«هناك، حيث لستَ موجودًا»: قراءة في حياة كمال بلاطة

كمال بلاطة. المصدر: The national news.

«هناك، حيث لستَ موجودًا»: قراءة في حياة كمال بلاطة

الأربعاء 03 شباط 2021

«بعد يوم من العمل، وفي إنصاتي لوقع خطواتي في شارع فالوت بعد أن ترحل المرأة التي تنزه كلبها، لطالما شعرت بالوحشة جرّاء سكون غريب في الهواء، في الشجر، في البيوت. لا، ليس في البيوت، بل في الفراغات التي بينها».[1] 

أغلق الكتاب وأتجه نحو النافذة. أرسل بصري في الفضاء الراكد أمامي، فرانكفورت وحقول الفراولة المغطاة بالثلج، والعمارات الطويلة التي تكاد تتلامس ولكن لا تفعل أبدًا. أقف مطولًا محاولة أن أستجمع هذا الشعور الذي يصفه كمال بلاطة بدقة جراحية، والذي كان ينتابه في تجوله في برلين، المدينة التي توفي فيها في السادس من آب، 2019.

يعرف معظم المطلعين كمال بلاطة، الذي ولد في القدس في عام 1942، كفنان فلسطيني مخضرم أنتج المئات من الأعمال الفنية. حُرم بلاطة من الرجوع إلى القدس بعد احتلالها في حرب 1967، وذلك بذريعة أنه لم يكن موجودًا فيها قبل احتلالها، إذ كان في لبنان حينها. درس بلاطة في روما وواشنطن، وحاز على منح عديدة مثل فولبرايت ومنحة مؤسسة فورد، إلى جانب زمالة فنية في برلين. له كتابات عديدة في الفن المعاصر الفلسطيني، وحرر أعدادًا عن الشعر الحديث والثقافة المعاصرة. إلا أننا حين نطلع على نصوصه التي ينقد فيها الفنون العربية والأوروبية والأدب والموسيقى، تتجلى لنا صورة أخرى لبلاطة، وهي صورة الكاتب البليغ والناقد الفذ.

في كتاب حرره وقدمه الباحث في الفن فنبار باري فلود، تحت عنوان «There Where You Are Not»، ونشر بعد أربعة أشهر من وفاة بلاطة، نقرأ 46 مقالًا في تسعة أقسام، تتخللها لوحات بلاطة وفنانون آخرون يقدم نقدًا لأعمالهم. الكتاب -كما يكشف هامش صغير فيه- يستوحي عنوانه من ليدة أو أغنية «الجوال» الألمانية للموسيقار فرانز شوبيرت، والتي استوحاها من قصيدة للشاعر الألماني جورج شميدت تحمل نفس العنوان.

يقدم بلاطة في أوراقه نقدًا نافذًا لأعمال فنانين وفنانات فلسطينيين، مناقشًا سيرهم الذاتية ورحلاتهم الفنية، والتغييرات التي أحدثوها في الفن الفلسطيني بشكل خاص والعربي بشكل عام، وحتى تأثيرهم على الفن الغربي وتأثرهم به وبتحولاته. يتحدث مثلًا عن أهمية برج حمود والمكوث فيه بالنسبة لبول جرجسيان، وعن رمزية الصبار الخارقة بالنسبة لعاصم أبو شقرا، وأهمية المرآة وتجلياتها عند هاني زعرب، واختراق فلاديمير تماري لحدود العالم الضيق الذي أسقط على الشعب الفلسطيني منذ النكبة وعمله الدؤوب نحو اختراع ماكينة ترسم الفضاءات.[2] أما إلهام إسماعيل شموط للفنانين الفلسطينيين الهواة لاكتشاف أنفسهم على الكانفس، والأيقونوغرافيا عند نقولا الصايغ، فمناقشات آخرى ينبري فيها بلاطة في كتاباته.

نقولا الصايغ، الصبار. 1920

يقدم بلاطة نقدًا أيضًا في النسوية والجندرية، وأعمال وحيوات فنانات فلسطينيات رائدات مثل جوليانا سيرافيم وإميلي جاسر وزلفة السعدي، التي ساهمت من خلال فن البورتريه الذي أتقنته، منذ بداية القرن العشرين، في عكس فكرة أن تغيير مجرى التاريخ والإنسانية يأتي على يد أفراد عوضًا عن جموع من الناس المجردة من الوجوه،[3] وكان ذلك عاكسًا لأصوات نساء فلسطينيات كثيرات في ذلك الزمن. أما صوفي حلبي التي رفضت الانصياع لما كان متوقعًا منها سياسيًا ووطنيًا بحسب بلاطة، فقد عكست علاقتها بالوطن من خلال حواسها،[4] ومنى حاطوم من خلال «منطق التضاربات تخلق من الذاكرة المتحدية فنًا يتخطى حدود الزمن والمكان».[5]

إن «الفنانين الفلسطينيين، مثل الشعراء الفلسطينيين، اجتهدوا في العمل من جانبي الجدار الشائك، الذي عوضًا عن فصل القابعين تحت الوجود الصهيوني والذين أسموهم لاجئين، كان عنصرًا فعالًا جامعًا لثيماتهم الفنية»

يعتبر بلاطة أن دور الفنانين العرب شاق وكبير، ولكنه يقول «كفلسطيني أختار الطريق الأصعب للاستجابة لدعوة التاريخ، فإنني -في حدود معجمي- سأشرع العمل الصعب بالتصريح عما أراه، ليس كما يفعل شاهد على التاريخ، بل كما يجب على فلسطيني ملتزم أن يفعل».[6] نرى أن بلاطة يسلط الضوء في مقالاته على العراقيل الكثيرة التي تصادف الفنانين العرب، وخاصة الفلسطينيين، فيشرح في أكثر من مقال أن مفهوم الاستوديو لم يكن شائعًا في المنطقة العربية، وأن الصهاينة في استيطانهم كانوا قد جلبوه معهم في وقت أبكر من حضوره في المحيط العربي، إلا أنه ظل حكرًا على الفنانين الصهاينة.[7] 

بحسب بلاطة، بدأ الفنان الفلسطيني التعرف على ثقافة الاستوديو بعد العام 1948 فقط، على يد هواة شعروا بعدم القدرة على التعبير عن فظائع النكبة من خلال توظيف الكلمات فقط، ولذلك اتجهوا للفنّ وممارسته في الاستوديو، فكان دافع تطور اللغة الجمالية هو الشعور العارم بالبؤس. وفي الوقت نفسه الذي كان يحاول فيه الفلسطيني التعبير عن التجربة الجمعية للنكبة من خلال فن الاستوديو، كان محرومًا من ممارسته والتعرف عليه من قبل المستوطنين الذي منعوا السكان «الأصليين» من العبور إليه. لذلك فإن مفهوم «الجاليري» وجامع الفن والقيم و«الناقد الفلسفي الذي يتحدث عن اللوحة كأنها قطعة موسيقى» هي نماذج غائبة أيضًا.[8] 

بذلك، يرى بلاطة أن حاجة الفنانين الفلسطينيين للتعبير عن فظائع النكبة كانت قد قادت عملية تطور الفن الفلسطيني.[9] لكنه يضيف أن فترة ما بين النكبة والنكسة، والتهجير الذي حصل في هذه الفترة وبعدها لفنانين وفنانات كثر، عوامل أعاقت تطور فن فلسطيني خاص.[10] وبسبب الفجيعة الجمعية للشعب الفلسطيني فإن «الفنانين الفلسطينيين، مثل الشعراء الفلسطينيين، اجتهدوا في العمل من جانبي الجدار الشائك، الذي عوضًا عن فصل القابعين تحت الوجود الصهيوني والذين أسموهم لاجئين، كان عنصرًا فعالًا جامعًا لثيماتهم الفنية».[11] 

في الوقت نفسه، ينتقد بلاطة هؤلاء الفنانين الذين يبيعون لوحاتهم بمئات الدنانير، حسب قوله، بسبب انتمائهم المزعوم للثورة الفلسطينية، معتبرًا أنه في تجارتهم بهذا التاريخ خيانة.[12] ويلوم بلاطة الصالونات البرجوازية العربية التي تسمح لعدد محدود من الأشخاص بالاستمتاع بهذه الفنون وتحرم آخرين منها. لذلك، فإن الدور الأول للفنانين الفلسطينيين بالنسبة له هو تحطيم هذه المعايير الإقصائية. من هنا، يصبح مفهومًا موقف بلاطة مما يسميه الفن الثوري، الذي يعتبره «ليس نتاج عقيدة ثورية، بل نتاج حياة وأفعال ثورية».[13]

كمال بلاطة، ثورة. 1978

يبتعد بلاطة، في رؤيته وفهمه وتطبيقه للفن عن النماذج التقليدية التي يقع الفضاء الفني غالبًا فيها. فيحاول، من خلال الفن الجامع (Gesamtkunstwerk)، الذي يضمّ أشكالًا مختلفة من الوسائط الفنية، أن يشكل من التناقضات التي تتخلل أعماله فهمًا كوزموبوليتانيًا أو عابر دوليًا للوطنية، طبقًا لفلود، محرر الكتاب.[14] فبلاطة الذي يجمع بين فن الخط والفن التجريدي في أعماله، يؤمن أن على الفنان أن يكون واسع الأفق ومتعدد الأبعاد؛ ناقدًا وعاشقًا ومحاربًا لأجل التحرير.[15] نرى انعكاس ذلك في الابتعاد عن القوالب الجاهزة للفن والفنانين الذي يطبقه بلاطة عمليًا في أعماله، عند شرحه مثلًا عن استدخال المعادلات الرياضية في الأعمال الفنية والهندسة المعمارية. يربط بلاطة بين علوم الرياضيات ولوحاته التجريدية، مشيرًا إلى متتالية فيبوناتشي الرقمية، في رحلة في «اللغة الهندسية»[16] التي لطالما استخدمت لخلق نوع من الاتفاق بين عناصر قد تكون شديدة التنافر، وذلك لتحقيق «التخطيط الشعري».

بلاطة الذي يجمع بين فن الخط والفن التجريدي في أعماله، يؤمن أن على الفنان أن يكون واسع الأفق ومتعدد الأبعاد؛ ناقدًا وعاشقًا ومحاربًا لأجل التحرير.

يطبق بلاطة هذا الفهم العلمي لصناعة اللوحة على نموذج بلقيس؛ المرأة التي تتخذ مكانة كبيرة في أعمال بلاطة، حيث خصص سلسلة كاملة من اللوحات التجريدية مستلهمًا حكايتها، كما ذكرها في مواضع كثيرة في مقالاته. بلقيس مقترنة في كتابات بلاطة بثيمة الماء أو المرآة، طبقًا للرواية القرآنية عنها، فهي تحولت إلى دين سليمان بسبب البلاط الرخامي اللامع الذي خالته ماء.[17]

كانت بلقيس، بذلك، بمجرد وقوفها أمام البلاط البيزنطي المتألق، كمثل المؤمنين الذين يستحضرون معجزة مشي المسيح على الماء.[18] لذا، عمد بلاطة على «بناء هيكل صلب لتراكيب تجسد شفافية، وإبهام المساحات التي طرزت بأسطورة بلقيس مع الوقت»،[19] وذلك من خلال الاستعانة بمعادلة رياضية وهي متتالية فيبوناتشي، التي يستفيض بلاطة في الحديث عن تطبيقها في علوم الرياضيات والهندسة المعمارية وفنه التجريدي.

نرى مزيدًا من جرأة بلاطة كفنان في استدخاله الموسيقى، تمامًا مثل الرياضيات والعلوم الهندسية، في لوحاته التجريدية. فيحكي في مقالة له عن إقامته الفنية في برلين، أنه وخلال استماعه لموسيقار -كان قد تعرف عليه هناك- متحدثًا عن التأليف الموسيقي، شعر فجأة بوجود رابط يجمع بين الموسيقى المعاصرة واللوحات التجريدية من ناحية بنيوية.[20] حتى إنه يقدم في إحدى المقالات شرحًا مفصلًا عن تحويل قواعد اللغة العربية -التي يعبر في مواضع كثيرة في كتاباته عن حبه لها وتأثره بها- إلى نوتات موسيقية. نرى في هذه الجزئية المثيرة للاهتمام امتناع بلاطة عن رمسنة العملية الفنية والفنانين، وتفضيله ترسيخ الممارسة الفنية في سياقات عملية عوضًا عن إيحاءات إلهامية. يظهر ذلك جليًا في لوحة «المعراج»، التي يشرح بلاطة أنه حاول من خلالها اجتياز الحدود والتعبير عن العبور الأسطوري بين المكان المادي والميتافيزيقي. «من خلال فنون الهندسة أحاول بناء المكان غير المجزأ في قلبي»،[21] يقول بلاطة.

بذوبان الحدود في اللوحة، يبرز المكان كثيمة طاغية في أعمال بلاطة، خاصةً في توظيف الرسوم البيانية والأشكال الهندسية فيها. فيقول عن علاقته بالمكان إن «ذكرى ملء مربع بعد مربع بلوينات هادئة لطالما استدرجتني وأنا واقف على بعدٍ مروع من البلد التي ولدت فيها».[22]

كمال بلاطة، المعراج. 1991

في الوقت نفسه، لا يرى بلاطة أن عملية الخلق تتأتي من الفنانين فقط، بل من الكتاب أيضًا. فنموذج الشاعر مهيمن وشديد الأهمية بالنسبة له، لكونه مولعًا بالأدب، وخاصةً الشعر العربي. نسمع بلاطة يتكلم في مواضع كثيرة من مقالاته عن دور الشاعر، فينشأ عن ذلك استدخاله ممارسات ونماذج أدبية في أعماله. يتساءل مثلًا عن «المدى الذي بالإمكان أن تنجح فيه اللوحات التجريدية بتحويل شفافيتها واختلاطاتها المساحية وإيحاءات الحركة إلى استعارات»،[23] ويرى أن محمود درويش قام من خلال شعره بعملية تحريرية.[24]

يضيف بلاطة: «كانت الكتابة باللغة العربية رفضًا لإخفاء الهوية وتأكيدًا على الارتباط بالثقافة الموروثة للأرض. هذا الارتباط مع اللغة كان مهمًا للمحافظة على للثقافة الأصلية».[25] بالنسبة له، ليست اللغة العربية مجرد موروث ثقافي ووسيلة تعبيرية، بل هي رباط مع الأرض، وملاذ آمن وحافظ للثقافة الأصلية، أي أنها فضاء قادر على مجابهة النسيان والذوبان.

يتوسع بلاطة في الحديث عن تاريخ اللغة العربية وتاريخ الثقافة المحكية لدى العرب قديمًا، وهيمنتها على الوسائط التعبيرية الأخرى حتى هذا الوقت، ويستعين بفرانز فانون لشرح تطور اللغة عند الشعوب المقموعة من العالم الثالث.[26] يسلّط بلاطة الضوء أيضًا على العلاقة التي تجمع الفن والشعر في أكثر من موضع، والتي يشيد بدورها في الحفاظ على الذاكرة الجمعية،[27] فيشرح مثلًا كيف تأثّر فنانو مخيمات اللجوء الفلسطينيون إلى حد بعيد بالصور الفنية التي تخللت الشعر في زمنهم المعاصر.[28] ويقدم في إحدى المقالات وصفًا دقيقًا، مستعينًا بالرسومات، للتجانس البصري في كلمة «أنا» بحروفها العربية.[29]

كمال بلاطة، نون الانسان، 1975.

يشيد بلاطة بعملية تطويع اللوحات لتخليد المكان والرجوع إليه، لكنّ الرغبة بتحريك وإعادة خلق المكان في لوحاته لا تأتي من فراغ، فمقالاته رغم كونها أوراقًا نقديةً شديدة الأهمية، هي في الوقت ذاته مذكرات لتجواله القسري، ومحاولات للتفكير فلسفيًا في حالة التغريب هذه.

يرى بلاطة أن المسافة التي تفصل الفنانين الفلسطينيين عن أرض فلسطين التاريخية كانت تحدد النمط الفني لديهم، فمن سكن بالقرب من الأرض كانت لوحاته تصويرية، ومن ابتعد عنها كانت لوحاته تجريدية،[30] فيما سعى الفنانون المنفيون إلى «اختراق البعد الذي يفصلهم عن أماكن ولادتهم»[31] من خلال الفن. يتعدى هنا الفن كونه مجرد وسيلة تعبيرية لحالات نفي وتغريب فردية وجمعية، ويصبح بحد ذاته آلة تحكم بالزمان والمكان، تمامًا كما يتعدى الفنان كونه إنسانًا موهوبًا بصريًا ليصبح المقاتل والسياسي والعاشق والناقد.[32] لذلك يصرح بلاطة: «بسبب منعي من زيارة البلد التي ولدت فيها لمدة أربعة عقود، فقد كانت اللوحات هي المكان الذي نشدت بيتًا فيه، وأشيد به القدس التى فقدتها».[33]

«كانت الكتابة باللغة العربية رفضًا لإخفاء الهوية وتأكيدًا على الارتباط بالثقافة الموروثة للأرض. هذا الارتباط مع اللغة كان مهمًا للمحافظة على للثقافة الأصلية»

تكشف مقالات بلاطة أيضًا عن وعي نافذ للعناصر الاستشراقية الصادرة عن الفن الأوروبي والصهيوني والعربي أيضًا. فينتقد مثلًا الكاتب المصري الملقب بـ«رائد أدب الأطفال»، كامل كيلاني، الذي يركز على رسوم كتب الأطفال المدموغة بثيمات استشراقية.[34] كما يشرح عدم قدرة الفنانين الصهاينة على قراءة الأرض والمساحة في أعمالهم الفنية، إذ نجد هوسًا بالتفاصيل فيها،[35] تمامًا كما كان الأوروبيون بداية القرن العشرين يركزون على التباين المزعوم بين أوروبا الحديثة والحياة البرية في البلدان العربية.[36] 

يحاجج بلاطة أن رمسنة المناظر الطبيعية الفلسطينية والتلذذ بنقل تفاصيلها، مثل لون الحجر والسماء والشجر، كانت نوعًا من الترف الباذخ الذي عني بالتمتع به الفنان الأوروبي، الذي قدم مع الصهيوني المستوطن، وليس الفلسطيني الذي كان يكافح للبقاء على قيد الحياة.[37] تسلط هذه الجزئية المثيرة للاهتمام الضوء على تخطي بلاطة نفسه كفنان كبير وممتهن لهذه الجماليات الباردة أو الميتة في الفن، فتصبح اللوحات التي تعكس الطبيعية الفلسطينية بتفصيل مجهد مجرد برهان على انفصال المستوطن عن الأرض وفضائها، بعد كل هذه السنوات، عوضًا عن رؤيتها كلوحات فنية معزولة عن الواقع السياسي وواقع الاستيطان الدموي. ولذلك، فإن الإسرائيلي، بالنسبة لبلاطة، عمد إلى إعادة تدوير النمط الفني الأوروبي، من خلال إنتاج اللوحات الذاتية كمحاولة لاحتلال الطبيعة والفضاء، بالتزامن مع تقديم الفلسطيني كنقيض لليهودي المتحضر، من خلال رسم الفلسطيني في قالب القصص الإنجيلية، حيث يبدو دائمًا في رداء بدوي بوجه تعيد تقاسيمه إنتاج الصورة الغربية النمطية لملامح العرب.

يوضح بلاطة أيضًا أن الأدوات حتى لم تسلم من هذا الانفصال وعدم الفهم الذي يدمغ الوجود الصهيوني في الفضاء الفلسطيني؛ فسجادة الصلاة تعلق الآن كتحفة فنية في ملاهي تل أبيب، «والأحواض الحجرية وصناديق التخزين التي كانت تستخدم من مطابخ الأمهات أو مزارات القرى قد تضاءلت لتصبح مجرد أغراض زينة في فضاء غريب».[38] فنرى هنا تطبيقًا واعيًا وحثيثًا لمفهوم الاستشراق لدى بلاطة، إذ يطبق المفهوم ليس فقط على الأدب العربي والفن الصهيوني؛ بل يتجلى عنده أيضًا في عدم قدرة المستوطن على فهم غرض الأدوات وتاريخها.

يجابه بلاطة قليلًا هذا الشعور بالوحشة والنفي عند انضمامه في عام 1969 للباحث العراقي وليد خضوري، لإصدار النسخة الأمريكية لمجلة «فلسطين حرة» من لندن، وهي أول مجلة بلغة أجنبية «تحمل راية المقاومة الفلسطينية»، حيث عمل في المجلة في مجال الجرافيك والنشر، وحتى في جمع الموسيقى والتقديم لمنح. «من خلال العمل على فلسطين حرة، شعرت بالوئام مع آخرين غرباء ومعدومي البلاد مثلي».[39] 

آنذاك، عرض نبيل شعث، الذي كان حينها محاضرًا في الجامعة الأمريكية في بيروت ورئيس مركز التخطيط الفلسطيني، على بلاطة الإشراف على مشروع كتب للأطفال في بيروت، سيصبح فيما بعد «دار الفتى العربي». كان بلاطة مسؤولًا عن إدارة الجوانب الفنية والتقنية للمشروع، وجهد لأن يكون المحتوى صادقًا وعاكسًا فعلًا لتجارب ومهارات الأطفال، فقام بتجارب كثيرة لاختيار أفضل ما هو موجود من الورق وفن الخط ليصبح المحتوى مثيرًا للأطفال. كان إلى جانب ذلك يقضي الوقت مع الأطفال اللاجئين ويستمع لقصصهم، ويطلب منهم الرسم، حتى شكلت هذه المجموعة ما يعادل «هيئة تحرير من الأطفال».[40] 

بالنسبة لبلاطة، عمد الإسرائيلي إلى إعادة تدوير النمط الفني الأوروبي، من خلال إنتاج اللوحات الذاتية كمحاولة لاحتلال الطبيعة والفضاء، بالتزامن مع تقديم الفلسطيني كنقيض لليهودي المتحضر.

إلا أن هذا الشعور بالنفي ما فتئ أن تضاعف عند بلاطة بسبب آراءه المختلفة عن كثيرين في المشروع. فقد رفض رفضًا قاطعًا في إحدى المرات إدراج قصة مصورة عن طفلة فقدت ذراعها بسبب عدوان إسرائيلي، يزورها فدائي في المستشفى، فتأخذ من يده بارودة بدل الدمية التي كان يعرضها عليها في يده الأخرى.[41] يروي بلاطة أنه في اجتماع ما، وبعد أن كان قد أدرج صورًا لأعمال الأطفال الفنية في المجلة، هزء شعث وآخرون به بالقول «هل جلبناك من أمريكا حتى تقلد رسم الأطفال؟»[42] ما أضحك باقي المجتمعين. لم يتوقف شعث عند ذلك، بل استبدل بلاطة لاحقًا برسام مصري دون إعلامه.

لاحقًا، في عام 1988، طلب بلاطة من أصدقائه دعوة الأطفال في مخيمات اللجوء في الداخل الفلسطيني إلى الرسم، حيث قام أصدقاؤه بعد ذلك بإرسال هذه الرسومات له. فاستطاع أن يدرس من رسوماتهم -التي تأثر عميقًا بها-، كيف تُنسج الرواية الفلسطينية بقصص بطولات الأطفال الفلسطينيين مع الأماكن والوقائع الحقيقية.[43] ويشير بلاطة إلى أن أعمال هؤلاء «الفنانين» -كما يسميهم- تعكس ثلاثة أطر من الواقع الفلسطيني: الحياة الرعوية والأرض الموروثة بكامل تألقها، والحياة اليومية تحت الاحتلال الإسرائيلي وكرامة وصمود القابعين تحته، وصور عن الحلم الجمعي للفلسطينيين.[44]

لم يخض بلاطة في ممارسات الترفع والفوقية التي يمارسها الكثير من الفنانين والمثقفين والكتاب العرب. فهو رأى أن كل ما يفعل من أجل «الصراع» مهم وثمين،[45] ولذلك لم يمانع العمل على مشاريع اعتبرت تجارية، مثل تصميم ملصقات وقمصان وأزرار، إلى جانب المناشير ومطبوعات أخرى.

دفن بلاطة في 19 آب 2019 في القدس، التي حلم لعقود بالرجوع إليها. وبذلك أتم الفنان الجوال رحلة طويلة وشاقة من الغربة والتهجير، وألم فقد الأصدقاء الذين تتناثر قصص موتهم يافعين في نصوصه. وهكذا يكون خير جليس في زمن غربتي كتاب، دخلت من خلاله إلى حياة كان الفن والكفاح الصادق من أجل هوية ووجود فلسطينيين ملتحمين أبدًا فيها.

  • الهوامش

    [1] Kamal Boullata, There Where You Are Not, ed. Finbarr Barry Flood (Munich: Hirmer Verlag GmbH, 2019), 53

    [2] Boullata, There Where You Are Not, 188.

    [3] Boullata, There Where You Are Not, 250.

    [4] Boullata, There Where You Are Not, 252.

    [5] Boullata, There Where You Are Not, 258.

    [6] Boullata, There Where You Are Not, 153.

    [7] Boullata, There Where You Are Not, 157.

    [8] Boullata, There Where You Are Not, 173.

    [9] Boullata, There Where You Are Not, 157.

    [10] Boullata, There Where You Are Not, 159.

    [11] Ibid.,

    [12] Boullata, There Where You Are Not, 172.

    [13] Boullata, There Where You Are Not, 173.

    [14] Boullata, There Where You Are Not, 19.

    [15] Boullata, There Where You Are Not, 22.

    [16] Boullata, There Where You Are Not, 34.

    [17] Boullata, There Where You Are Not, 286.

    [18] Ibid.,

    [19] Boullata, There Where You Are Not, 288.

    [20] Boullata, There Where You Are Not, 50.

    [21] Boullata, There Where You Are Not, 36.

    [22] Boullata, There Where You Are Not, 43.

    [23] Boullata, There Where You Are Not, 59.

    [24] Boullata, There Where You Are Not, 88.

    [25] Ibid.,

    [26] Boullata, There Where You Are Not, 155.

    [27] Boullata, There Where You Are Not, 336.

    [28] Boullata, There Where You Are Not, 210.

    [29] Boullata, There Where You Are Not, 236.

    [30] Boullata, There Where You Are Not, 212.

    [31] Ibid.,

    [32] Boullata, There Where You Are Not, 171.

    [33] Boullata, There Where You Are Not, 284.

    [34] Boullata, There Where You Are Not, 72.

    [35] Boullata, There Where You Are Not, 108.

    [36] Boullata, There Where You Are Not, 103.

    [37] Boullata, There Where You Are Not, 157.

    [38] Boullata, There Where You Are Not, 109.

    [39] Boullata, There Where You Are Not, 62.

    [40] Boullata, There Where You Are Not, 76.

    [41] Boullata, There Where You Are Not, 72.

    [42] Boullata, There Where You Are Not, 76.

    [43] Boullata, There Where You Are Not, 195.

    [44] Boullata, There Where You Are Not, 196.

    [45] Boullata, There Where You Are Not, 81.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية