«قِبلة الثورات»: عن حالة ثورية لم تستمر، وكتاب لم يفِ تطلعات قارئيه

الأحد 04 كانون الأول 2022
استقلال الجزائر
جزائريون خلال مظاهرة مطالبة بالاستقلال في 11 كانون الأول 1960. تصوير جين كلاود كومبريسون. أ ف ب.

لم تكن الثورة الجزائرية مجرّد حركة تحرر وطني عالمثالثية نجحت في طرد المستعمر (ولو كانت كذلك لكفاها)؛ ولكنها كانت كذلك نموذجًا مُلهِما لبناء التنظيم الثوري من كتائب المجاهدين ومن شظايا ما تبقى من الثورات التي قمعها قبل ذلك الفرنسيون، ومن أنشطة المثقفين والدبلوماسيين الذين أسسوا للجزائر كيانًا سياسيًا وفرضوه، يدًا بيد مع رفاقهم المجاهدين، على المحافل الدولية من قَبل حتى أن تصبح الجزائر دولةً ذات سيادة أو ينسحب الفرنسيون.

استضافت جبهة التحرير الوطني الجزائرية المناضلين من شتى البقاع في معسكرات تدريبها في المغرب وتونس، ثم أقامت الجزائر بعد استقلالها معسكرات التدريب لحركات التحرر الوطني الإفريقية بالذات، وأمدّت المناضلين من مختلف أنحاء العالم بالسلاح وجوازات السفر والشعارات.

وكانت الثورة الجزائرية هي الحاضنة الفكرية والنضالية التي لجأ إليها فرانز فانون هاربًا من عقدة المستعمَر (التي كان فانون قد أحسن تشخيصها وتحليلها في كتابه «بشرة سوداء، أقنعة بيضاء» ولكنه لم يجد منها مهربًا حتى هرب عمليًا من موقعه في الجهاز الطبي للجيش الفرنسي وانضم إلى جبهة التحرير الجزائرية ليجد في العمل الثوري شفاءً سياسيًا ونفسيًا من الاستعمار) ثم أصبحت دولة ما بعد الاستقلال في الجزائر ملجأً للجناح الدولي لحزب الفهود السود، وفيها التقى تشي غيفارا بأبو عمار وأبو خليل الوزير، وتوطدت العلاقة بين الفهود السود وبين فصائل الثورة الفلسطينية. وكانت الجزائر العاصمة ملتقى للأجنحة العسكرية والدبلوماسية لثورات التحرر الوطني وللأنظمة الداعمة لهذا التحرر.

كل هذا جعل أميلكار كابرال، قائد حركة التحرر الوطني في غينيا بيساو، الذي أشعل حرب التحرير في بلاده بعد عام واحد من استقلال الجزائر، والذي حظيت ثورته بحضور دبلوماسي دولي قبل استقلال بلاده استنادًا إلى دعم دول إفريقية مثل غانا والجزائر، جعله يقول في حماسة، في مهرجان التضامن الإفريقي في الجزائر العاصمة سنة 1969: «خذ قلمًا وسَجِّل: يحج المسلمون إلى مكة، والمسيحيون إلى الفاتيكان [هكذا] أما حركات التحرر الوطني فإنها تحج إلى الجزائر!».

يستلهم كتاب «مكة/ قبلة الثورات: الجزائر، نزع الاستعمار، ونظام العالم الثالث» لجيفري جيمس بيرن هذه المقولة. وبينما يَعِد عنوان الكتاب ومقدمته بشرح هذه الحالة الثورية الأممية التي شهدتها الجزائر، فإن الكتاب لا يفي إلا بالنزر اليسير من هذا الوعد.

دروس في المقاومة الدبلوماسية

يتعجب جيفري جيمس بيرن (ونَعجَب نحن) من شجاعة جبهة التحرير الجزائرية التي «انتقلت من المناقشات الأولية إلى إعلان الحرب الشاملة في بحر ستة أشهر» لتعلن حرب التحرير ضد الاستعمار الفرنسي من إذاعة صوت العرب (من القاهرة) في الأول من تشرين الثاني عام 1954، من قبل حتى أن تحقق أي انتصارات عسكرية حاسمة على الأرض. نعلم بالتأكيد أن الثورة بعد ذلك انطلقت وتوسعت وأحرزت الانتصارات وتحملت الهزائم إلى أن وصلت إلى التحرير في 1962؛ إلا أن هذه البداية، التي يوردها بيرن بشيء من الاستهجان، كانت دليلًا على تضافر العمل السياسي والدعائي مع العمل العسكري والميداني.

أخذ الجناح الدبلوماسي لجبهة التحرير الوطني الجزائرية الثورة إلى ساحة العلاقات الدولية منذ قمة باندونج سنة 1954 (قبل إعلان حرب التحرير الشاملة ببضعة أشهر)، والتي حضرتها الجبهة بصفة مراقب. نجحت جبهة التحرير في فتح بعثات دبلوماسية ومكاتب خارجية في الكثير من العواصم (بما في ذلك نيويورك ذاتها، وكان هذا مهمًا بطبيعة الحال لوجود مقر الأمم المتحدة هناك)، وكان يحتضنهم الرأي العام وبالذات صحف اليسار في العواصم التي أبدت جمودًا رسميًا. وكان الصعود الدبلوماسي لجبهة التحرير على أشده في إفريقيا بالذات.

فرضت الجبهة وجودها في مؤتمر «الدول الإفريقية المستقلة» في العاصمة الغانية أكرا في عام 1958، والذي لم تكن الجبهة قد دعيت إليه، إذ لم تكن الجزائر قد استقلت بعد. ساهم وجودهم هذا في حشد رجال السياسة في إفريقيا لصالح قضيتهم، وانتهى المؤتمر بدعوة فرنسا إلى الانسحاب من الجزائر ودعوة حلفائها إلى الكف عن دعمها عسكريًا. ثم في مؤتمر «كل الشعوب الإفريقية» (في العام نفسه في أكرا كذلك) والذي كانت الجبهة قد دعيت إليه هذه المرة (وشاركت فيه بخطاب مؤثر ألقاه فرانز فانون) نجحت الجبهة في فرض مسألة الكفاح المسلح على جدول أعمال المؤتمر. وتصاعدت هذه الجهود على الساحة الدبلوماسية الإفريقية حتى أثمرت في مؤتمر أديس أبابا في عام 1960 اعترافًا بجبهة التحرير الوطنية حكومةً رسمية في الجزائر، وفي بلغراد عام 1961 حين حضرت جبهة التحرير قمة عدم الانحياز، لا بصفة مراقب كما جرت العادة مع حركات التحرر، ولكن بعضوية كاملة. كل هذا قبل أن ينسحب الفرنسيون وتنال الجزائر كامل استقلالها في عام 1962.

هذه الجهود الدبلوماسية-الثورية أدت إلى تأسيس «فيلق المتطوعين الأفارقة» الذي تبناه مؤتمر «كل الشعوب». وبينما كانت فرنسا تشدد حصارها العسكري على الجزائر. كانت جبهة التحرير الجزائرية تدير معسكرات التدريب في المغرب وتونس ومالي. وشيئا فشيئا أصبحت ثورة الجزائر داعمة للحركات الثورية والتحررية في سائر إفريقيا.

كان من الطبيعي في هذه الظروف أن تجد ثورة الجزائر تقاربا مع المعسكر الشيوعي. حيث كانت حماسة الجزائريين شديدة لانتصار الثورة في كوبا وعبروا عن ذلك بنوع من الرومانسية (اعتبرها بيرن استشراقية) ترى في النموذج الكوبي صورة لما يهدفون أن يروا الجزائر عليه. كان هناك تقارب كذلك مع الصين. وكان الاتحاد السوفيتي يرسل المساعدات إلى جبهة التحرير عبر وسطاء، وإن ظل مترددًا في دعم الثورة الجزائرية بشكل رسمي ومباشر أو أن يعترف بحكومة جبهة التحرير.

ثم بدأت أزمة الكونغو التي لجأ فيها المعسكر الغربي إلى أبشع الوسائل لوأد تحرر الشعب الكونغولي، وصولًا إلى اغتيال باتريس لومومبا وإذابة جسده في حمض الكبريت. في أثناء هذه الأزمة، وبينما أدار سائر العالم ظهره لحركة التحرر في الكونغو، قبل لومومبا بالدعم العسكري السوفيتي، ووجد أنصار التحرر في إفريقيا أنفسهم أقرب إلى المعسكر الشيوعي. يسجل الكتاب هذه المحطة المهمة ويدرك تبعاتها، ولكن يختلط عليه الأمر فيخيل إليه أن لومومبا هو الذي استفز الأمريكيين والغرب (لا أن شبكة مصالح إمبريالية كانت تقتضي أن يستمر نهب الألماس من الكونغو لكي لا تتأثر الأسواق في الغرب) ويخفف من وطأة الأحداث إلى أن يصل إلى اغتيال لومومبا فيقول إنهم «أعدموه في الأدغال ودفنوه في مكان غير معلوم».

هذا التلاعب بالتفاصيل (الذي يصل إلى درجة الكذب عند الحديث عن «دفن» لومومبا المزعوم) لا يمنع بيرن من أن يفطن إلى أن هذه الأحداث جعلت جبهة التحرير الجزائرية، التي كانت من بين الداعمين للومومبا، تتقارب أكثر مع الاتحاد السوفيتي، وأن التنافس الصيني السوفيتي جعل كلا من قطبي العالم الاشتراكي يريد أن يظهر بمظهر الداعم للتحرر في الجزائر، وأن الولايات المتحدة نفسها أدركت أن أي عداء لجبهة التحرير الجزائرية سيكرس عزلتها إفريقيًا بعد أن ظهر جليًا في الكونغو عداءها لتحرر شعوب إفريقيا. كان هذا الجهد الدبلوماسي يشن جنبًا إلى جنب مع الجهد العسكري، أحيانا يعاضده، وأحيانا يسبقه، ودائما يبث فيه الروح.

أحد الأسباب التي دفعت جبهة التحرير إلى تكثيف جهودها في الخارج كانت زيادة التحصينات الفرنسية التي ضربت على الجزائر نوعًا من حصار نجح مؤقتًا في خنق الجهد العسكري والميداني للثورة.

في هذه الأثناء، سنة 1960، اندلعت «مظاهرات القصبة» التي جددت التأييد الشعبي الجزائري لجبهة التحرير وبرنامجها التحرري، وأعادت تأكيد رفض جموع الشعب الجزائري لمشاريع فرنسا وبرامجها. لا شك أن مظاهر التأييد الشعبية تبث في حرب التحرير روحًا جديدة، ولكن الكتاب يتعامل مع هذه الأحداث كما لو كانت صدفة تاريخية أنقذت جبهة التحرير التي كانت تستعرض قدراتها دوليًا من دون أن يكون للثورة وجود على الأرض، لا أن الأحداث كانت جزءًا من ثورة متواصلة.

في هذه الظروف لجأت جبهة التحرير إلى الراديو فأسست إذاعة «صوت الجزائر» وأنشأت محطات الدعم والتقوية لتتغلب على التشويش الفرنسي وتغطي الإذاعة سائر أنحاء الجزائر وتصل إلى بلاد أخرى مجاورة ومتعاطفة.

وإلى جانب دوره في الدعاية الوطنية، أصبح الراديو نوعًا من سلاح الإشارة الذي يربط ما بين الجزائريين في الداخل والأجنحة الدبلوماسية في الخارج. وبينما كانت الثورة ترى من بين مهام جهاز الراديو توحيد شعب الجزائر، فإن بيرن يرى أن هذا كان في الواقع تقسيمًا لشعب الجزائر، إذ فرق بين الجزائريين «المسلمين» (وهو الوصف الذي يستخدمه بيرن والكتاب الغربيون عمومًا للإشارة إلى أهل الجزائر عربًا وبربر دونًا عن اليهود الذين جُنَسوا فرنسيًا) وبين المستوطنين الفرنسيين!

دروس إفيان وطرابلس

جلس الفرنسيون مع ممثلي جبهة التحرير في الجزائر في قرية إفيان للتفاوض على شروط الانسحاب. لم يلقِ ثوار الجزائر البندقية بينما كان رفاقهم يتفاوضون، بل على العكس من ذلك استمر العمل على الجبهتين بتنسيق تام. وفشلت جهود فرنسا في استغلال هذه الفرصة لزرع بذور الشقاق ما بين التكتلات المختلفة داخل جبهة التحرير، وفشلت كذلك في فرض أطروحات اقتصادية تضمن استمرار الهيمنة الاستعمارية بشكل غير مباشر.

كان أعضاء جبهة التحرير واعين إلى أن الخروج من براثن الهيمنة الاستعمارية، خاصة في ظل سيطرة طبقة من المستوطنين الفرنسيين على الأراضي والوظائف العليا، يتطلب إعادة توزيع للثروات وللأراضي بالذات؛ ودار جزء من المفاوضات حول أملاك المستوطنين ودورهم في البلاد، وكانت جبهة التحرير تبدي انفتاحا على مبدأ دمجهم في الجزائر الجديدة. ثم فجأة بدأ خروج المستوطنين بأشكال جماعية من الجزائر («تركوا أرض ميلادهم في خروج جماعي مذعور» كما يقول بيرن الذي يتخبط في توزيع تعاطفه ما بين أصحاب الأرض وبين المستوطنين)، استباقًا لانسحاب القوات الفرنسية، وأصبحت الحاجة إلى إعادة توزيع الموارد واقعًا ملحًا، فبدأت ظاهرة التسيير الذاتي للأراضي بشكل تعاوني، وأصبح اليساريون الحالمون يتوافدون من مختلف أنحاء العالم ليشهدوا هذه التجربة.

لم تكن الثورة الجزائرية مجرّد حركة تحرر وطني عالمثالثية نجحت في طرد المستعمر، ولكنها كانت كذلك نموذجًا مُلهِما لبناء التنظيم الثوري من كتائب المجاهدين ومن شظايا ما تبقى من الثورات التي قمعها قبل ذلك الفرنسيون.

كانت مفاوضات إفيان في مرحلة ما ضرورية لتنظيم انسحاب فرنسا ونزع اعترافها بجبهة التحرير، ثم عندما استنفدت أغراضها ووجدها بعض أعضاء الجبهة عبئًا تمكنوا من تخطيها. ففي مقابل برنامج إفيان تشكل تحالف من الجناح الأكثر اشتراكيةً في جبهة التحرير، كان قطباه أحمد بن بلة وهواري بومدين. اجتمع هذا الجناح في العاصمة الليبية وخط برنامجًا اشتراكيًا خاصًا بالوضع الجزائري عُرف بـ«برنامج طرابلس».

كان بن بلة يرى أن شعار «الاستقلال» وحده من دون برنامج تحرر اقتصادي هو شعار فارغ. وكان بومدين مسؤولًا عن جيش التحرير الرابض على الحدود، ولهذا كانت المسألة شبه محسومة لصالح هذا الفريق. وذات يوم في شهر أيلول من العام 1962 أطاح بن بلة وبومدين بخصومهم.

وبينما ينظر الكتاب إلى هذه الأحداث كما لو كانت محض اقتتال داخلي وبداية لسلسلة قلاقل ما بعد الاستقلال في الجزائر، وبغض النظر عن تفاصيل الصراعات الداخلية بين أعضاء جبهة التحرير وعلى أرض الجزائر، فإن هذه الأحداث كانت مرحلة مهمة في طريق التحرر من الهيمنة الاقتصادية للاستعمار، والختم الميداني والعسكري الذي ضمن قيام ما يمكن وصفه بالاشتراكية الجزائرية.

غياب الثورات عن كتاب «قبلة الثورات»

ينشغل الكتاب بسرد التاريخ الدبلوماسي لجبهة التحرير الوطني الجزائرية وللجمهورية الجزائرية؛ حتى إذا وصل إلى ذكر المنظمات الثورية التي استقر بها المقام في الجزائر أو مرت بها لم يزد على فقرة واحدة تتحدث عن بعض العموميات عن معسكرات التدريب وعن العلاقات الدبلوماسية التي نشأت ما بين بعض البعثات الدبلوماسية في الجزائر وبين منظمة التحرير الفلسطينية، وتوسط الجزائر في مد العلاقة ما بين حركة التحرر الوطني في أنجولا وبين الصين الشعبية، ثم عن اتصالات مع الحركات الثورية في أمريكا اللاتينية. تُختزل هذه المعلومات المهمة في فقرة واحدة تخلو من أي تفاصيل أو بحث جاد فيما جرى.

صحيح أن الكتاب يقدم تاريخًا دبلوماسيًا مهمًا لثورة الجزائر وجمهوريتها، وأن هذا التاريخ الدبلوماسي يُظهر في بعض الأحيان الروابط التي امتدت ما بين الجزائر والأنظمة الثورية في كوبا وفيتنام الشمالية وغيرهما، وهذه الروابط بدورها تلقي بعض الضوء على الدور الذي لعبته الجزائر في دعم حركات التحرر في إفريقيا، إلا أننا نتوقع من كتاب عنوانه «قبلة الثورة» أن يمدنا بمعلومات عن الثورات التي اتجهت إلى هذه القبلة، أو على الأقل عن شعائر حج الثورات إلى هذه القبلة وما استلهمته منها؛ حتى العلاقة مع أميلكار كابرال صاحب المقولة التي اشتق منها مؤلف الكتاب عنوانه لا يستكشفها الكتاب. فيظهر اسم كابرال أربع مرات فقط في متن الكتاب، اثنتين لنسبة مصطلح «قبلة الثورات» ثم مرتين عن جهود دبلوماسية جزائرية طالت حركة التحرر التي كان يقودها كابرال.

ينشغل الكتاب بسرد التاريخ الدبلوماسي لجبهة التحرير الوطني الجزائرية وللجمهورية الجزائرية؛ حتى إذا وصل إلى ذكر المنظمات الثورية التي استقر بها المقام في الجزائر أو مرت بها لم يزد على فقرة واحدة.

ولا يأتي ذكر حركة الفهود السود ولا مرة واحدة! ربما كان ذلك لأن الكتاب ينتهي (ويبدأ) بانقلاب هواري بومدين على أحمد بن بلة سنة 1965 بينما بدأ نشاط الفهود السود في الجزائر سنة 1969. لكن الكتاب لا يبرر، لا في عنوانه[1] ولا في إطاره النظري أو منهجيته، اختياره لهذه الحقبة بالذات، إلا أن يكون أراد أن يتخذ من الانقلاب على بن بلة مشهدًا من مشاهد الإثارة يعوض بها قارئه، على طريقة الأفلام الأمريكية، عن ضحالة المضمون.

يحاول الكتاب الإيحاء بأن هذا الانقلاب قضى على الحالة الأممية التي جعلت من الجزائر قبلة الثورات (ويناقض في ذلك نفسه، فمن وجه يقول إنه «بعد مرور عشر سنوات على مؤتمر باندونج الذي ساهم بشكل حيوي في نجدة جبهة التحرر الوطني الجزائرية ونصرتها، أصبحت الجزائر [العاصمة] هي المكان الذي مات فيه التضامن الإفريقي-الآسيوي كفكرة رئيسية منظمة للعلاقات الدولية»، ثم يعود ويقول إن مشروع «العالم الثالث» والمشروع الوطني الجزائري قد شهدا عصرهما الذهبي في السبعينيات).[2] 

إلا أن الادعاء بأن هذه الحالة الأممية قد انتهت مع انتهاء عهد بن بلة يتعارض مع ما قلناه لتونا من لجوء الفهود السود إلى الجزائر في سنة 1969 تحت حكم بومدين، ومع مرور خاطفي الطائرات، من الفهود السود والجيش الأحمر الياباني، وحتى كارلوس وأنيس النقاش بعد فيينا، بالجزائر في عهد بومدين. وينسى بيرن، أو لا يعلم، أن المقولة التي اقتبس منها عنوان كتابه، قالها كابرال في مهرجان تضامن استضافته الجزائر في 1969 تحت حكم بومدين، فهل تقع الفكرة الرئيسية للكتاب خارج إطاره التاريخي؟

هذا اللغط ينبع من مشكلة أرشيفية هي التهاء الكتاب بالأرشيف الدبلوماسي عن المهمة الأصعب والأكثر إثارة (والتي يعد بها عنوان الكتاب من دون أن ينفذها مَتنُه) في التنقيب عن أرشيف الحركات الثورية التي تقاطعت طرقها في الجزائر أو استقر بها المقام فيها. وينبع كذلك من مشكلة نظرية؛ فبيرن الذي يَعُد نفسه مؤرخًا لا يقدم منهجية تأريخية متماسكة ولا إطارًا نظريًا أو تحليليًا يفهم من خلاله ما يحدث؛ ولهذا أتى عمله أشبه بدراسات «العلاقات الدولية» التي تُنتج في أمريكا من مراكز بحث تعادي المناهج التأريخية. وككتاب في العلاقات الدولية كان من الممكن أن يستفيد من بعض النظريات (السائدة والنقدية) في هذا المجال، بالذات فيما يتعلق بالتناقض ما بين وعي الجزائر بمصالحها «الثورية» والتحررية و«العالمثالثية» وبين ما تفرضه عليها ساحة العلاقات الدولية من تقديم المصلحة القومية-القطرية على غيرها؛ بدلًا من ذلك بدا هذا التناقض في أغلب الكتاب (ربما باستثنناء الجملة الأخيرة فيه)[3] كما لو كان قصورًا في وعي رجال الثورة الجزائريين الذين وجدوا أنفسهم فجأة رجال دولة ، بدلًا من أن يكون تناقضًا بنيويًا فرضته طبيعة الساحة الدولية وفرضه الفارق ما بين الثورة والدولة (لا يفوته للأمانة أن يشير إلى أن ثوار الجزائر كانوا من البداية، وهم في عز ثوريتهم، يتطلعون إلى الدولة؛ ولكن هذه فرصة ضائعة أخرى إذ لم يقدم تحليلًا لهذا التناقض ما بين الثورة والدولة ولم يستفد من أي من الأدبيات النقدية التي تنظر إلى تاريخ مفهوم الدولة أو إلى المشاكل البنيوية في «دولة ما بعد الاستقلال»).

الأرشيف الناقص والنظرية الموتورة

يظن بعض الأكاديميين أن النظرية هي شيء يدور في الفراغ ولا ينشأ ضمن ممارسة معينة. يتناسى هؤلاء أن كارل ماركس، مثلًا، كان عضوًا في المنظمة الشيوعية الدولية أو «المنظمة الدولية للعمال»، قبل أن يكتب البيان الشيوعي وأن النواة الأولى لكتاب «رأس المال» كانت خطبة ألقاها من منزله في لندن أمام حشد من العمال المضربين. ويظن هؤلاء أن «الأيديولوجيا» يمكن أن تتلخص في مجموعة شعارات منفصلة عن الممارسة، بينما الأيديولوجيا، كما نظر لها فلاسفتها، هي الإطار الذي يفهم الناس من خلاله واقعهم المادي، ولهذا فإن أي ممارسة ترتبط بالضرورة بأيديولوجيا ما لأن النشاط البشري يرتبط، بدرجات متفاوتة، بوعي الإنسان بما يفعل.

يقع بيرن في هذا الخطأ فيكرر طوال الكتاب، حد الإملال ومن دون أن يقدم تحليلًا مفيدًا لهذه المقولة المكررة، إن جبهة التحرير الجزائرية دخلت إلى الثورة من دون نظرية أو أيديولوجيا؛ ولا يشرح في أي مكان ما الذي يعنيه بكلمة الأيديولوجيا وكيف يستخدمها، وإن كان يبدو في بعض الأحيان أنه يعني بغياب الأيديولوجيا أن ثورة الجزائر، على الأقل في بدايتها، لم تتبن بالكامل شعارات وبرامج أحد معسكري الحرب الباردة، ويعني أحيانًا أنها قدمت مبدأ التحرر الوطني على الشعارات الاشتراكية.

ثم، كالعادة، يناقض نفسه ويتحدث عن دور الجزائر، ثورة ودولةً، في تشكيل أيديولوجيا العالم الثالث؛ ويورد نقاشًا (ربما لا ينتبه هو إلى مدى ثرائه) جرى ما بين الدول المختلفة عما إذا كانت العالمثالثية مسألة عرقية أم حيزًا جغرافيًا أم انحيازًا سياسيًا، ويصل إلى أن الجزائر، ومعها يوغوسلافيا، كانتا تميلان إلى هذا التفسير الأخير؛ الأولى لتأكيد الرابط بينها وبين سائر إفريقيا، والثانية لكي لا تَحول أوروبيتها دون عالمثالثيتها؛ بينما أرادت الصين في مرحلة معينة تغليب التفسير العرقي لكي تكون أقرب إلى «شعوب العالم الثالث» من روسيا.

كما يتحدث الكتاب عن إصرار بن بلة على تقديم اشتراكية جزائرية خاصة لا تتقفى بالضرورة أثر الاتحاد السوفيتي أو الصين الشعبية، وعن أن هذه الاشتراكية الجزائرية، التي بلورها بن بلة كتابةً في «مشروع طرابلس» وأضاف إليها بعض الصياغات العروبية والإسلامية، قامت على المصانع والمزارع المسيرة ذاتيًا والتي وجد فيها بعض الاشتراكيين الغربيين مثالًا يحتذى. هناك إذن نظرية جزائرية للثورة، إذا جاز التعبير، ولدت مع الكفاح ضد الاستعمار وتطورت مع الممارسة الثورية والدبلوماسية، ولست أدري ماذا يرى بيرن من قصور في هذه النظرية التي تتفاعل مع الممارسة ولا تنفصل عنها.

فأي ثورة، بل أي حركة، يمكن أن تتخذ من تعاليم فيلسوف معين كتابًا مقدسًا ثم تأخذ نفسها ويأخذها الناس بجدية؟ (ربما أراد لهم بيرن أن يفعلوا ما فعله بعض الثوريين في فرنسا حين اتخذوا من تعاليم ماو كتابًا مقدسًا فحق عليهم قول المخرج الإيطالي برناردو برتولوتشي إنهم أرادوا أن يذهبوا إلى الصين الشعبية فانتهى بهم المطاف في سان فرانسيسكو: أي أن حلمهم ب«الثورة الثقافية» على الطريقة الماوية انتهى باحتفالية للحريات الفردية على طريقة الهيبيز الأمريكيين). لم يكن كبار منظري الثورات، لا ماركس ولا لينين ولا ماو تسيتونج ولا تشي غيفارا، أصحاب نظريات جاهزة حاولوا أن يفرضوها على الواقع كما هي؛ كانت النظرية لدى هؤلاء ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالممارسة وتتفاعل معها. أما ما يظنه بيرن من اكتمال الإطار النظري قبل الممارسة أو بمعزل عنها فلم يتبعه سوى بعض المهرجين من الغربيين الذين ذهبوا إلى كوبا والجزائر ومعسكرات التدريب الفلسطينية لمحاولة فرض نظرياتهم، أو اكتفوا بالتنظير والتضامن الفوقي من قلب العواصم الغربية (في كتاب «ثورة في الثورة»، وهو كتاب معني بتضافر النظرية مع الممارسة في كوبا وثورات أمريكا اللاتينية، يسخر المفكر الفرنسي ريجي آلان دوبريه، الذي كان اشتراكيًا وقتها، من «طنبور المثقفين الثوريين المحترفين، الذين تروج سوقهم في باريس في هذه الأيام (..) التي يخوض فيها كل خريج نجيب من السوربون (..) معركة تحرير منتصرة بشحطة قلم»).[4]

فماذا يعني إذن أن يرمي بيرن الثورة التي احتضنت مفكرًا من طراز فرانز فانون وأنضجت أفكاره في تفاعل مع الكفاح والدبلوماسية الثوريتين بقصر التنظير؟ وما معنى أن يتجاهل الإلهام الفكري الذي قدمته ثورة الجزائر لمالك بن نبي وأميلكار كابرال ونيلسون مانديلا؟ وبينما يختزل بيرن فانون وبن نبي وكابرال إلى أمثلة باهتة لا يشتبك معها فكريًا فإنه في حالة مانديلا يقع في خطأ «اللاتاريخانية» (أي يأخذ الأحداث والشخصيات خارج سياقها التاريخي ولا يأخذ في الاعتبار تطورها مع التاريخ) إذ يفترض أن مانديلا الذي نعرفه داعية للسلام في مرحلة الحل السلمي لمسألة جنوب إفريقيا، هو نفسه مانديلا الذي أتى إلى الجزائر من أجل تأسيس جناح عسكري لحزب المؤتمر الوطني الإفريقي، ويخلص إلى أن مانديلا لم ينبهر بالمحاضرات التي تلقاها من الجزائريين عن العمل المسلح!

ورغم أن بيرن يكتب هذا الكتاب من منطلق متعاطف مع الجزائر ومع إفريقيا وتحررها، فإن تجاهله للإسهام الفكري للثورة الجزائرية، ما دامت لم تستعر قوالب فكرية جاهزة من أحد معسكري الحرب الباردة، يشي بعنصرية مبطنة (قد لا ينتبه لها بيرن نفسه) تأبى على العربي والإفريقي (بما في ذلك الكاريبي من أصل إفريقي في حالة فرانز فانون) التنظير من موقعهما النضالي ولا تعترف بما قدما.

هذه الاستهانة بالعربي هي التي تجعل كاتبًا مستسهلًا يقدم نفسه خبيرًا في شؤوننا، مع استسهال في البحث والتأطير النظري والتحليلي. وبينما يمتلئ الكتاب بالأخطاء الإملائية والتحريرية الجسيمة فإن دار النشر التابعة لجامعة أكسفورد لم تر غضاضة في نشره بأخطائه ولم تكلف نفسها عناء مراجعتها أو تصليحها، وكأنها تشارك الكاتب استسهاله في خوض الشأن العربي.

يبقى من المهم لنا أن نقرأ هذه الكتب، أولا لأنها تقدم لنا معلومات مهمة عن تاريخنا وإن انتزعت هذه المعلومات من سياقها وقدمت من دون إطار نظري أو تحليلي يفهمها جيدًا، وثانيا لندرك هذه الفجوة التحليلية التي ينبغي لنا أن نملأها فيما بيننا من منطلق منحاز لقضايا التحرر في عالمنا العربي وسائر العالم.

  • الهوامش

    [1] جرت العادة في مثل هذه الكتب، حين تقتصر الدراسة على فترة معينة، أن تكون هناك إشارة إلى هذه الفترة الزمنية في العنوان؛ كما يتوقع أن يبرر الكاتب توقف سرده التاريخي عند سنة معينة ولو من باب «هذا ما سمح به وقتي والمادة التي جمعتها أثناء البحث». ولا نجد أيًا من ذلك في هذا الكتاب.

    [2] أما مؤتمر «القارات الثلاث» الذي استضافته كوبا في عام 1966، والذي وجه إليه تشي غيفارا خطابه الشهير عن محاربة «عدوة الإنسانية رقم واحد» في كل مكان وبكل الوسائل، والذي جاء مكملًا لمشروع العالم الثالث وتوسيع التضامن الإفريقي-الآسيوي ليشمل قارة أمريكا الجنوبية، فلا يذكره الكاتب إلا عرضًا ليقول إنه المثال الوحيد على استبعاد الجزائر، من بعد انقلاب بومدين، من مؤتمرات تضامن العالم الثالث.

    [3] تقول هذه الجملة: «في النهاية، أصبح المشروع القومي الجزائري متداخلًا مع أيديولوجية «العالم الثالث» إلى درجة أن القيادة الجديدة للبلاد [يعني بومدين ورفاقه] كانت تخشى، سرًا، أنه لا أمة بدون الثورة».

    [4] ترجمة إلياس سحاب، دار الآداب.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية