الملكة المصرية على نتفلكس: جذور كليوبترا السوداء

الإثنين 15 أيار 2023
كليوبترا السوداء
الملكة كليوبترا كما تجسدت في وثائقي نتفلكس.

أثار وثائقي نتفلكس عن الملكة كليوبترا السابعة الضجيج حتى قبل أن يعرض. تعمدت دعاية الفيلم أن تجعل مركز ثقلها مغازلة سياسات الهوية من خلال التركيز على الادعاء بأن كليوبترا كانت «سوداء». وفي المقابل توجس كثير من المصريين من أن ينضم الوثائقي إلى تيار قديم يحاول أن ينفي صلة المصريين المعاصرين بتاريخ بلادهم؛ فتارة يجعلهم في الأفلام أوربيين بيض، وتارة يقول إن اليهود هم الذين بنوا هذه الحضارة، وتارة يقول بأن هذه الحضارة لسائر الأفارقة من دون المصريين وتارة يقول إن هذه الحضارة إنما بناها الفضائيون.

تصاعدت ردات الفعل من البيانات الرسمية إلى دعاوى قضائية ودعوات للمقاطعة؛ طاشت بعضها وأصابت إخوتنا الأفارقة، وطاشت بعضها الآخر فزعمت أن كليوبترا كانت شقراء أو انشغلت ببيان عرق كليوبترا اليوناني عن بيان علاقتها بالثقافة المصرية، القديمة والحديثة.

ولكن هذا الجدل يغفل حقيقة تاريخية مهمة، وهي أن تصور كليوبترا سوداء، وإن كان شيئًا ادعته «المركزية الإفريقية» في مرحلة ما، هو تصور يعود إلى رؤية الحضارة «الغربية» لآخريها، كما يغفل حقيقة معاصرة مهمة وهي أن صراعنا على «التمثيل» في الثقافة السائدة، من دون النظر إلى دور الغرب وإمبرياليته واستشراقه في خلق هذه التمثلات، يجعل الإعلام الغربي هو ساحة الصراع والمشاهد الغربي هو الحكم.

كليوبترا في روما

في عام 30 قبل الميلاد انتصر قيصر أوكتافيوس على تمرد أنطونيوس وكليوبترا. هذا الانتصار كان لحظة فارقة في تاريخ روما التي كانت تتلمس خطاها من الجمهورية إلى الإمبراطورية، وكان في الوقت نفسه، لحظة مهمة في تاريخ ما سيعرف فيما بعد بالاستشراق.

فروما التي تمثل الحضارة والعقل انتصرت على الخطر القادم من الشرق والجنوب، من حيث كان يأتي الخطر الذي كانت تراه الانحيازات الثقافية لليونان والرومان لاعقلانيًا ومخنثا أو مؤنثًا: الجرجونات اللواتي كن يُحِلن الرجال حجرًا بنظراتهن، ونساء الأمازون المقاتلات، وعربدات الإلهة سيبيل التي جعلت إلههم ديونيسيوس (باخوس) هو الآخر عربيدًا ينشر الجنون من بعد أن كان يونانيًا عاقلًا، كلها جاءت من شرق الحضارة وجنوبها. وكذلك كليوبترا في نظرهم حملت جنون الشرق والجنوب ومجونهما، وأغوت أنطونيوس ليصبح ماجنًا وعربيدًا من بعد أن كان قائدًا حربيًا همامًا، وهددت، لا روما فحسب، بل الحضارة بأسرها.[1] 

أراد القيصر المظفر أن يستكتب شاعرًا نجيبًا ليكتب ملحمة تمجد روما وأسلاف أوكتافيوس وصولًا إلى إنياس، المؤسس الأسطوري لروما والذي يمتد نسب أوكتافيوس إليه، فعهد بالأمر للشاعر فرجيل وكانت «الإنياذة».

وبينما لا يأتي ذكر أنطونيوس أو كليوبترا في الإنياذة فإن حكايتهما تروى رمزًا في حكاية إنياس والملكة القرطاجية إليسار (أو دايدو كما كان الرومان يسمونها). كما فعلت كليوبترا بأنطونيوس، تحاول دايدو/إليسار أن تغوي آيناس، أن تدعوه إلى أن يبقى معها في تونس، وأن يتخلى عن مهمته التاريخية أن يؤسس روما. يجد إنياس نفسه ما بين خيارين، إما أن يترك نفسه لهذه الغواية (الأنثوية والأجنبية التي تناقض العقل الروماني) كما فعل أنطونيو، أو أن يترفع عن هذه الإغراءات ويحارب في سبيل روما، كما فعل أوكتافيوس. يختار إنياس روما (كأن أوكتافيوس في داخله ينتصر على أنطونيوس) وتقتل دايدو نفسها كما فعلت كليوبترا. ولأن هذا النص أصبح فيما بعد من النصوص التأسيسية للحضارة الغربية (بالذات في لحظة اختلاقها في عصر النهضة، وهي أيضًا لحظة البحث عن «المصادر» اليونانية والرومانية لينسب الأوروبيون نفسهم إليها)، فقد أصبح كذلك أحد النصوص التي رسخت الرؤى النمطية لآخري الغرب التي ستسمى فيما بعد بالاستشراق.

وكان هذا النص من بين النصوص التي استلهمها شكسبير لكتابة مسرحية أنطونيو وكليوبترا، كما استلهم كذلك تاريخ المؤرخ الروماني بلوتارخ الذي كرّس كذلك نفس الانحيازات التي ترى كليوبترا امرأة لعوب وخطرًا أنثويًا وأجنبيًا يهدد الحضارة التي يمثلها الرجال وتمثلها روما.[2] 

كليوبترا في الحضارة الغربية الحديثة

في العصور الوسطى وبالذات في عصر النهضة كان ذلك الآخر الغريب والخطر يُرى أسود، وكانت كليوبترا شكسبير، كمثل بعض التصورات الأخرى لكليوبترا في تلك العصور، سوداء.[3] 

كان الأسود يمثل خزان الآخرين الثقافيين والعرقيين، حتى إن كلمة «المور» التي كانت تعني أول الأمر المغاربة وعرب الأندلس، أصبحت تعني الأسود، (أوثيلو[4] على سبيل المثال كان في نفس الوقت عربيًا وإفريقيًا أسود، مسلمًا ووثنيًا، عدوًا للترك وفيه شيء منهم، وكاليبان، كان جزائريًا من جهة أمه الساحرة، وإفريقيًا أسود من حيث بعض صفاته، و«هنديًا» من أهل الأرض في أمريكا من حيث وصفه على لسان بعض الشخصيات) وكان يجسد خطر الآخرين وانحلالهم.

وفي المسرحية تسلب كليوبترا أنطونيو، كما يسلبه الشرقُ، عقلَه. وبعد أن كان قادرًا، في مسرحية يوليوس قيصر، على أن يحرك الجموع بخطبة واحدة، وأن يعد المكائد السياسية وينجو من المهالك ويقود الجنود إلى النصر، ولا يمنعه عن ذلك حبه للخمر واللهو في الليل، نراه في مسرحية أنطونيو وكليوبترا وقد أصبح عربيدًا مذهولًا عما حوله، تنقصه الإرادة و«الرجولة»، لا يقدر على النصر في المعارك ولا حتى على الانتحار بشرف كما يليق بالرجال الرومان، وكلها انحيازات ورثها شكسبير من بلوتارخ وغيره من الرومان.

لكن كليوبترا شكسبير تتمرّد على المسرحية. وفي الفصول الأخيرة تصبح فجأة حكيمة وثابتة وحسنة التدبير، ثم تتمرد على الرواية كلها فتشكو (أو يشكو الممثل الذي كان صبيًا إنجليزيًا يلعب دور امرأة مصرية/ إفريقية) من المسرحيين الذين سيشوهون تاريخها «ويأتون بأنطونيو، هنا، ثملًا» بينما صبي صوته يشبه الصرير سيحاكي عظمتها في ثوب عاهرة.

كليوبترا على نتفلكس

معظم ما نعرفه عن كليوبترا نعرفه عن طريق شكسبير والأوروبيين عن بلوتارخ والرومان. وكليوبترا السوداء على شاشة نتفلكس أو في نصوص المركزية الإفريقية هي كليوبترا شكسبير وبلوتارخ تتمرد على الحكاية السائدة وتعيد ترتيب الانحيازات لتصبح امرأة قوية ذات هيبة لا امرأة لعوب، ويصبح لها خططها الخاصة بدل أن تكون مجرد عائق في مسيرة الحضارة الغربية.

تصور كليوبترا سوداء يعود إلى رؤية الحضارة «الغربية» لآخريها، ويغفل حقيقة أن صراعنا على «التمثيل» في الثقافة السائدة، دون النظر إلى دور الغرب وإمبرياليته واستشراقه في خلق هذه التمثلات، يجعل الإعلام الغربي هو ساحة الصراع والمشاهد الغربي هو الحكم.

ثمة مصدر آخر، بالتأكيد، يمكن أن تحكى من خلاله حكايات مغايرة وهو الحفريات والعملات. لكن هذا المجال يستدعي الإقامة في مصر حيث كل هذه الآثار وجل هذه العملات، وقد اختار وثائقي نتفلكس تحييد هذا المجال عندما حيد الرواية المصرية ولم يستضف أي خبراء مصريين (وعالمة المصريات الوحيدة التي استضافوها هي عالمة غربية بيضاء لا تقيم في مصر ولا ترتبط بأي معاهد علمية أو بحثية فيها).

هذا يفسر اعتماد أستاذة الكلاسيكيات شيلي هيلي –التي استضافها وثائقي نتفلكس– على حكايات جدتها وعلى رؤياها كليوبترا في المنام لتحكي قصتها كامرأة سوداء وملكة إفريقية، بينما يقول الوثائقي نفسه إننا لا نعرف لون بشرة كليوبترا ولا نعرف يقينًا إن كان نسبها المقدوني قد اختلط بنسب مصري أو إفريقي؛ فالمسألة إعادة تمثيل للتمثيل وخيال في خيال.

لكن كليوبترا التي تخيلوها بينما تتمرد، مثل كليوبترا شكسبير، على الرواية السائدة، لا تهرب من مسرح الإمبراطورية الذي يحكم أداءها. فإذ يستبعد الوثائقي أي أصوات من إفريقيا (سواء من مصر أو غيرها) ويأتي الصوت الإفريقي حصرًا من أفارقة أمريكيين ينتمون إلى مؤسسات غربية؛ لا أتحدث هنا عن تنافس هوياتي بين أفارقة إفريقيا وأفارقة أمريكا ولكن عن اختزال إفريقيا في «أقلية ملونة» تنضبط ضمن المجتمع الأبيض، ولا صوت من إفريقيا سوى صوت الطبل الإفريقي الذي يعطي بعدًا غرائبيًا. وحتى الممثلة آديل جيمس كان آداؤها ولهجتها وحركتها تنتمي إلى «مجتمع الملونين» في بريطانيا لا إلى إفريقيا، وانشغلت بأن تكون «امرأة ملونة قوية» على الشاشة عن التمثيل، فجاء أداؤها ضعيفًا وباهتًا. كليوبترا السوداء التي قدموها هي كليوبترا أقلية ملونة أمام مشاهد أبيض وعلى مسرحه، لا كليوبترا التي تحدت أكبر إمبراطورية في عصرها.

عرق كليوبترا؟

قد يبدو الموقف اليوناني هنا أكثر تماسكًا، إذ يقول اليونانيون إن نسب كليوبترا يمتد حتى جدها الأكبر بطليموس إلى مقدونيا، التي كانت إحدى مدن اليونان القديمة.

لكن هذه الحجة تفترض عرقًا يونانيًا ثابتًا يمتد من اليونان القديمة إلى دولة اليونان الحديثة، وبينما من المنطقي أن نستنبط امتدادًا حضاريًا ما، وثيقًا أو واهيًا، ما بين أهل الأرض وبين «أسلافهم» الذين عمروها؛ ثمة فرق بين أن نقول أن من يعيش في اليونان الآن هم ورثة الحضارة اليونانية، وأن ندّعي أن عرقًا صافيًا يجمع هؤلاء الورثة وأسلافهم؛ هذا الادّعاء العرقي، الذي يتجاهل حقائق الاختلاط بين الشعوب، ويقفز، في حالة اليونان بالذات على 400 عام كانت هذه الأرض فيها عثمانية، ويزعم أن اليونان الحديثة وبيزنطة واليونان القديمة[5] شيء واحد، هو نتاج لتخيلات حركة «محبي اليونان» في غرب أوروبا في القرن الثامن عشر ثم حركات القومية اليونانية في القرنين التاسع عشر والعشرين.[6] 

المفارقة أن الموقف الرسمي المصري الذي جاء في هيئة بيان رسمي من المجلس الأعلى للآثار التابع لوزارة السياحة والآثار، بنى حجته على هذا الموقف اليوناني الواهي. إذ لم يكتفوا بتوضيح نسب كليوبترا المقدوني أو ثقافتها المصرية (إذ أخذ البطالمة بعضًا من صفات المصريين ولباسهم وتقاليدهم وعبدوا آلهتهم، واشتهرت كليوبترا بأنها ذهبت إلى أبعد ما ذهب إليه أسلافها من تبنٍ لثقافة المصريين، ما قد يكون قد زاد من شعبيتها وجعلها أكثر قدرة على إخماد القلاقل وأعمال التمرد) بل تعدوا ذلك إلى الجزم بأنها «كانت ذات بشرة فاتحة اللون وملامح هيلنستية (يونانية)». مرة أخرى لا يخلو هذا البيان من وجاهة سواء من حيث نسب كليوبترا «الهيلينستي» أو من حيث استنباط شكل كليوبترا من التماثيل والعملات التي تعود إلى فترة حكمها. ولكن البيان ينكث وجاهته بنفسه، حين يقفز من هذه المعلومات إلى فرضية أننا نعرف الشكل «الهيلنستي- اليوناني» يقينًا وأن هذا الشكل اليوناني متجاوز للتاريخ.

ثم يضعف نفسه حين يتأرجح بين هذا التقرير الواثق بيونانية كليوبترا وبين المحاججة بأن سيرة كليوبترا هي «جزء هام وأصيل من تاريخ مصر القديم».

هذه الجملة الأخيرة، والتي قد تبدو أول الأمر شعاراتية أو غير علمية، هي في الحقيقة الحجة الأقوى، إذ كانت كليوبترا، منذ ميلاد الوطنية المصرية الحديثة، جزءًا من سردية التاريخ المصري كما تراه ثقافة وطنية لم تكن تهتم كثيرًا لعرق الناس وكانت ترى أن مصر للمصريين بغض النظر عن أعراقهم أو من أين جاءوا.

تمصير كليوبترا

في مصر الحديثة، أصبحت كليوبترا جزءًا من الثقافة الشعبية والعامة، وقد استملكت الثقافة المصرية الملكة البطلمية التي حكمت مصر، وجعلت منها رمزًا وطنيًا وماركة سجائر ومادة للتندّر.

تقول أغنية شعبية من فيلم كوميدي خفيف يعود إلى العام 1952 «ليلة بيضا علينا وسنة خضرا، أنطونيو اتجوز كيلوبترا»؛ والحكاية في الفيلم أن البطلة ادعت في أحد المشاهد أنها كليوبترا لكي يظن حبيبها بها الجنون. ولو أخذنا هذا المزاح بجدية قليلًا فسنجد أن الفيلم هنا يعارض مأساة أنطونيو وكليوبترا بكوميديا غنائية تنتهي لا بمصارع العشاق ولكن بزواجهما.

لكن الظهور الأبكر لكليوبترا في الحقل الثقافي المصري كان في العام 1894 في قصيدة أحمد شوقي المطولة بعنوان «كبار الحوادث في وادي النيل». ألقيت القصيدة في مؤتمر المستشرقين الدولي العاشر في جنيف وكان شوقي مبعوثًا من قبل الخديوي توفيق في هذا المؤتمر في ظهور مبكر له شاعرًا للبلاط وللهوية المصرية.[7] وعندما تصل القصيدة إلى عصر البطالمة تتبنى القصيدة في 14 بيتًا الرواية الرومانية-الغربية بكل انحيازاتها الحضارية والذكورية ضد كليوبترا.[8] ربما كان شوقي يخاطب جمهور المستشرقين بما يفهمون وبما يريدون أن يسمعوا.

في مصر الحديثة، أصبحت كليوبترا جزءًا من الثقافة الشعبية والعامة، وقد استملكت الثقافة المصرية الملكة البطلمية التي حكمت مصر، وجعلت منها رمزًا وطنيًا وماركة سجائر ومادة للتندّر.

لكننا نرى، في أعقاب ثورة 1919 ومع تنامي الحركة الوطنية المصرية ومقاومتها للاستعمار البريطاني، رواية مغايرة تمامًا. في العام 1923 قدمت فرقة منيرة المهدية مسرحية غنائية استعراضية بعنوان «كليوباتر ومارك أنطوان»، شارك في كتابة أغانيها الشيخ محمد يونس القاضي (مؤلف نشيد بلادي بلادي الذي سيصبح نشيدًا وطنيًا رسميًا للبلاد منذ العام 1979) وألف ألحان فصلها الأول سيد درويش ثم توفاه الله فأكمل عبد الوهاب تلحينها،[9] وقيل إن أحمد شوقي، الذي كان أبًا روحيًا وراعيًا لعبد الوهاب، قد ساهم في المسرحية بأغنية «أنا أنطونيو وأنطونيو أنا». وبينما تستلهم المسرحية الرواية الغربية فإنها تمتلئ بالغنائيات الوطنية التي تغير تمامًا صورة كليوبترا وتجعلها بطلة مصرية.

بل إن نشيد «مصرنا وطنّا سعدها أملنا» الشهير ألفه سيد درويش بالأساس من أجل هذه المسرحية ثم استبعدته منيرة المهدية؛[10] وبينما يبدو السياق الوطني والتورية المكشوفة لسعد زغلول مقحمة فإن البيت القائل «كلنا جميعًا.. للوطن ضحية»، والذي يبدو مضحكًا خارج سياق المسرحية، يصبح هنا إشارة إلى مصير كليوبترا التراجيدي مع إضافة بعد وطني إليه.

ثم في العام 1927 كتب أحمد شوقي مسرحيته الشعرية الأولى، مصرع كليوباترا. وبينما استلهم شوقي شكسبير وعارضه وأعاد صياغة حكايته، فإن كليوبترا لديه تصبح ملكة حكيمة وحازمة ووطنية، ويصبح انسحابها من معركة أكتيوم (التي جعلها في الرواية الغربية امرأة لا أمان لها) قرارًا استراتيجيًا بإنقاذ أسطول مصر وضرب الرومان بالرومان و«موقفًا للعلى كنتُ فيه.. بنت مصرٍ وكنتُ مليكةَ مصرِ».

ونرى في المسرحية الجو السياسي لمصر ما بعد 1919، بما في ذلك الجمعيات السرية التي تريد تنظيم المقاومة ضد المستعمرين، ثم عندما تقف ملكة مصر مع شعبها ضد الإمبراطورية الغازية نرى ما كانت بعض أطراف الحركة الوطنية تتمناه من أسرة محمد علي (لا ننسى أن شوقي نفسه كان شاعر البلاط وكان مقربًا بالذات من عباس حلمي الثاني الذي كان في وقت ما راعيًا للحركة الوطنية. وقد كلل شوقي إحدى نسخ هذه المسرحية بقصيدة مهداة إلى ولي عهد مصر آنذاك الأمير فاروق، ربما كانت هذه مجاملة محضة وربما كانت جزءًا من رسالة شوقي إلى الأسرة الحاكمة أن يسيروا في علاقتهم مع الإمبراطورية الغازية على درب كليوباترا؛ ولا بد أن فطنة شوقي لم يغب عنها أن أسرة محمد علي تنحدر هي الأخرى من مقدونيا التي انحدر منها البطالمة).

هذا الموقف السياسي، بينما ينادي على المصريين بأطيافهم ليعادوا المستعمرين، لا ينظر في عرقية هؤلاء المصريين، فشوقي نفسه ينحدر من أصول تركية وشركسية ويونانية وكردية، وأولياء نعمته ألبان مقدونيون، وفي المسرحية نفسها إشارات إلى هذا الولاء الوطني المصري الذي يتجاوز الأصل العرقي.

ومن ثم يصبح عرق كليوبترا، بطلميًا كان أو إفريقيًا، مسألة جانبية لا تسقط مصريتها.

على مسرح الإمبراطورية

ليس الغرض من هذا التاريخ استعراض تمثلات كليوبترا المختلفة فحسب. الأهم هو تذكر السياق «الإمبراطوري»، من الإمبراطورية الرومانية وحتى الإمبريالية المعاصرة، في خلق وتنظيم هذه التمثلات. في هذا السياق تصبح المشكلة لا مع من يريد أن يدعي كليوبترا من الأفارقة أو اليونانيين، ولكن مع استخدام نيوليبرالي لسياسات الهوية يعطي المنتجين الأمريكيين والبريطانيين سلطة توزيع الأدوار والهويات وتحديد الروايات والسرديات المقبولة، ويجند المصريين وسائر الأفارقة في تنافس حول توزيع الأدوار وحول تمثيل الهويات في ثقافة المركز بشكل يخدم سياسة «فرق تسد» الاستعمارية.

لا تدور التمثلات ولا الشعارات في العدم، ولو كنا في سياق تضامني لكانت كليوبترا بتمثلاتها المختلفة والمتناقضة مجازًا عن التضامن الضروري ما بين العرب والأفارقة وفقراء أوروبا (بما في ذلك اليونان التي تعاني من سياسات التقشف التي يفرضها الاتحاد الأوروبي بعد أن عانت من الفاشية المدعومة أمريكيًا). ولكن لأننا نغفل السياق الإمبراطوري-الإمبريالي ونقفز إلى سياسات الهوية، تصبح تمثلات كليوبترا المختلفة ساحة صراع سخيف على من يستحق الظهور على شاشة البث الإمبراطوري ومن يحظى بانتباه جمهور الإمبراطورية واعترافهم.

  • الهوامش

    [1] من السذاجة، بطبيعة الحال، أن ندعي أن الاستشراق حقيقة متجاوزة للتاريخ أو أن انحيازات اليونانيين أو الرومانيين ضد غيرهم من الشعوب هي نفسها الاستشراق الحديث. ما أقوله هنا هو امتداد لما قاله إدوارد سعيد في بداية كتاب الاستشراق عن أن الحضارة الغربية الحديثة، حين أرادت أن تفرض نفسها وريثًا للحضارتين اليونانية والرومانية، ورثت عنهم كذلك تحيزاتهم ضد غيرهم من الشعوب وأعادت استدخالها. وأزعم أني أضيف هنا محطة مهمة انتصرت فيها روما، عسكريًا ومعرفيًا، على «الشرق» بما فيه اليونان. جدير بالذكر أن «الشرق» و«الغرب» كمفاهيم جغرافية لا تنسحب على طول الخط، فالرومان كانوا يرون أنفسهم أحفاد طروادة؛ أي من شرق اليونان الذي كان ينظر إليه غربه بتعالٍ؛ فضلًا عن أن ليبيا وتونس تقعان جنوب وجنوب غرب إيطاليا لا شرقها.

    [2]William Shakespeare, Antony and Cleopatra, edited by Ania Loomba, A Norton Critical Edition
    ينظر على سبيل المثال الملاحظات التوضيحية التي تذيل نص شكسبير في نسخة دار نورتون.

    [3] يبدأ المشهد الأول على سبيل المثال بأحد الرومان وهو يلوم قائده أنطونيو الذي وجه ولاءه «إلى جبهة سمراء» بدلًا من جبهة القتال، وفي مشهد آخر تصف كليوبترا نفسها بالـ«سوداء من أثر قبلات فيبس [أبوللو/الشمس] العاشقة».

    [4] أو عطيل كما يسميه المترجمون وإن كنت أرى ذلك خطأ وأرى أن الأوقع إما أن شكسبير كان يختلق اسمًا لا أساس له ليبدو نطقًا إيطاليًا لاسم عربي، أو، الأرجح، أن أوثيلو هو تخيل شكسبير للنطق الإيطالي لاسم «عطاء الله».

    [5] ثمة معضلة طريفة فيما يتعلق بالمصطلحات، فبينما نستخدم في بعض الأحيان، في اللغة العربية الحديثة، كلمة «الإغريق» للإشارة إلى اليونانيين القدماء دونًا عن المعاصرين، فإن كلمة «إغريق» (Greek) هي في حد ذاتها مصطلح حديث، بينما مصطلح (Hellenic) الذي تشتق منه كلمة اليونان هو المصطلح الأقدم (وهو الاسم الرسمي لجمهورية اليونان الحديثة)، وكل المصادر العربية القديمة تشير إلى فلاسفة اليونان وعلومها لا إلى «الإغريق».

    [6] أنوه هنا إلى كتاب جوزيف مسعد الذي سيصدر قريبًا بعنوان «عصر الاستقلال» وسيتناول في أحد أجزائه هذه المسألة بالتفصيل.

    [7] نرى أكثر من دلالة هنا لتشكل الخطاب الوطني والهوياتي المصري مواجهًا الاستشراق ومخاطبًا له في الوقت ذاته، بلسان عربي مبين وبوقائع وخطوب عالمية تجد صداها لدى جمهور المستشرقين، وفي نفس الوقت بشكل يأخذ تاريخ العالم ويحكيه شعرًا عربيًا من وجهة نظر مصرية تجعل «وادي النيل» مركز هذا التاريخ ومسرحًا لأحداثه الجسام.

    [8] فمثلا يقول:

    فقضى الله أن تضيع هذا الملـ..ك أنثى صعب عليها الوفاء
    ضيعت قيصر البرية أنثى.. يالربي مما تجر النساء
    ثم بعد أن أغوت [يوليوس] «قيصر البرية» وأنطونيو
    أتاها من ليس تملكه أن..ثى ولا تسترقه هيفاء

    فيصبح حسن سياسة القيصر أكتافيوس مرتبطة بترفعه عن غواية النساء وكيدهن، على العكس ربما من أكتافيوس شكسبير الذي يغار من جاذبية أنطونيوس عند النساء وقدرته على أن يوازن ما بين لذات الحياة وبين سياسة الدولة.

    [9] موسوعة أعلام الموسيقى العربية: سيد درويش، من إصدار دار الشروق ومركز توثيق التراث الحضاري والطبيعي التابع لمكتبة الإسكندرية.

    [10] المصدر السابق.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية