفية إقامة كأس العالم في قطر. رغم أن الحلقات الأربع تدور حول أكثر من ذلك، حيث تمتد إلى عقود من الماضي لتكشف عن فترة ممتدة من الرشوة والفساد والتلاعب. 

الحَرّيف: «فيه ناس بتلعب كورة في الشارع» (1984)

فيلم عن كرة القدم، لكنه لا يتحدث عن الكرة الجلدية التي يعرفها كل العالم. بل عن كرة رثة تصنع من بقايا الخرق والأقمشة البالية والجوارب الممزقة. يجتمع فيه المخرج محمد خان بالكاتب والسيناريست بشير الديك، الذين يلتقط قصة واقعية حدثت في إحدى الأحياء الشعبية في القاهرة لشاب برع في لعب كرة القدم أو كرة الشراب كما يسميها المصريون، لكن براعته لا تسعفه ليكون نجمًا في إحدى فرق القاهرة، فيغرق في مشاكل الحياة العائلية والطبقية، وعلى هامش الوجع يمارس هوايته في سوق المراهنات الشعبية. 

دون يقين يبدو الحرّيف الفيلم الوحيد الذي لعب بطولته عادل إمام دون يكون فيه مشهد كوميدي واحد. لأن الحكاية قاتمة لدرجة لا تجد فيها ثقوبًا يمكن أن يتسلل منها الفرح، سوى فرح الأهداف التي يسجلها فارس (عادل إمام) بطل الفيلم في مرمى الخصم. تدور الأحداث في حارات شعبية دون استثناء وفي بيئات شديدة الفقر، بين مصنع الأحذية الذي يعمل فيه فارس وغرفة بائسة فوق السطح يسكنها ومقهى أكثر رثاثة يرتاده. وعلى العكس من القصص التي تصورها سينما أمريكا اللاتينية لأبطال الكرة، بوصفهم كائنات ذات براعة نجحت في اختراق الحاجز السميك للهامش نحو الشهرة والمجد، فإن فيلم محمد خان يكشف عن أن الحاجز في مصر وعالمنا العربي أكثر سماكة من أن تخترقه موهبة هنا أو أخرى هناك، لأن الموهبة ليست كافيةً وحدها لتخطي حواجز الفصل بين الهوامش ومراكزها.

نعيشها لنرويها: Pelé (2021)

يحكي الوثائقي، الذي أخرجه بن نيكولاس وديفيد تريهورن والمخرج التنفيذي كيفين ماكدونالد الحائز على جائزة الأوسكار، قصة الأسطورة البرازيلي بيليه، من فم الأسطورة مباشرةً دون وسائط. يجلس بيليه على كرسي بسيط في قاعة فسيحة فارغة ويروي عقود من الولع بكرة القدم والغوص فيها، لاعبًا ونجمًا وأسطورةً ومسؤولًا. وبالإضافة إلى المقابلة التاريخية معه، يتضمن الفيلم لقطات أرشيفية مذهلة ومقابلات مع زملائه السابقين بما في ذلك زاغالو وجيرزينيو وريفيلينو. يركز الفيلم على ألقاب كأس العالم الثلاثة التي حصل عليها المهاجم للبرازيل، وآخرها عندما كانت البلاد تحت حكم دكتاتورية عسكرية وحشية. في هذا الصدد، يقوم المخرجان بعمل جيد في تأريخ الشد والجذب بين الرياضة والسياسة.

يبدو لي أن النقطة الأكثر قوةً في هذا الوثائقي هي علاقة بيليه السلبية بالسياسة. حيث يظهر الفيلم السياق السياسي المضطرب في البرازيل في الستينيات، في أعقاب انقلاب عسكري دعمته الولايات المتحدة الأمريكية. لازم بيليه الصمت في ذلك الوقت، دون أن يوظف مكانته الاعتبارية لإدانة جرائم الانقلاب الوحشية. يبرّر موقفه في الفيلم في كونه لم يكن يومًا سياسيًا، لكن معاصريه من ضحايا الحكم العسكري، يعتبرونه مشارك في تبييض النظام السياسي من خلال كأس العالم 1970. يدعم ذلك حضور وزير سابق في النظام العسكري، أنطونيو ديلفيم نيتو، متحدثًا في الفيلم، وهو الوزير الذي وقع على قانون سيء السمعة لإضفاء طابع مؤسسي على التعذيب والرقابة، ملمحًا إلى أن نجاح المنتخب الوطني في ذلك الوقت أصبح جزءًا من الدعاية العسكرية.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية