قائمة كتب: أفضل ما قرأنا في 2021

قائمة كتب: أفضل ما قرأنا في 2021

الجمعة 24 كانون الأول 2021

 

مع نهاية هذا العام الذي كان امتداد الجائحة سمته الأبرز، نقدم لكم في هذه القائمة المتنوعة ترشيحات كتّاب وكاتبات حبر لبعض أفضل الكتب التي قرأوها، من الأدب إلى التاريخ ومن الفلسفة إلى الاقتصاد.

اضغط/ي على الغلاف أدناه للانتقال إلى نص الكتاب.


النسويّة للجميع: سياسة شغوفة

بيل هوكس، مطبعة كامبريدج، 2000

إبراهيم الشريف

في الأيام الماضية فاجأنا خبر وفاة بيل هوكس (1952–2021)، الكاتبة والمفكّرة النسويّة العبقريّة الثوريّة. أظنّ أنّ الخبر فاجأنا -محبّاتها ومحبّوها- لأنّنا كنّا نتخيّل أنها ستبقى، كنا ربّما نشعر ببعض الاطمئنان ونحن نعرف أنّها في العالم، العالم الذي غيّرته فعلًا بكتابتها وتنظيرها النسويّ التقاطعيّ المناهض للاضطهاد بكلّ أشكاله، العالم الذي كنّا نثق أنهّا مستعدةٌ للقتال من أجل حقوق كلّ المهمّشين والمستضعفين فيه. وتذكرتُ مع هذا الخبر المحزن أنّني عدتُ هذه السنة لكتابها «النسويّة للجميع».

في مقدمة كتابها «النسويّة للجميع» تقول هوكس إنّها تجيب بفخرٍ دائمًا على أسئلة الناس: «أنا كاتبة، وناقدة ثقافيّة، ومنظّرة نسويّة. لا يتعجّبُ السائلون والسائلات من الوصفين الأوّلين، يتحمسون لهما. أما الوصف الثالث، فمنه تبدأ المشكلة. كاتبة تكتب كتبًا، ناقدة ثقافيّة تُحلّل الأفلام والمسلسلات والرائج في الثقافة، أما المنظّرة النسويّة، ماذا تفعل؟ تكره الرجال؟ تدعو للمثليّة النسائيّة؟ تعارض طبيعة المرأة والشرائع السماويّة؟ وحين تشرح لهم هوكس النسويّة، يقولون: آه، أنتِ لستِ مثل بقيّة النسويّات إذن، لستِ نسويّة حقيقيّة غاضبة تكره الرجال وتريد تدمير العالم! تقول هوكس: «في كلّ مرّة وجدتُ فيها نفسي في موقفٍ كهذا، أردتُ أن يكون في يدي كتابٌ صغير حتى أستطيعَ أن أقول: اقرأوا هذا الكتاب وسيخبركم ما النسويّة وإلامَ يهدف حراكها. أريد أن أحمل في يدي كتابًا شاملًا، سهل القراءة والفهم، ليس كتابًا طويلًا، ليس كتابًا سميكًا ذا مصطلحات صعبة الفهم ولغة أكاديميّة، وإنّما كتابٌ مباشرٌ، صافٍ، سهل القراءة دون أن يكون مُبسّطًا. منذ اللحظة التي غيّر فيها حياتي التفكيرُ النسويّ وسياسته وتطبيقاته، أردتُ هذا الكتاب. أردتُ أن أعطيه للناس الذين أحبهم ليتمكّنوا من فهم هذه القضية على نحوٍ أفضل، هذه السياسة النسويّة التي أؤمن بها بعمقٍ شديد، والتي تشكّل أساس حياتي النسويّة»».

وهكذا صار لدينا كتاب «النسويّة للجميع». كتابٌ صغير، لكنّه ما ترك شيئًا من هموم النسويّة دون أن يتطرّق له. تاريخها، مراجعاتها، مشاكل تصويرها في الإعلام، ضرورة التقاطعيّة والاحتواء والتضامن، أهمّية اعتناق الرجال أيضًا للفكر النسويّ، أهمّية دور المثليّات النسويّات، الأهمّية الشديدة لدور التعليم و«الارتقاء بالوعي» وعدم حجب الفكر النسويّ وراء الأبواب الأكاديميّة (أحد أبرز مساهمات هوكس الفكريّة تحدّيها اللغة الأكاديميّة الغامضة وتشديدها على ضرورة توفير النتاج الفكريّ النسويّ لكلّ المستويات)، دور الحبّ، حبّ الحريّة وحبّ العدالة وحبّ الآخرين في القضية، وغير ذلك الكثير.

إن أردتُ أن أختار فكرةً واحدةً جوهريّةً من أفكار الكتاب، فلعلّي أختار نظرة هوكس وتنظيرها للنسويّة على أنّها ليست قضية النساء فحسب، لكنها قضيةٌ عالميّة. تعرّف هوكس النسويّة في كتابها على أنّها «حراكٌ يهدف إلى إنهاء التمييز الجنسيّ، والاستغلال على أساس التمييز الجنسيّ، والاضطهاد». لم ترتبط كلمة «الاضطهاد» بأي تخصيص جنسيّ، وهذا مبدأ هوكس العظيم: النسويّة قد تبدأ من رفع الاضطهاد عن النساء ولكنها تريد رفع الاضطهاد عن الجميع، النسويّة قد تهدف إلى انتزاع حقوق النساء، ولكنها تسعى لتحقيق ذلك بتدمير النُّظُم الأبويّة الرأسماليّة العنصريّة التي تقمع الجميع، نساءً ورجالًا، صغارًا وكبارًا.

لا يمكن اختصار عبقريّة هذا الكتاب في مساحةٍ صغيرة، ولا يمكن حتّى البدء في محاولة تلخيص عبقريّة بيل هوكس، ليس فقط في الفكر النسويّ بل في العالم، لكن لعلّ هذا الكتاب يكون مدخلًا لعالم هوكس، ومدخلًا للنسويّة، قضيتنا جميعًا.

الأشياء تتداعى

غينوا أتشيبي، ترجمة أحمد خليفة، مؤسسة الأبحاث العربية، 1996

إبراهيم الشريف

حين تكتسب بعض الكتب صفة «الكلاسيكيّة»، وتظهر في قوائم الكتب «الأهم» و«الأفضل» و«واجبة القراءة»، يعلق بها عبءٌ قد يجعلنا نتقاعس عن قراءتها، بل قد ينفرنا منها. أظن أن هذا الأمر يتضاعف حين تُكتسب هذه الصفة الكلاسيكيّة لأسباب سياسيّة إضافةً إلى تلك الفنّية، اشتراكيّة «الأمّ» لماكسيم غوركي، نسويّة «السيدة دالاوي» لفرجينيا وولف، ما بعد استعماريّة «موسم الهجرة إلى الشمال» للطيب الصالح، إلخ. أحد هذه الكتب بالنسبة لي، الكلاسيكيّة فنّيًا وسياسيًّا، هو رواية «الأشياء تتداعى» للكاتب النيجيريّ تشينوا أتشيبي.

منذ سنوات نسخة «الأشياء تتداعى» عندي في انتظار أن أقرأ هذه الرواية الإفريقيّة ما بعد الاستعماريّة المهمّة ثقافيًّا وسياسيًّا. هذه السنة أخرجتها في أحد الأيام من بين الكتب التي تجاورها، ثم غيّرت رأييّ وتركتها على حافة الرف. حدث أن قرأتُ مقالةً بعد ذلك بساعات مرّ فيها ذكر أتشيبي. علامةٌ كونيّة! بدأتُ قراءة الرواية (وتحوّل الأمر لمشروع كبير، الحديث عنه لشجونه موضع آخر!).

حين أغلقتُ الرواية بعد صفحتها الأخيرة (العظيمة!) قلتُ لزوجتي إنها روايةٌ تستحق مكانتها الشهيرة وسمعتها الرائجة. كنتُ أخشى أن تخيب توقعاتي، ولكن الخيبة الوحيدة كانت خيبة خشيتي! لغة أتشيبي جميلةٌ في بساطتها (تلك البساطة صعبة التحقيق)، كتب بإنجليزية المستعمر البريطاني ولكن بصوتٍ نيجيريّ. استخدم هيكل «الرواية الغربيّة» (مع التحفظ على هذا التصنيف) ولكن بسردٍ نيجيريٍّ يجعلنا لا نستحضر ديكنز أو أوستن ولكن نغرق في ثقافة شعب الإيبّو في إحدى قراهم في الشرق النيجيريّ: اهتمامهم بالقصص، اهتمامهم بالدراما المسرحيّة، واستخدامهم للأمثال والحِكم («زيت النخيل الذي تؤكل به الكلمات»، كما يقولون). تحليله النفسي للشخصيّات عميقٌ وواعٍ، أوكونكو شخصيّة أدبيّة بارعة. أما أحداث الرواية الدراميّة فهي تشدّنا وتفاجئنا تلك المفاجآت المنطقيّة جدًّا: يصدمنا حدثٌ ما وندرك فورًا أنّه كان حتميًّا. الرواية مُحكمةٌ فنيًّا، أما سياسيًّا، فكلّ ما يُقال ويكتب عنها من مدح تستحقه فعلًا.

لم يتحدث أتشيبي بصوت إفريقيا أو بصفته ممثلًا لها كلّها -أتشيبي أعقل من هذا بكثير- ولكنّه عبّر عن شيءٍ مشترك عند أهل إفريقيا (وأغلب الشعوب المستعمَرة): تحدّث بنفسه، دون أن ينوب عنه أحد. لم يُصوّر شخصيات الرواية وثقافتهم الإفريقيّة وقراهم بصورٍ نمطيّة استعماريّة، لم يتجاهل مشاكل المجتمع بل كتبها كما هي ولكن دون جلد ذات ودون تغافل عن واقع أن الأشياء -التي لم تكن مستقرّةً تمامًا- تداعت مع قدوم الاستعمار. استعادة صوت الراوي هذه شيءٌ كفيلٌ بأن يغيّر عالم الأدب إن لم يساهم في تغيير العالم كلّه.

يروي أتشيبي قصّة قاضٍ ألمانيٍّ بارز كان يعزم على السفر إلى إفريقيا للعمل مع سلطات حكومة جنوب إفريقيا البيضاء العنصريّة. إحدى صديقات القاضي أهدته رواية أتشيبي قبل رحيله. بعد أن أكملها، غيّر القاضي رأيه ولم يذهب إلى إفريقيا بحجّة أنه «لم ير إفريقيا على هذا النحو من قبل». يقول أتشيبي: «كيف حدث أن هذا القاضي الألماني البارز كان غافلًا عن واقع إفريقيا طيلة حياته؟ ألم يقرأ الجرائد أبدًا؟ لماذا احتاج لرواية إفريقيّة ليفتح عينيه؟ نظريتي الشخصيّة هي أنه احتاج لسماع إفريقيا تتحدث بنفسها بعد عمرٍ كاملٍ من سماع الآخرين يتحدثون عن إفريقيا». أتشيبي يقدّم هذه القصّة دليلًا يواجه به كلّ المشكّكين في جدوى الأدب وفي قدرته على أن يُغير وضعنا الاجتماعي والسياسيّ. «بالطبع يستطيع!» يقول أتشيبي، وأظن أن روايته البديعة هذه هي بالفعل دليلٌ ناصع على جدوى الأدب.

مسرح سعد الله ونوس: دراسة نقدية للكاتب المسرحي والمثقف السوري

تحرير سونيا مجشر أتاسي وروبرت مايرز، مطبعة كامبريدج، 2021

أحمد ضياء دردير

رحل عنا الكاتب المسرحي السوري سعد الله ونوس في سنة 1997. ومنذ ذلك الحين لم يلق الكاتب الكبير اهتمامًا يليق بمكانته. ربما لأن تركته كتركة المسرحيين العظام معقدة ومتشابكة وحمالة أوجه وتأويلات، بشكل يقطع الطريق على استيلاء أي طرف سياسي دون آخر على هذه التركة.

مع تصاعد الأزمة السورية تبرعت أسرة سعد الله ونوس بمحتويات مكتبته إلى الجامعة الأمريكية في بيروت. أصبحت هذه المكتبة نواة لاهتمام متجدد من قبل باحثين في مجالات الأدب والفنون المسرحية، أثمرت عن هذا الكتاب الذي صدر هذا العام. ليست كل فصول الكتاب سواء (بعضها في رأيي حاول الاستحواذ على تركة ونوس لحساب أجندة ليبرالية تقفز على التناقض والتوتر ما بين الراديكالي والليبرالي في مسرحيات ونوس الأخيرة بالذات؛ بينما أظهر البعض الآخر وعيًا فائقًا بتعقيدات هذه التركة، مثل الفصل الذي تتحدث فيه سحر عساف عن تجربتها في إخراج مسرحيتي «الاغتصاب» و«طقوس الإشارات والتحولات» أو الفصل الذي تستكشف فيه سونيا ميشر-أتاسي محتويات مكتبة ونوس، لكن أكثر ما استقوفني في الكتاب أول فصلين.

في هذين الفصلين عرض ممتع وثري للمدارس والأساليب المسرحية التي تأثر بها ونوس؛ من مدارس «المسرح المنحاز» أو «المتلزم» التي تعرف إليها عن قرب أثناء دراسته في باريس، إلى اتخاذه من «المقهى» و«الحكواتي» قوالب مسرحية، إلى بيرتولت بريخت الذي تأثر به واستلهمه ثم طوره وطوعه في سياق عربي. ولأن نص سعد الله ونوس لم ينفصل يومًا عما عاصره الكاتب من قضايا وأحداث، فإن سرد الفصلين للأساليب المسرحية كان أيضًا سردًا للأحداث التي شكلت هذه النصوص وألهمت هذه الأساليب؛ من النكسة التي استنفرت محاولات التجديد والتجريب الأولى عند ونوس، إلى حصار بيروت الذي يمتد صداه إلى مسرحيته المتأخرة «منمنمات تاريخية»، إلى حرب العراق الأولى التي كُتبت «المنمنمات» في أعقابها؛ وحُمِّلَت بتعقيدات الوضع العربي، إذ يقدم الانهزاميون حججهم المنطقية بينما يتسابقون لنيل رضا العدو، وتجد المقاومة نفسها تقف في بعض الأحيان كتفًا بكتف مع سلطة قمعية (ممثلة في المسرحية بالدولة المملوكية التي تترك دمشق لتواجه غزو التتار وحدها، بينما يصر أمير القلعة الذي يدافع عن دمشق بشجاعة أنه يفعل ذلك باسم النظام وباسم الدولة السلطانية)، وترتفع أصوات هامشية في صفوف الذين اختاروا المقاومة تقول: «يحق لي أن أحلم بأن نظامًا جديدًا [أكثر عدلًا] سيولد من مخاض هذه الأزمة».

لا ينفصل تجدد الاهتمام بونوس عن التكهنات حول ما يمكن أن يكون موقفه من الأزمة السورية الحالية. الأهم في رأيي هو كيف يمكن أن تساعدنا مسرحية مثل «منمنمات تاريخية» في صياغة أسئلة الوضع الراهن (دون أن نطالبها بتقديم إجابات جاهزة).

ليس الكتاب بالضرورة من أفضل ما قرأت، (يظل الفصلان الأوَلَّان مميزين) ولكن القراءة الجديدة لـ«منمنمات تاريخية»، في ظل هذا الكتاب وفي ضوء الأزمة السورية، هي من أفضل ما قرأت هذا العام.

إمبراطور المآسي: سيرة للسرطان

سيدهارتا موكرجي، ترجمة أيهم أحمد، دار التنوير، 2018

أسماء محمد أمين

أن يحمل الكتاب في عنوانه «سيرة للسرطان» كان سببا كافيًا لي لغض الطرف عن قراءته، رغم جاذبيته كونه يصنف كأحد أهم الكتب في عصرنا الحالي، لكن الحديث عن السرطان يبقى محفزًا للقلق عندي، يعيد الإدراك أنّ هذا المرض يتربص بأحبّتنا طيلة الوقت. لكنني هذا العام فقدت صديقًا عزيزًا خسر معركته مع السرطان، ما فعلته بعد أيّام من هذا هو الجلوس مع «إمبراطور المآسي».

الكتاب عمل أدبيّ علميّ ضخم يقع في 600 صفحة، لم يعمد الكاتب فيه إلى توثيق السرطان من خلال خطّ زمنيّ متسلسل، واستند بدلًا من ذلك في كثير من عرضه إلى حكايات وتجارب أشخاص وجدوا أنفسهم في دائرة السرطان، باعتبار أنّ القصّة والمجاز هما المقام الأوّل للمرض في وصفهما للمعاناة، قبل أن يصبحا اصطلاحًا طبيًّا وعلميًّا، والمرضى هم رواة الرحلة وأبطالها قبل أن يصبحوا موضوعًا للبحث الطبّي. فرغم العرض العلمي الوافر في الكتاب والإسهاب في شرح المحطّات الطبيّة، يقرّ موكرجي بأنّ قصص وتجارب المصابين بالسرطان هي جزء أساسيّ في رحلة البحث والاكتشافات «يبدأ السرطان بالناس وينتهي بهم، هذه حقيقة ثابتة يتم تجاهلها أحيانًا بسبب التجريد العميق الذي يتميز به العلم»، لذلك تجد الكتاب يطفح بذكر أسماء المرضى وأعمارهم وحالتهم الاجتماعيّة جنبًا إلى جنب مع وصف مرضهم وآلامهم ومراحل العلاج المضنية.

وإضافة لذلك، تجد في الكتاب سردًا أدبيًّا ساحرًا في سيرة وتجارب العلماء والأطباء، ودورهم الحاسم في فهم طبيعة الخليّة السرطانية، ومحاولة كبحها واجتثاثها بتجارب وعمليات وصف بعضها بالراديكاليّ والقاسي، فيسرد رحلة الاكتشافات الكبرى في العلاج التي مرّت بأكثر الأساليب بدائيّة، من جراحات عميقة دون تخدير أو تطهير، مرورًا بعمليّات الاستئصال العميقة والجذريّة، إلى عهد اكتشاف العلاجات الثورية بالتعرض الكيميائي والإشعاعي. كما يضيء موكرجي على واحدة من أهم قضايا هذا الكتاب، بوصف كيفية تحوّل السرطان من مرض معزول في المشافي والمختبرات، إلى شأن سياسي واجتماعيّ واسع، لعب دورًا حاسمًا في تغيير مجرى الحرب ضدّ السرطان، إذ كان لا بد من تشكيل رأي عام متصاعد وضاغط يسلّط الضوء على خطورة السرطان، ويدفع باتجاه تمويل ودعم الباحثين والأطباء، ما حوّل البحث في العلوم السرطانيّة والعلاجات من مسألة اجتهادات فرديّة إلى المأسسة والمسؤوليّة الاجتماعيّة والوطنيّة.

يعطي الكتاب لقرائه تصوّرًا بيولوجيًّا شاملًا لمرض السرطان وتكوينه، وآليّات الدفاع والعلاج ضدّه، الحاليّة منها والمتوقّعة التي يمكن اختصارها بمحاولة إيجاد وسائل تمنع الطفرات من الحدوث في الخلايا، أو تستأصل الخلايا الطافرة دون الخلايا السليمة، وتكمن صعوبة هذه الآليّة بما يذكره موكوجي من أنّ «النموّ السرطاني والنموّ الطبيعيّ متضافران جينيًّا، بطريقة تجعل فكّ عراهما واحدة من أكبر التحدّيات العلميّة، السرطان متضمن في الجين البشريّ، ليست جينات غريبة عن أجسامنا وإنما مألوفة لكنّها طافرة (..) لذلك إن كنا نبغي الخلود فإن الخليّة السرطانية تريد الشيء ذاته». يعطي هذا فهمًا لواقعنا الحاضر والمستقبلي في مواجهة المرض، فيما يتعلّق باقترابنا من علاج نهائيّ للسرطان، لا يمكننا اليوم الإفراط في الأمل والتفاؤل، ولا يصّح لنا الإغراق في اليأس والتشاؤم. الكشف العلميّ عمليّة معقدة ومركّبة ومتراكمة بدأت بأسلافنا، وقد لا تزال في طورها المبكر في الكشف عن تعقيدات الجين السرطانيّ وآليّة تحييده.

لم يكن لي أن أقرأ هذا الكتاب لولا أنّ فقدي لصديق أعاد مواجهة حقيقة أنّ السرطان أقرب لنا مما نتخيّل، هو كامن فينا ويتربّص بأحبتنا طيلة الوقت، أحيانًا بهدوء مريب ومخيف، لكن فهم الطبيعة وآلّيّاتها هو محاولة العلم الأساسيّة تطويع هذه الطبيعة والسيطرة عليّها، محاولة الإنسان السير ضدّ الموت وطبيعته كما يذكر هذا الكتاب، وقد يكون هذا هو الدافع الخفيّ لديّ للبحث داخل سيرة هذا الإمبراطور، الاستعداد لأيّة مواجهة متوقّعة، فـ«للتخلّص من المرض، لا بدّ من الابتداء بنفض الغبار عن قصّته».

رغبة ما بعد الرأسمالية: المحاضرات الأخيرة

مارك فيشر، ريبيتير بوكس، 2020

أميرة عكارة

يتألّف هذا الكتاب، الذي حرّره وكتب مقدّمته مات كوهون، من المحاضرات الأخيرة للناقد الثقافيّ والأكاديميّ البريطانيّ الراحل مارك فيشر. كان فيشر قد شرع في تدريس مساق دراسيّ للدراسات العليا في كليّة جولدسميثس، في جامعة لندن، والذي كان مُقدّرا له أن يتكوّن من 15 محاضرة، لكنّ المساق توقّف بعد خمس محاضرات فقط ألقاها فيشر، قبل أن يُقدِم على إنهاء حياته في العام 2017.

يحتوي الكتاب على محاضرات فيشر الخمس، بالإضافة إلى مقدّمة مهمّة لكوهون، وهو أحد طلّاب فيشر السابقين، ومُلحَقَيْن، يتضمّن أحدهما قائمة القراءات المقرّرة لكلّ محاضرة كما أعدّها فيشر للمساق بأكمله، ويتضمّن الآخر عناوين المواد الصوتيّة لقائمة موسيقيّة كانت من أواخر ما وضعه فيشر على مدوّنته الشهيرة (k-punk) قُبيل رحيله، وقد شكّلت هذه القائمة المادّة التي استمع إليها طلّاب وطالبات فيشر في المحاضرة التالية مباشرة لوفاته، والتي عُقدت تلقائيًّا في مكانها وموعدها المعهودين وفاءً وتكريمًا لذكراه، بل إنّ بقيّة جلسات المساق استمرّت بعد وفاته، بعد أن تحوّلت إلى مجموعة قراءة أسبوعيّة صباح كلّ اثنين ضمّت طلّاب فيشر، وبعض زملائه وأصدقائه.

تحفر محاضرات فيشر الخمس، وما كان مقرّرًا للمساق من تتمّة، في سؤال العلاقة بين الرغبة والرأسماليّة، ويقرأ فيشر هذه العلاقة بالرجوع إلى نصوص وكتابات لمنظّرين ومنظّرات من مذاهب فكريّة متنوّعة، مثل فرويد، ولاكان، وماركوزه، وليوتار، ولوكاتش، وديفيد جرابر، وإيلين ويليس، ونايومي كلاين. يبدأ فيشر محاضراته بطرح أسئلة وتصوّرات مهمّة حول إن كان ثمّة رغبة حقيقيّة فيما هو أبعد من الرأسماليّة، وحول المدى الذي تُعيق فيه الرأسماليّة ذاتها الرغبة فيما بعدها، وحول إمكانيّة تجاوز «الواقعيّة الرأسماليّة» (كما أسماها وعنون بها فيشر أحد كتبه السابقة) مع الاحتفاظ بالممكنات الرغبويّة والتكنولوجيّة لرأس المال. يعرّج فيشر في هذه المحاضرات على لحظات وتحوّلات تاريخيّة مهمّة، مثل صعود الثقافة المضادّة في الستّينات والسبعينات، وإخفاقاتها، بهدف استكشاف سياسات بديلة للنظام الرأسماليّ، وتأمّل أسباب إخفاق مشاريع مناهضة للرأسماليّة في إحداث تغيير اجتماعيّ، والتفكير في إمكانية بناء وعي جديد لا يلغي الوعي الطبقيّ، ويستند على تضامن جماعيّ، تقاطعيّ.

يوضح فيشر في محاضرته الأولى مسوّغات استخدام مصطلح «ما بعد الرأسماليّة» عوضًا عن «الاشتراكيّة» أو «الشيوعيّة»، وتتمثّل هذه المسوّغات في حياديّة المصطلح، وتخلّصه من الحمولة السلبيّة التي تلتصق بالمصطلحين الآخرين، وما ارتبطت بهما من مشاريع وتجارب من ناحية، وفيما يوحيه مصطلح «ما بعد الرأسماليّة» من ناحية أخرى من انتصار يرتبط بانتهاء الرأسماليّة والنجاح في تجاوزها إلى ما بعدها. يرى فيشر بإمكان تجاوز الرأسماليّة من خلالها ومن داخلها، وترتبط هذه الرؤية عنده بتصوّر لـ«التسارعيّة» (Accelerationism) من منظور يساريّ جديد، يتضمّن، ضمن أمور أخرى، فهم وتحليل العجز الإنسانيّ والثقافيّ في التعاطي مع التسارع المتزايد للتقدّم التكنولوجيّ في ظلّ النظام الرأسماليّ، والآثار المترتّبة على ذلك، وارتداد تلك الآثار على النظام الرأسماليّ ذاته، ومن ثمّ التفافه عليها، وما ينتج عن ذلك كلّه من حالة ركود وجمود مستمرّة في خطاب وإستراتيجيّات اليسار، وفي القدرة على الفعل وعلى إحداث التغيير. يتضمّن منظور فيشر للتسارعيّة أيضًا القدرة على التفكير الإستراتيجيّ في تعظيم الاستفادة من بعض منتجات وقوى الرأسماليّة، وتحريرها من القيود التي تضعها الرأسماليّة ذاتها على ما يمكن أن تنضوي عليه وتطلقه من إمكانيّات.

لا يحفظ هذا الكتاب بعضًا من إرث فيشر الفكريّ كما كان عليه في طوره الأخير قبل رحيله مباشرة فحسب، لكنّه يعيد أيضًا طرح سؤال الرأسماليّة وإشكاليّاتها، وما يمكننا التفكير به وفعله بشأن مستقبل متجاوز لها. وما يميّز الكتاب خصوصيّة بنيته التي تمنحنا فرصة أن نشهد تشكُّل وتبلور، بل واختبار، مجموعة من الأفكارالجوهريّة أثناء طرح فيشر لها في محاضراته، وما يتخلّل تلك الأطروحات ويثريها من أسئلة ومناقشات وتفاعلات الطلّاب والطالبات معها. يمكننا نحن، القارئات والقرّاء، من ثمّ، أن نتخيّل ما جرى في هذه الحلقات الدراسيّة التي احتفظت تسجيلاتها المدوّنة في الكتاب بتفاصيلها الدقيقة بشكل شبه كامل، بما اشتملته من ضحكات، ومقاطعات للحديث، إلخ، وأن نتفاعل مع ما تثيره فينا من أفكار وتأمّلات وأصوات داخليّة، ما يعطي الكتاب نفسًا طازجًا وحيويًّا وفعّالًا وغير تقليديّ. ومن الجميل أنّ كتابًا مهمًّا وشائقًا ككتاب فيشر هذا قد وجد طريقه سريعًا إلى الترجمة إلى العربيّة، إذ صدرت ترجمة نوال العلي له مؤخّرًا تحت عنوان «رغبة ما بعد الرأسماليّة: المحاضرات الأخيرة لمارك فيشر»، عن منشورات تكوين.

تاريخ الكذب

جاك دريدا، ترجمة وتقديم رشيد بازي، المركز الثقافي العربي، 2016

ريما العيسى

تتمحور هذه الدراسة لجاك دريدا حول ضرورة التمييز بين تاريخ الكذب كمفهوم وتاريخه بحد ذاته. خاصةً في الحاضر الراهن الذي بات الكذب فيه جزءًا هامًا من اللعبة السياسية القائمة. يقدم دريدا تحليلات تعتبر أطروحات تمهيدية لبلورة جينيالوجيا تفكيكية لمفهوم الكذب، وتشكيل تاريخ خاص به، وصعوبة القيام بمثل هذا العمل لضرورة التمييز بين تاريخ الكذب كمفهوم وتاريخه في حد ذاته، وهو يحيل إلى عوامل تاريخية وثقافية وممارسات وأساليب ودوافع تختلف من حضارة إلى أخرى وحتى داخل الحضارة ذاتها.[1] 

يعتمد دريدا في بحثه على العديد من المفكرين وأهمهم روسو والقديس أوغسطين وحنة أرندت وغيرهم. بحسب القديس أوغسطين، فإن الكذب على الآخرين يتضمن الرغبة في خداعهم حتى إذا كانت أقوالنا حقة، كما يمكننا أن ننطق بأقوال خاطئة دون أن نكون كاذبين، في حين الغاية من الأقوال الحقة خداع الآخرين، وبذلك نكون كاذبين، وكذلك إخفاء حقيقة لسنا ملزمين بالتصريح عنها. والخطاب النظري حول الكذب هو في حقيقة الأمر استراتيجية ذكية يلجأ إليها العقل النظري لخداع العقل العملي.

ولكن، سيكون دائمًا من المستحيل لاعتبارات بنيوية البرهنة أن أحدًا ما قد كذب، فالكذب هو فعل مقصود، وبدل الحديث عن الكذب يجب الحديث عن فعل الكذب، إذ لا وجود بتاتًا للكذب، بل لفعل القول أو اعتزام القول الذي نربطه بفعل الكذب.[2] ذلك أن فعل الكذب يعني أننا نتوجه بالكلام إلى الآخرين، فلا يمكن لنا الكذب إلا على الآخرين، ومن المستحيل الكذب على الذات إلا في حالة اعتبارها بمثابة آخر. ومن الضروري أن يكون الكاذب على علم بما يقوم به وما ينوي القيام به عندما يقدم على الكذب، وإلا فهو لا يعتبر كاذبًا.

يبقى المقصد أولًا وأخيرًا كما أكد القديس أوغسطين على ذلك أيضًا. حيث يرى إنه لا وجود لكذب بمعزل عن قصد أو رغبة أو إرادة واضحة للخداع.[3] وهذا القصد الذي يحدد الكذب والصدق على مستوى فعل القول يبقى مستقلًا عن صحة أو خطأ المحتوى، أي ما قيل. فالكذب يرتبط بفعل القول واعتزام القول لا بما قيل. فنحن لا نكذب عندما نزعم أشياء خاطئة نعتقد أنها صحيحة، ونكون كاذبين عندما نزعم أشياء صحيحة نعتقد أنها خاطئة.

فالكذب مرادف للمستقبل، وعلى العكس من ذلك فقول الحقيقة هو قول ما وقع. وما سبق وأن وقع، أي ترجيح كفة الماضي. «لا يمكن البرهان على وجود وضرورة وجود تاريخ خاص بالكذب، ولا يمكن أن يتحول إلى موضوع نظري يمكن للمعرفة الإلمام به (..) بل يبقى بنيويًا مغايرًا لها».[4]

لن تتكلم لغتي

عبد الفتاح كيليطو، دار الطليعة بيروت، 2002

ريما العيسى

تتميز أعمال المفكر المغربي عبد الفتاح كيليطو بصعوبة تصنيفها ضمن إطار معين. فهي تحمل الفلسفة والأدب واللغة في طياتها. وكيليطو يكتب بالفرنسية والعربية، وقد ترجمت أعماله إلى العربية على يد الكاتبين الكبيرين عبد السلام بنعبد العالي وعبد الكبير الشرقاوي. تتشكل معظم مؤلفات كيليطو من نصوص قصيرة، يترك فيها للقارئ مساحة دائمة لتأويل النص المتلقى.

يطرح كيليطو في كتابه «لن تتكلم لغتي» التحيز الفكري في قراءة النصوص الأدبية العربية، إذ يعتبر أن نزعة تقويم الأدب العربي لدى النقاد والكتاب الغربيين تقوم على أساس تشابهه مع الأدب الغربي. أي مرايا المقارنة بين الأديب العربي ومن يقابله من الأجانب، وويل لمن لا مقابل أجنبي له. فالمهم لدينا هو كيف نرى أنفسنا وكيف يرانا الآخر وكيف نرى أنفسنا عبر رؤيتنا للآخر.

يعتبر كيليطو بأن الذاكرة الأدبية تختلف عند العربي عنها عند الأوروبي وفي كلتا الحالتين تستند إلى أصل ونموذج بدئي، فالأوروبي يرجع بذاكرته إلى أثينا والعربي إلى البيداء. وذاكرة العربي تبدو أطول زمنيًا على المستوى اللغوي.

يشدد الكتاب على إشكالية التعدد اللغوي إلى جانب إشكاليات الترجمة. فالترجمة اللغوية ممكنة، ولكن الصعوبة تكمن في الترجمة الثقافية، أي في توصيل المعنى وليس نقل اللفظ من سياق إلى آخر. يمتعض كيليطو من تكلم الآخر للغته، فتطاول الغرباء على لسانه يدفعه إلى الشعور بالارتياب، أي أن الغريب يسلب لغتنا ومقومات وجودنا. لذلك يتوجب حماية اللسان من تطاول الغرباء، ويتجلى ذلك بالشعور بالريبة والسخط عند اتقان الأجنبي للغتنا إتقانًا تامًا.

ويتساءل كيليطو إذا كان بمقدور المرء امتلاك لغتين والبراعة فيهما معًا، وهل يمتلك المرء لغة من اللغات. إن الحرب بين المرء واللغة سجال والكلمة الأخيرة للغة. وينقل على لسان الجاحظ بأن معرفة لغتين يعني أن تظلم إحداهما الاخرى. ويطرح مثالًا على ذلك مقامات الحريري التي تقول كل عبارة من عباراته يستحيل ترجمتي، وكأن الحريري فعل ما بوسعه ليحمي كتابه من تسلط لسان آخر. يؤكد كيليطو بأن المرء لن يتمكن أبدًا من لسانين.

وينقل كيليطو عن جاك دريدا قوله: «ليس لي إلا لغة واحدة وهي ليست لغتي، لا نتكلم أبدًا إلا لغة واحدة، لا نتكلم أبدا لغة واحدة».

الهولوكوست وشمال إفريقيا

تحرير أومار بوم وسارة أبريفايا شتاين، مطبعة جامعة ستانفورد، 2018

شادي لويس

في أيار الماضي، افتتح المعرض الأول عن الهولوكوست في بلد عربي، في متحف «معبر الحضارات» في دبي، بحضور السفيرين الإسرائيلي والألماني. احتوى المعرض على قطع نادرة، مثل نسخة من كتاب صلوات المزهور من مدينة فورمز الألمانية، كما خُصص قسم منه لتكريم المسلمين «الأبرار بين الأمم» أي الذين شاركوا في إنقاذ اليهود من المحرقة، وكان التركيز على شخصيات من ألبانيا، وإن كان بينهم الطبيب المصري محمد حلمي، الذي كان يعيش في برلين أثناء الحرب. حينها اعتبر المعرض كواحد من إجراءات التطبيع المتسارعة التي انتهجتها دولة الإمارات بعد توقيع اتفاق إبراهام. لكن الإقرار بالهولوكوست ليس تطبيعًا في حد ذاته، ولا حتى إقامة معرض عنه، بل هي المعروضات المجلوبة في معظمها من أوروبا وثيمات عرضها، بالإضافة إلي التمثيل الدبلوماسي في الافتتاح ما يمثّل التسليم بالولاية الإسرائيلية على التاريخ اليهودي والمأساة اليهودية، وكذا القبول بالمركزية الأوروبية في رواية المحرقة، فالهولوكوست مسألة أوروبية، وحتى المسلمون ممن تم تكريمهم، إما كانوا أوروبيين أو كانوا عربًا مقيمين في أوروبا.

كانت أخبار المعرض أحد الأسباب التي دفعتني لقراءة كتاب «الهولوكوست وشمال إفريقيا» من تحرير أومار بوم وسارة شتاين، الصادر بالإنكليزية عن جامعة ستانفورد، قبل عامين. تقوم فصول الكتاب الـ15، وكتابها يأتون من تخصصات مختلفة، بخلخلة مركزية الهولوكوست الأوروبية، عبر تقديم مسوحٍ تاريخية وتحليلات حول الإجراءات المعادية للسامية التي قامت بها سلطات حكومة فيشي في شمال إفريقيا، واختلافاتها بين بلد وآخر، وكذا القوانين والإجراءات التي فرضتها السلطات الإيطالية على اليهود الليبيين، بالإضافة إلى العمليات الأكثر عنفًا ومباشرة التي انتهجتها قوات ألمانيا النازية ضد يهود تونس أثناء فترة احتلالها القصيرة للبلاد.

لا يكتفي الكتاب بسرد المزيد من القصص عن المأساة اليهودية، معسكرات العمل في الصحراء، وعمليات الترحيل من الموانئ التونسية إلى معسكرات الموت في ألمانيا وبولندا، بل يعيد قراءة المحرقة كامتداد للمنطق الاستعماري والتراتبية العرقية التي فرضتها القوى الأوروبية في شمال إفريقيا، مثلها مثل غيرها في أنحاء العالم المستعمر. قدمت حنة آرندت تلك الفكرة من قبل، إلا أن «الهولوكوست وشمال إفريقيا» يقدم البيانات التاريخية والتفصيلية لتدعيم فكرتها القائمة بالأساس على التنظير التأملي. بهذا المنطق لا يعود الهولوكوست تشويشًا على جرائم الاستعمار الأخرى أو تشتيتًا للانتباه بعيدًا عن ضحايا آخرين، بل تأكيدًا عليها وتذكيرًا بتاريخها الطويل.

يقارب الكتاب أيضًا موقع الهولوكوست الشمال إفريقي في الرواية التاريخية للدولة الإسرائيلية. فبالإضافة للهيمنة الأشكنازية على خطاب المظلومية الرسمي للمشروع الصهيوني وتهميشها لتاريخ اليهود الشرقيين، فإن الرجوع إلي تاريخ هؤلاء المهمشين في بلادهم الأصلية كفيل بدحض الخطاب الواصم للعرب بتهمة معاداة السامية. يؤكد كتاب «الهولوكوست وشمال إفريقيا» فصلًا بعد آخر على مقاومة النخب الأرستقراطية المحلية وممثلي الحركات الوطنية للإجراءات المعادية لليهود، وفي حالة عموم السكان، تبدو الاستجابة لتحريض السلطات الاستعمارية ضد اليهود هي الاستثناء، وبشكل عابر، فيما ظل التضامن معهم، وبالأخص يهود البلاد من غير الأجانب، هو القاعدة.

بأكثر من طريقة، ومن زوايا نظر مختلفة، ينزع المشاركون في الكتاب صفة الاستثنائية عن الهولوكوست، بل وأحيانًا يعيدون تأطيره بوصفه مأساة عربية بقدر كونها يهودية، ما يكشف عن ساحات غير مطروقة في تاريخ المنطقة، ويحول المحرقة من حجة للمشروع الصهيوني إلى حجة ضده.

الكاتبات والوحدة

نورا ناجي، دار الشروق، 2020

صفاء الزرقان

تستعرض نورا ناجي في كتابها «الكاتبات والوحدة» مجموعة من سِيَر كاتباتٍ من أزمنة وأعراقٍ وتوجهاتٍ مختلفة، لكنها تحيك خيطًا رفيعًا يربطهنّ جميعًا، فكأنما يبدو هذا المشترك الذي يجمعهنّ أكبر وأبلغ من كل اختلافاتهنّ. كان ذلك الخيط هو الوحدة، وحدة الشعور والاعتقاد بأن ما شعرن أو مررن به هو شيء حدث لكاتبة أو امرأة واحدة فقط، ثم تكتشف أن هناك ما هو أعمّ. كل واحدةٍ من الكاتبات مرت بتجربة وحدة مختلفة، سواء كانت وحدة مع الجسد أو الأم أو الأمومة أو المرض أو حتى الحب، لكنها وحدة في النهاية، فسرتها وأفصحت عنها نورا في كتابها. لم يتعاطَ الكتاب مع الكاتبات بصورة السير التقليدية، بل سبر أعماق غور النصوص والسيَر، وحاك من التجربة الذاتية الفريدة لكلٍ منهن خيطًا شكّل شبكة متينة تجمعهن، ويمكن لأي امرأةٍ أخرى أن تشاركهنّ إياها حين تجد صوتًا يعبر عن مكبوتها الخاص. تعاني الكاتبات في كثيرٍ من الأحيان من الاستبعاد من المعتمد الأدبي (Literary Canon) حتى وإن كنّ على قدرٍ كبيرٍ من الموهبة والكفاءة التي لا تقل عن غيرهنّ من الكتاب، لكن نورا كانت ذكيةً حين ضمّنت سيَر كاتبات مستبعداتٍ عادةً من المعتمد الأدبي، ومنحتهنّ أحقية التعبير والوجود والتذكر.

تبدأ نورا الكتاب بمشهدٍ تتذكر فيه ما مرت به كامرأةٍ متزوجة وأم في مدينة لم تؤنسها على الإطلاق، حتى عادت لمصر واكتشفت أنها لم تكن استثناءً بين النساء فيما شعرت أو مرت به، لتجد مواساتها والتضامن الخفي في نصوص إيمان مرسال الأدبية؛ تلك النصوص التي قالت الكثير مما تخشى الأم التعبير عنه خشية الانتقاص من أمومتها. ومن ثمّ كان الكتاب إعادة اكتشافٍ لكل معالم الوحدة التي مرت بها النساء أولًا والكاتبات ثانيًا، تلك المعالم التي قد تكون معبرة عن أي سيدةٍ عاديةٍ عانت من ذنب الأمومة أو العلاقة المضطربة مع الأم أو عبء رحمها نفسه، غير أن تلك السيدة العادية لن تفصح عما يعتمل في خلجات صدرها ظنًا منها كما هو حال نورا من قبل في مقدمة الكتاب بأنها قد تكون «مخبولةً أو مُجرمة». من هنا كانت أهمية الكتاب في نظري؛ إذ طالما خشيت الإفصاح عن أيّ من تلك المشاعر، بل كانت الكتابات المتعلقة بها تخيفني، لأنها ببساطة تهدد المساحة الآمنة التي تجعلني أرى الصورة أكثر ورديةً.

يخيفني الحديث عن الأمومة بصورةٍ مغايرةٍ للصورة الرومانسية الدافئة لتلك العلاقة، وكان ذلك عقبةً حقيقية في تعاطيّ مع تلك النصوص. لكن قراءة هذا الكتاب الذي كان للأمومة والبنوة فيه نصيبٌ كبير، كانت عتبةً لتجاوز ذلك الشعور، حين واجهت خوفي وأدركت بأن ما أغمض عينيّ عن رؤيته موجودٌ بالفعل. إن الأمومة المضطربة (كما كنت أراها) ليست جرمًا ولا خطيئة تستحق العقاب، بقدر ما هي حالة تستلزم الدراسة والنظر والفهم من أطرافها ابتداءً ثم من القرّاء.

كانت قراءة الكتاب وما يستتبعها من نظر في نصوص تلك الكاتبات الأصلية فرصةً لإعادة النظر بعلاقة النساء بأجسادهنّ، تعيش النساء حياةً تحت «وطأة الرحم»، تعتنين به وتخفنه، يتمرد عليهنّ فتحاولن كبح جماحه، ورغم معرفتهنّ باستحالة ذلك إلا أنهنّ يحاولن دائمًا بلا كلل. إن ما لفتني في كثير من السير هي لحظة إدراك الجسد، تلك اللحظة التي يصرخ فيها الجسد ألمًا معلنًا سطوته، ومشكلًا بذلك مصدرًا للكتابة، وكأن الرحم هنا يكتسب ما يشابه سلطة الفالوس فيما يتعلق بالكتابة وسلطتها، لتتجلى سلطة الرحم في عناوين سوزان سونتاج التي جذبتني، مثل كتاب «ولادة ثانية، يوميات مبكرة» والجزء الثاني بعنوان «كما يسخر الوعي الجسد». الملفت في كتابات سونتاج أو عناوينها تلك العلاقة بين الألم والإدراك الذاتي. «المرض كاستعارة» و«الالتفات إلى ألم الآخرين» واشتباك الذاتي بالمعرفي في حديثها عن السرطان في الكتاب الأول، ثم معاناتها منه التي جعلت ذاتها تتكشف أكثر لناظريها من خلال الألم. وكأن لا سبيل أمام النساء لمعرفة أجسادهنّ إلا من خلال الألم/ الرحم. وهذه كانت طريقة أغلب الكاتبات المذكورات هنا أيضًا، للتعرف على أجسادهنّ من خلالها، وكأن الجسد ما هو إلا خريطة من الندب، لكل منها تاريخها وانكشافها. هذه الكتلة المادية يديرها ويشكلها الرحم، نفسيًا ومعرفيًا ومرضيًا، بل أحيانّا تشكل الكثير من عقده النفسية، ولا فكاك لها منه.

عصر الإمبراطورية الجديد: كيف تحكم العنصرية والاستعمار العالم إلى الآن

كيندي آندروز، بولد تايب بوكس، 2021

عبد الله أبو لوز

كايندي أندروز هو أستاذ دراسات السود في جامعة برمينغهام في كلية العلوم الاجتماعية. أول أسود يحوز درجة الأستاذية في بريطانيا. وأحد مؤسسي أول برنامج متخصص في دراسات السود في أوروبا. يناقش الكتاب الأسس التي بُني عليها عالم الحداثة المعاصر، ويحاجج عن كون السياسات التي بُني عليها هذا العالم نابعة من تفوق العرق الأبيض في العالم الغربي على كل الأعراق الأخرى. ويدحض خرافة السردية التاريخية التي تقول بأن التقدم الذي يعيشه الغرب الحديث قائمٌ على ثلاث ثورات أساسية: العلم والصناعة والسياسة. يرى أندروز أن الركائز الحقيقية التي بُني عليها التفوق الغربي هي الإبادات الإنسانية واسترقاق البشر والتغول الاستعماري.

يشرح أندروز باستفاضة أربعة قواعد تساعد في توضيح المنطق الذي تنبني عليه الإمبريالية الغربية الحالية. القاعدة الأولى العنصرية العرقية، إذ يكشف أندروز عن الارتباط بين الرأسمالية والعنصرية العرقية وتحقيق الأرباح ومراكمتها باستخدام الاستغلال العرقي. ويضرب على ذلك مثالًا بالصناعة القائمة على خصخصة السجون الأمريكية، وكيف تجني الأرباح من خلال شركتها الفيدرالية يونيكورن التي تدفع لعمالتها/ المساجين مبالغ تتراوح ما بين 23 سنتًا إلى 1.15 دولارًا في الساعة. ولا يخفى على القارئ أن نسبة السود في السجون الأمريكية أعلى بمراحل من البيض. أما القاعدة الثانية فهي النوستالجيا الاستعمارية، ويصف أندروز الحنين المستمر إلى الماضي الذي كانت تتجلى فيه العقلية الإمبراطورية برسوخ أكبر، زمن التغول على الشعوب واستعبادها وسرقة خيرات أراضيها. ويضرب مثالًا على ذلك التوق والحنين بعبارة دونالد ترامب التي استخدمها في حملته الانتخابية «لنعيد أمريكا عظيمة مرة أخرى»، وعبارة «معًا، لنستعيد السيطرة» التي انتشرت في فترة تصويت البريطانيين على الخروج من الاتحاد الأوروبي.

أما القاعدة الثالثة فتناقش التمييز العرقي الأبوي، وتتناول العلاقة الجامعة بين التمييز العرقي والنظام الأبوي القائم على اضطهاد النساء. حيث تأسست الإمبراطوريات على أكتاف قادة المستعمرات وملاك الرقيق، الذين تربعوا على رأس منظومة تمييز جندرية تُلزم النساء بالأعمال المنزلية وتمنعهنّ عن الفضاء العام. وتتناول القاعدة الرابعة زمن ما بعد العنصرية العرقية الذي يدّعي الغرب أننا نعيشه، فيقول أندروز: «إذا كانت أعظم خدمة اخترعها الشيطان بأنه أقنعنا بعدم وجوده، فإن أعظم إنجاز للإمبريالية الغربية هو الوهم بأننا تجاوزنا العنصرية العرقية». لقد استغرقت قراءة الكتاب مني قرابة شهرين نظرًا لغزارة معلوماته، ووافقت قراءته حالةً شعورية مفعمة بعدم الانتماء لهذا الزمن الذي نعيشه، وأمدتني بأدوات حقيقية مدعمة بحقائق تاريخية لمراجعة ونقد الواقع المعاصر. وأثار في نفسي تساؤلًا حقيقيًا بأننا نعيش زمنًا لاأخلاقي يتباهى أسياده بأخلاقيتهم؛ بينما لا يفعلون سوى ذرّ الرماد في الأعين.

من الحضارة العربية إلى الحضارة العربية الإسلامية

جمال ضاهر، دار الفارابي للنشر، 2021

فخري الصرداوي

عندما رأيت غلاف كتاب الأكاديمي والروائي جمال ضاهر من «الحضارة العربية إلى الحضارة العربية الإسلامية»، توقع عقلي المشبع بسجالات الحضارة ومعادلات القوة والسياسة الدولية من العنوان كتابًا آخر، أو بالأحرى دليلًا عمليًا وأيديولوجيًا عن كيفية التكامل بين الحضارتين الصغرى العربية والكبرى الإسلامية في الوقت الحاضر.

بعد قراءة الكتاب أدركت أنه ليس وصفةً أو تنظيرًا أو وعظًا أيدولوجيًا، بل بحث علمي صادق عن الحقيقة، جعلني أقرأ عنوان الكتاب بشكل آخر: كيف تم الانتقال تاريخيًا من الحضارة العربية إلى الحضارة العربية الإسلامية؟

شكلت فرضية البحث مفاجأة لي، كشخص ناقد للاستشراق الذاتي ومنهمك بمسألة الهوية العربية في حقبة العولمة، وذلك بسؤال أساسي: هل كان للعرب «حضارة» قبل الدعوة الإسلامية وقبل الاختلاط مع الحضارات الأخرى؟

يعطي هذا الكتاب مادة زخمة للرد على الادعاءات من كافة المشارب الفكرية، مثل ادّعاء الأصوليين بأن عرب ما قبل الدعوة لم يكن لهم بنيان حضاريّ وفكريّ ولغويّ ناضج قبل الإسلام، ومثل ادّعاء الحداثيين بأن الحضارة العربية الإسلامية، بما فيها من علوم وفلسفة ومنطق، لم تصبح حضارة إلا بعد تلاقيها مع الحضارات غير العربية، وبدء حركة الترجمات عن الإغريق، وظهور الكندي والفلسفة العربية في القرن الثالث الهجري.

إلا أن نقطة قوة الكتاب لا تكمن في تقصّده وانهماكه وتكلفه بإثبات خطأ تلك الادعاءات وتناقضها، وفق مناهج وقواعد سجالات الحاضر الهوياتية والمسيّسة، بل بالانخراط البحثي المباشر، والتعمق بشكل سلس وتلقائي في حياة العرب وفكرهم ومنطقهم الخاص بهم (ما قبل التلاقي مع اليونان) وفلسفتهم وعلومهم (الطب على الأخص)، على نحو يؤدي إلى نفي الصورة النمطية عن العرب، ليس في حاضرنا ولا في الحقب العثمانية والعباسية والأموية والراشدة والهجرية والمكية، بل في حقبة ما قبل الدعوة.

يعود الكاتب في مبحثه ليس فحسب إلى التاريخ، أي تاريخ السجالات والانشغالات الفكرية ما قبل الدعوة وأثناءها وبعدها، بل يعود إلى اللغة العربية ذاتها، والتي تحوي في لبها الدليل الذي ينفي ادعاءات محمد عابد الجابري بأنها لغة حسية لاتاريخية مشتقة من بساطة حياة البادية. بل هي لغة حضارية ذات ثراء فكري ومعرفي، تطورت قبل الدعوة الإسلامية عبر قرون، حتى أضحت لغة معرفة بالطبيعة والكون والتضاريس والمناخ والفلك والطبابة والصناعة، بإيجادها تفصيل رفيع ودقيق وواسع لأسماء الحالات والظواهر والأشياء والأحياء والمعدات والآلات.

بالعودة إلى سجالات الحاضر في الحضارة، يصبح كتاب الفلسفة والمنطق هذا نصًا ضروريًا للصحفي والعالم السياسي والاجتماعي والمُطّلع اليومي على المنصات الإعلامية الرقمية، خاصةً في هذه المرحلة، التي استسلم فيها الكثيرون، علمانيون وإسلاميون وشعوبيون وشعبويون لأطروحة «صمؤيل هاننجتون» القائمة على تصنيف منطقتنا المنكوبة كجزء من حضارة إسلامية فحسب، قابلة للإدماج في المشروع الحضاري الغربي الليبرالي، دون أخذ أساسية وجذرية العامل الحضاري العربي بعين الاعتبار.

معاناة إيروس

بيونغ- شول هان، ترجمة بدر الدين مصطفى، معنى للنشر والتوزيع، 2021

كريم محمد

يمكنني القول إنّ كتاب الفيلسوف الكوريّ الألماني بيونغ- شول هان «معاناة إيروس» هو بمثابة خطاطة نقديّة موجزة لعالمنا اليوم، دون أدنى مبالغة. ورغم أنّ الكتاب يقعُ في صفحاتٍ لا تتجاوز 70 صفحة، إلّا أنّ كلّ صفحة محتشدة بكمّ غفير من الأفكار الاستفزازيّة التي تشرّح ذواتنا المعاصرة.

يفكّك شول هان ما يُسمّيه بمجتمع الإنجاز، والذات الإنجازيّة التي تغرقُ في الإيجابيّة على كافّة المستويات، متقوقعةً في «جحيم ذاتها» -على حدّ تعبيره- بحيث لا يعود لـ«الآخر» السطوة الإغرائيّة التي يمارسها على الأنا، وتلك الطاقة التي تسحرُ الذات تحت وطأة وجود الآخر. الإيروس، إله الرغبةِ والحبّ، هو صنو الآخر، بينما المجتمع الإنجازيّ المعاصر هو مجتمع الأنا المهووسة بالإنجاز، حتى في ممارستها الحبّ والجنس. فالحبّ -وهو الثيمة الأساسيّة في الكتاب- غدا فعلًا يُنجز، مسلوبًا من أيّ طاقة إيروسيّة. إنّه وظيفة لها بيروقراطيّتها، ولم يعد الحبّ «أخطر مرضٍ على الإطلاق» كما عبّر مارسيليو فيسينو ذات مرّة. إلّا أنّ الذات المعاصرة ليست ذاتًا لأمراضٍ كهذه؛ لقد حوّلت الحبّ إلى مهامّ وأداء وإنجاز، إلى «إيجابيّة» بتعبير شول هان.

يُبصّرنا شول هان في هذا الكتاب بمظاهر ما يسمّيه الذات النرجسيّة في تعاطيها مع شؤون الحبّ والحميميّة والجنس والآخر. فكونها ذاتًا غارقةً في الإيجابيّة، لا تنكر الآخر فحسب، بل تبتلعه في جحيمها، تسلبه «سلبيّته» التي من خلالها يُمارس الآخر رونقه وإغراءه علينا. يتمتّع مفهوم الآخريّة عند شول هان بالسلبيّة، وهو في هذه النقطة متأثرّ بالفيلسوف الفرنسيّ إيمانويل ليفيناس، الذي أفردَ لمفاهيم الآخر والوجه إنتاجه الفلسفيّ.

ومن خلال سلبيّة الآخر هذه، فإنّ خبراتنا المتعلّقة بالحميميّة تغدو ضربًا من التحوّل، فالحبّ بخبراته، وبما يحتويه من قوّة إيروسيّة لا يمكن بحال فصلها عنه، هو قصفٌ عنيف يحوّلنا إلى ذوات أخرى غير التي كنّاها. وهذه الأفعال التحويليّة للحبّ هي ما تشكّل سلبيّته وسطوته، وهي أيضًا ما يغيبُ بالكامل عن تجارب الحبّ اليوم، حيث يظلّ الشخص حبيس نفسه، ولا يسعى إلى الآخر إلّا لتأكيد نفسه فيه؛ لا للانغمار فيه كتجربة تغيّر من الكينونة.

وخلافًا للطرح المهمّ الذي تقدّمه المنظرة الاجتماعيّة إيفا اللوز، لا سيّما في كتابيْها «لماذا يجرح الحبّ؟» و»تفسير سوسيولوجيّ وحميميّات باردة: تشكيل الرأسماليّة العاطفيّة»؛ هذا الطرح الذي يقوم على فكرة نهاية الحبّ، ونقض فكرة كماليّة الآخر التي تسعى إليها الذات المعاصرة؛ فإنّ شول هان يقترح أنّ أزمة الحبّ الحالية لا تنبع بسبب الوفرة المتاحة حاليًا للخيارات أمام الشريك/الشريكة، وإنّما بالأساس من تآكل فكرة الحبّ نفسها نتيجة التصاعد النرجسيّ للذات. إنّه حبّ بلا إيروس، ومنزوع عنه الجنس بالمعنى الإيروسيّ؛ هو بالأحرى، كما يعلّمنا شول هان، «بورنوغرافيا»؛ إزاحة للطقوس المرتبطة بالحب والجنس من أجل الصورة، وتكريس الذات النرجسيّة داخل نماذجها البصريّة في الآخر. فالجنس غدا بورنو، سلعة، مادة لخيالات بصريّة عن الآخر، لا لتجربة روحيّة تنغمس الذات فيها وتحوّلها وتفتك بكيانها. لذلك، نحن لا نعيشُ في حريّة جنسيّة، بل في هيمنة لما يسمّيه شول هان بـ«العُري» بلا جسد يُختبَر. إنّه حبّ قائم على الصّور والبيانات، يستبعد أيّ التباس، وأيّ تجربة طقسيّة يمكن للذات أن تنخرط فيها.

يمدّ شول هان تحليله الذي حاولتُ إيجازه على مجمل المجالات الحميميّة للذات؛ من خيال واستيهام. شكّل الكتاب بالنسبة إليّ بمثابة دعوة إلى التفكير في مفهوم الآخر، لا كاختلاف، بل كديْن وجوديّ لا يمكن سداده إلّا بالانخراط فيه والاشتباك معه. كما أنّ الكتاب، فعلًا، يُرجع الحبّ إلى طاقته الأولى؛ إلى الإيروس الحرّ. أمّا «مجتمع الاحتراق النفسيّ» -وهو عنوان كتاب له أيضًا- فهو مجتمع غارق في الاكتئاب؛ ذلك المرض الذي يصفه شول هان بالمرض النرجسيّ النابع من العجز والدّين في عصر الرأسماليّة «التي لا يمكن النظر إليها باعتبارها ديانةً (كما ذهب إلى ذلك فالتر بنيامين)، لأن الدين لا بد أن يعمل من خلال فكرتيْ الديون (الذنوب) والتكفير (العفو). لكن الرأسماليّة تعمل فقط مع الديون والعجز. إنها لا توفّر أيّ إمكانيّة للتكفير؛ الذي من شأنه العمل على تحرير المَدين من ديونه. استحالة التحرّر من الديون والوفاء بها هما المسؤولان أيضًا عن اكتئاب الذات داخل مجتمع الإنجاز المعاصر. جنبًا إلى جنب مع الإرهاق، يمثّل الاكتئاب عجزًا لا يمكن معالجته للاستطاعة والقدرة، أي أنّه بمثابة إفلاس نفسيّ. حرفيًّا يشير مصطلح «الإفلاس» إلى «استحالة سداد الدَّين».[5]

ماركس في الآركيد: المشغلات والمقابض والصراع الطبقي

جيمي وودكوك، دار هايماركت، 2019

محمد استانبولي

مع النمو الذي شهده قطاع ألعاب الفيديو في السنوات الأخيرة، وتفوقه من حيث الإيرادات على العديد من القطاعات الأخرى في عالم الترفيه، كان من الطبيعي أن تتغيّر طبيعة الحديث حوله وطريقة النظر إليه. في هذا الكتاب، يحاول جيمي وودكوك دراسة ألعاب الفيديو من عدة زوايا، مقسمًا عمله إلى قسمين، يتناول الأول تاريخ وظروف إنتاج الألعاب، والثاني محتوى هذا المنتج وطرق استخدامه.

ينطلق وودكوك في القسم الأول من تقدمة عن اللعب بحد ذاته وتاريخ ألعاب الفيديو، حيث بدأت كتعبير عن التمرد وقتل الوقت، قبل أن تصبح لاحقًا منجمًا للذهب يدر مليارات الدولارات سنويًا. ثم يكمل بعدها تفحص ظروف العمل الشائعة ضمن هذا القطاع، مارًا على استوديوهات تطوير الألعاب وأعمال «الياقات الزهرية» في أقسام التسويق والعلاقات العامة وإدارة المجتمعات، والمصانع التي تجهز المشغلات وغيرها، موضحًا المشاكل التي ترتبط بهذه العملية كساعات العمل الطويل دون تعويض والضغط والإساءات التي تتعرض لها هذه القوة العاملة، وتحمى قانونيًا باتفاقيات عدم الإفصاح، التي يبدأ الموظف بتوقيعها منذ مقابلة العمل الأولى.

يعمل الجزء الثاني من الكتاب على دراسة طرائق استعمالنا لهذه المنتجات، عبر المرور على ثلاثة أنواع شائعة من الألعاب وهي تلك التي تُلعَب من منظور الشخص الأول، وألعاب تقمص الدور والألعاب الاستراتيجية والسياسية، وألعاب الأونلاين. ضمن هذا الشق، ينظر وودكوك إلى العلاقة بين الظروف السياسية والاجتماعية لإنتاج ألعاب الفيديو والمضمون الذي تقدمه، كما هو الحال في الألعاب الحربية وعلاقتها المباشرة بالشركات المصنعة للأسلحة بحسب الكتاب، ويمرّ أيضًا على الغايات الأيديولوجية لهذه الألعاب، إن كانت تخيلات القوة التي تقدمها الألعاب الحربية، أو العالم «المنطقي» الذي تقدمه ألعاب تقمص الدور، وعلاقتها بإمكانات التطور والترقي التي قد لا يجد اللاعب ما يشبهها في حياته، وأخيرًا الفرص والإمكانيات السياسية التي تتيحها الألعاب.

لم تعد ألعاب الفيديو بدعة ما، يعجز الأهل عن فهمها. في الواقع، فإن بعض من شبوا على اللعب باتوا اليوم آباءً وأمهات ممن شغلت ألعاب الفيديو  حيزًا كبيرًا في حياتهم. سيجد هؤلاء القراء، سواء أكانوا مجرد مهتمين بهذا القطاع أو لاعبين شغوفين، الكتاب مثيرًا لأسباب عدة، كاستكشاف خبايا هذه الصناعة، التي لا تتوفر الإحصائيات الدقيقة عنها دائمًا، ومحاولات تحديد موضع ألعاب الفيديو ودورها ضمن عالم اليوم. ورغم أن الكتاب لا يعرض كل نقاطه بذات القوة أو القدرة على الإقناع، إلا أنه بالتأكيد يفتح الباب على نقاشاتٍ جدية حول هذا الموضوع، ويقدم طريقة مختلفة للنظر إلى ألعاب الفيديو وما تعنيه.

فخ النيوليبرالية في دول الخليج إنقاذ اقتصاد أم إغراق مجتمع؟

عبدالله البريدي، مركز دراسات الوحدة العربية، 2018

موسى السادة

بعد عقود من الاكتشافات النفطية والبنى الاقتصادية التي أنتجتها، يتصدر اليوم سؤال التنمية في دول الخليج العربي. سؤال بادرت الطبقات الحاكمة الخليجية إلى الإجابة عليه عبر الارتماء في أحضان النيوليبرالية، وهذا تحديدًا ما يحاول الدكتور عبدالله البريدي، الأستاذ في كلية الاقتصاد والإدارة في جامعة القصيم السعودية، دراسته والمرافعة ضده.

يستعرض الكتاب المآلات السلبية للنموذج الاقتصادي النيوليبرالي في تجارب دولية متعددة، كما يحاول مساءلة مدى نجاعة تبنيه خليجيًا، آخذًا بالاعتبار الخصوصيات السياسية والاجتماعية والتاريخية لهذه المنطقة. وهذا تحديدًا ما يوجب الاهتمام بهكذا مؤلفات، حيث إنها توفر حالة بحثية محلية لبناء نموذج تنمية وطنية ومستقلة. يقول المؤلف في معرض رده على عمليات التبني المعلبة للنماذج الاقتصادية التي تدفع بها المؤسسات النقدية والمالية الدولية، بأن الخيار التنموي الصائب يتطلب تفعيلًا للعلوم الاجتماعية والإنسانية، بشكل يمكننا من القيام بهندسات اجتماعية إيجابية، وما يستلزمه ذلك من تجاوز الإعلام التقليدي التمجيديّ.

يضيف البريدي على ذلك بالتأكيد على ضرورة تجاوز ما يسميه «الاقتصاد المسيّس» والذي يعرفه بأنه «كافة الممارسات التي تبدو كما لو كانت محركة لتروس الاقتصاد ومحققة للعدالة الإجتماعية، وهي في الحقيقة ممارسات عشوائية مؤقتة ومضللة تروم لتحقيق غايات سياسية تكتيكية». وعليه، ومن أجل ضمان عمليات التنويع الاقتصادية الخليجية، فقد وضع الدكتور ما أطلق عليه باقة من التنبيهات، وهي خمسة، تتمثل في تجنب الإفقار، حيث ينبه البريدي مما تنتجه النيوليبرالية من تفاوت حاد في التوزيع العادل للثروات؛ ومحاذرة الغرماء (الديون)، مؤكدًا على سعي النيوليبرالية رفع نسب الديون وهذا ما يجب الحذر منه؛ وتحاشي المغامرات، يستطرد الدكتور هنا في استعراض مخاطر مسارات المضاربات المالية والاستثمارات؛ واتّقاء الكواسر، والمقصود بها الشركات العملاقة العابرة للحدود، محذرًا من شرهها للخصخصة؛ واتّقاء الدخلاء، وهي الشركات الاستشارية التي تقدم الوصفات الليبرالية، داعيًا إلى عدم الاغترار بكل من «الكاريزما الاستشارية» و«الاستشارات ذات الطابع المؤسسي الدولي».

ومن الأمور المهمة الأخرى التي يقدمها الكتاب محاولة تقديم دروس مستفادة من نماذج اقتصادية مغايرة، بروح الدراسات المقارنة، ليستعرض على سبيل المثال جوانب إيجابية من النموذج الإسكندنافي، وما أسماه «اشتمالية النموذج الصيني».

لا تقف إيجابيات الكتاب على كونه دراسة من منطلقات محلية ومستقلة، بل إن هذا بحد ذاته تداخل مع طبيعة اللغة التي كتب بها النص. فلا يستطيع القارئ تجاهل المتانة اللغوية للنص، وتكييفه اللغة العربية لترتقي للمستوى البحثي والعلمي والإنتاج المعرفي. بيد أن المآخذ على الكتاب متعددة، كالتردد في تبني وبناء إطار أيديولوجي واضح ومتين مقابل النيوليبرالية. كما يؤخذ عليه -رغم وضوح النفس العروبي للكاتب- عدم مقدرته على القفز عن واقع التاريخ والجغرافية في تأطير «غرق المجتمع» كما في العنوان خليجيًا، فلا يسع أي متابع ملاحظة أن البحث -وبشكل غير مباشر- قائم على عزل الدول الخليجية عن محيطها العربي الشعبي والحيوي. الملاحظة الأخيرة تكمن في نفس مؤسف لدى الكثير من الباحثين الخليجيين حين التطرق لمسألة العمال المهاجرين، والإشارة لها كخطر اقتصادي وثقافي، دون الحديث عن حلول تتعلق بتوسيع مفهوم المواطنة ليشمل هذه الطبقة الكادحة.

القرطبيّ يستيقظ في الاسكندريّة

عمر زكريا، منشورات ضفاف، منشورات الاختلاف، مجاز، 2021

وفيقة المصري

يُوقظ الكاتب عمر زكريا، في روايته الأولى، الفتنة النائمة في حركة التنوير العربية (النهضة العربية)، مُشرعًا أبوابًا شبه موصدة في وجه الأسئلة الفلسفية الدينية والتاريخية الجدليّة، عبر اصطحابنا إلى مكاتب النّخبة التنويرية، للاستماع إلى آرائهم المتناقضة، وكشف دوافعهم الشخصيّة التي تُحرّك عوالم الصّحافة والنّشر في المجلّات، وغير ذلك ممّا يجري في كواليس المطابع ودور النشر العربية في أوجها، أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين. يأتي ذلك بفعل مقالة كتبها الصحافيّ والروائيّ اللبناني فرح أنطون، صاحب مجلّة «الجامعة» التي تأسّست في الاسكندريّة عام 1899، مُتأثّرًا بما كتب الفيلسوف والمستشرق الفرنسي إرنست رينان في كتابه «ابن رشد والرشدية».

كان الكتاب على جدول القراءات التي وضعتها للتّرويح عن النّفس في صباحات الصّيف القائظة لهذا العام، لكنّني فوجئت بمستوى الكثافة الذهنيّة الهجينة في هذا النص الأدبيّ، وما يحمل في طيّاته من مشاريع فكريّة مركّبة؛ أدبيّة، واجتماعيّة، وتاريخيّة، وفلسفيّة، ودينيّة في آن. وسرعان ما أدركت بعد قراءته أنّه لم يُلبِّ الغرضَ الذي قصدته من أجله في بداية الأمر، بل أكثر من ذلك بكثير. إذ حرّك الكتاب في ذهني أسئلة قديمة حول فلسفة النصّ الأدبي الموازي، وقدرته على تحريك المياه في المستنقع الفكري التاريخيّ الراكد. يُنشىء عمر زكريا عالمًا موازيًا من نصوص موازية (سلسلة مقالات صحافيّة)، يحاول من خلالها استعادة الحقّ العربيّ في التفلسف، ويساءل عبرها سلطة المؤرّخين والفلاسفة في استعادة تاريخنا، بعيدًا عن موجات التأثير الغربيّ، دون إغفال إشكاليات التعامل مع مكر المادة التاريخيّة وتسريدها، وتعدّد أوجه تأويلها. يعرض الكاتب لما سُمّي بـ»مناظرة محمد عبده وفرح أنطون» إشكاليات التأويل الديني والفلسفيّ، وتأثّرها بتوجّهات المجتمع، وفلسفة الردّ وتبعاتها، وغيرها من السّجالات الفكريّة التي ما زالت عالقة إلى يومنا هذا.

أثار إعجابي أيضًا أنّ الكاتب لم يتوانَ عن استغلال صفحات الرواية «من الجلدة للجلدة» كما نقول في تعبيرنا اليوميّ، باعتبارها مساحة أدبيّة هامّة لا يُستهان بدورها في لفت انتباه القارئات والقُرّاء إلى أبعاد ثقافيّة متعدّدة. فمثلًا، يأتي عنوان الكتاب مُصمّمًا بخطوط عربية مستوحاة من الحروف الطّباعية الخشبيّة المستخدمة في المطابع ودور النشر آنذاك، من تصميم الحروفيّ حسين الأزعط، فيما يأتي تصميم الخطوط الداخلية للكتاب على يد المصمّم الحروفي مأمون صقّال. وأعتقد أن العناية بهذه التفاصيل -التي قد يعتبرها البعض هامشيّة- تلائم ثيمة الرواية الرئيسية، فيما تعكس كذلك جزءًا من جماليات الخط في الطباعة العربيّة، التي كثيرًا ما تُسقطها دور الطباعة والنشر هذه الأيام لاعتبارات تجاريّة وربحيّة بحتة. إلى جانب ذلك، تمثّل العناية بفلسفة النصوص المحاذية (الاقتباسات) وحسن انتقاء موقعها بين صفحات الكتاب تحفيزًا للفكر، وكشطًا للتكلّس الذهنيّ الناجم عن تلقائيّة فعل القراءة، في عصر السرعة.

هذه رواية شاهقة، شعرتُ أنّ قراءتها بمثابة صعود بطيءٍ على جبل، يُشرف على جزء يسيرٍ ممّا كان لنا.

مدينة البدايات: الحداثة الشعرية في بيروت

روبين كريزويل، مطبوعات جامعة برينستون، 2019

يزن اللجمي

بعد سنوات من خوضه في أرشيفات المجلات الأدبية اللبنانية لأواسط القرن العشرين، خرج أستاذ الأدب العربي المقارن في جامعة ييل بدراسته هذه، والتي نأمل ألا تتأخر ترجمتها إلى العربية، كونها تقدم -ربما للمرة الأولى- تاريخًا نقديًا بهذا الزخم للحراك الشعري البيروتي في الفترة ما بين استقلال لبنان (1943) واندلاع الحرب (1975). يركز الكتاب على مجلة «شعر» ومؤسسيها يوسف الخال وأدونيس، اللذان اشتهرا مع آخرين من جماعة «شعر» بلامبالاتهم تجاه أحداث كالثورة الجزائرية أو الوحدة السورية-المصرية أو النكسة، وبدفاعهم عن استقلالية الشعر كممارسة لا دخل لها بالسياسة، شاغلها الوحيد تطوير أدواتها وسعيها نحو العالمية، مما أكسبهم ازدراء المشهد المحلي، وأدى إلى تهميش «شعر» واتهامها بالرجعية والعمالة.

رغم تعاطفه الواضح مع هامشية «شعر» وتوجهاتها الليبرالية، يحاول كرزويل تفكيك سردية المجلة عن ذاتها، فيشير إلى انسجامها مع سياق «الحداثة المتأخرة» حول العالم، تلك المرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، حين تخلت الفنون الحداثية من عمارة وفن وشعر عن روحها الثورية لتتصالح مع الحكومات، تمامًا كما تصالح خطاب «شعر» مع ادعاءات الدولة اللبنانية آنذاك بالحياد السياسي وتشجيعها الفردانية والحركة الحرة للبضائع. يحلل كريزويل بعمق بضعة من قصائد الخال وأدونيس، مرفقًا قراءته بعودة إلى ماضي الشاعرين في الحزب القومي السوري الاجتماعي وإلى نصوص مؤسسه أنطون سعادة، ومظهرًا أثر تلك النصوص على القصائد، كما يتتبع أفكار المجلة نحو مصادرها في شعر المهجر وفي الأفكار المحافظة للفيلسوف اللبناني شارل مالك، مفسرًا بذلك علاقة الخال وأدونيس المتعالية بالعرب والعروبة. أما الفصل الأكثر تشويقًا، فيتطرق إلى وكالة الاستخبارات الأميركية وعلاقتها بالمشهد الأدبي البيروتي، من خلال منظمتها «مَجمع الحرية الثقافية»، التي اتخذت من بيروت قاعدةً لها وتقربت من أعضاء «شعر»، قبل أن تقوم بتمويل عدد من المنشورات الشعرية والشعراء العرب الذين ارتبطوا بالمجلة في مراحل مختلفة من مسيرتهم.

بالمقابل، يفشل كتاب كريزويل في تخطي بعض الحدود التي باتت مألوفة لدى باحث أميركي من مقامه. يغيب مثلًا أي ذكر لقضية فلسطين وأثرها على المشهد الأدبي آنذاك، بينما يُعاد تكرار بعض النمطيات عن لبنان، كاختصاره في بيروت، والتي يأخذ إعجاب كريزويل بها منحًا كاريكاتوريًا، مصورًا إياها مثل واحة للحرية والموضة وسط ظلام التخلف العربي، ما يقوده إلى اختصار الحداثة العربية بشعراء غرب بيروت، بينما تبدو القاهرة وبغداد ودمشق بنتاجاتها الأدبية مجرد خرائب غارقة في السلطوية والتعصب القومي. رغم ذلك، يبقى كتاب كريزويل مهمًا لتبديد الغشاوة الأسطورية التي أحاطت بماضينا، وهي ممارسة استحقت بعد الربيع العربي أن تكون خبزًا يوميًا لأي قارئ محبط قد يهتم بمعرفة أن «حداثة» أدونيس ما هي إلا محاكاة متأخرة لحداثة شعراء أجانب مثل إيزرا باوند أو سان-جون بيرس، أو أن بدر شاكر السياب كان واحدًا من آلاف الدمى في يد الاستخبارات الأميركية، أو أن أدباء الحقبة البطولية للحداثة العربية من «ملتزمين» و«مستقلين» لم يكونوا يومًا نتاج عبقريات فردية نمت كالفطر في الأدغال، بل جزءًا من ظواهر تاريخية وعلاقات قوى ما زلنا في بداية لملمة قطعها المبعثرة عبر العالم.

  • الهوامش

    [1]  من مقدمة تاريخ الكذب، جاك دريدا، ترجمة وتقديم رشيد بازي، المركز الثقافي العربي، 2016.

    [2]  تاريخ الكذب، جاك دريدا، ترجمة وتقديم رشيد بازي، المركز الثقافي العربي، 2016، ص 25.

    [3]  في الكذب، القديس أوغسطين، في تاريخ الكذب، جاك دريدا، ترجمة وتقديم رشيد بازي، المركز الثقافي العربي، 2016، ص 244-246.

    [4]  تاريخ الكذب، جاك دريدا، ترجمة وتقديم رشيد بازي، المركز الثقافي العربي، 2016، ص 117.

    [5] معاناة إيروس، ص 21.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية