كل تلك الدماء: أثر البعوضة الذي لا يُرى

الأربعاء 31 آذار 2021
تصوير جيمس جاثاني، فرانك كولينز. المصدر: PIXNIO.

إنه الخلل الرئيس في عِلمنا البشري. يريد العِلمُ أن يفسِّر كل شيء. وكلما عجز عن تفسير شيءٍ ما، زعم أن هذا الشيء ما له من وجود!.
– برام ستوكر، دراكولا.

كل هذا العقل، وكل ذاك العِلم، ويظل الإنسان يفضِّل ألا يرى. لا نرى الأكوان المصغرة التي نعرف يقينًا أنها تحيا حولنا في كل وقت وفي كل مكان، إلا حين يجتاح عالمنا فيروس يهدد أنظمتنا. لا نرى أيضًا الأحياء الأكبر التي نستطيع رؤيتها عيانًا. فلا نرى الوطاويط مثلًا إلا حين يخبرنا العلم بأن الرعب الذي نحياه خرج -وسيخرج مجدَّدًا- من ظلمات كهوفها النائية. ولا نرى مخلوقات نادرة وخجولة مثل قط الزباد وأم قرفة إلا حين توسوس لنا الآمال بأن جلودها، وبرازها، قد تجني لنا الثروات. ثم نراها بعيون جديدة حين نعرف أن الفيروسات قد استعملَتها كحلقات وسيطة في مسيرة غزونا.

يفضِّل الإنسان ألا يرى في كل أكوان الله الواسعة إلا ما يغويه بالأمل، أو يطارده بالألم. وحتى تلك المخلوقات التي قد تهددنا بالألم والرعب والموت، لا نكاد نعرف عنها إلا أقل القليل، ولا حتى عن قدر خطورتها الحقيقي. فإذا حاولنا الآن التفكير في أخطر حيوان يهدد حياة البشر، كَم إنسانًا بيننا يمكن أن يفكر في البعوضة؟

في كتابه «البعوضة»، يقول تيموثي وينجارد، أستاذ التاريخ والعلوم السياسية بجامعة كولورادو ميسا، إن البعوض قد تسبَّب على مدار التاريخ في موت 52 مليار إنسان تقريبًا، ما يُقدَّر بحوالي نصف تعداد البشر الذين عاشوا على الأرض! وهو ما جعل وينجارد يتجرأ في وصف البعوضة -في العنوان الفرعي لكتابه- بأنها القاتل الأول للبشرية. ينقل البعوض للإنسان مجموعة كاملة من الأمراض المخيفة القاتلة، على رأسها الملاريا بالطبع. نعرف هذا جيدًا، لكن قلَّما نتأمل قدر آثاره. يدعونا وينجارد إلى إعادة النظر في حجم الدور الذي لعبه البعوض في تاريخنا البشري. فيحكي لنا، على سبيل المثال، كيف كان البعوض في بنما سببًا في خضوع اسكتلندا للتاج الإنجليزي وتضحيتها باستقلالها

في أواخر القرن السابع عشر أرسلَت اسكتلندا -في مغامرة مدفوعة بالأمل في الخروج من الفقر والمجاعات- خمس سفن تحمل حوالي 1200 من مواطنيها إلى بنما، بغرض الاقتداء بالدول «العظمى» وتأسيس «مستعمرات» في العالم «الجديد» تجلب الثروات والوفرة. لكن المستعمرين الاسكتلنديين لم يقضوا على مجاعات بلدهم، وإنما أصبحوا هُم طعامًا طازجًا للبعوض الذي وقعوا تحت رحمته تمامًا ولم يجلب لهم سوى المرض والموت (كانت الملاريا والحمى الصفراء تحصد دستة من أرواحهم يوميًا)، ولاسكتلندا تلك الديون الهائلة، التي أوقعَتها فريسة سائغة للأسد الإنجليزي، حين قبلت اسكتلندا عرض إنجلترا سداد ديونها مقابل التخلي عن الاستقلال.

اسكتلندا نفسها كانت -قبل قرون عديدة من ذاك الزمان- هدفًا لطموح الإمبراطورية الرومانية اللامحدود. لكن جيش الرومان الذي كان يزحف نحو اسكتلندا تعرَّض لمذبحة فتكت بنصفه تقريبًا. نحو أربعين ألف جندي تساقطوا أمام سلالة محلية من الملاريا، لتحتفظ اسكتلندا هذه المرة باستقلالها بسبب البعوض. 

لكن الرومان أيضًا عرفوا وقوف البعوض في صفهم في أحرج لحظات تاريخهم، حين قاد هانيبال الأسطوري جيشه المرعب إلى روما ذاتها، في واحدة من أعجب المغامرات العسكرية في التاريخ، التي كانت ربما لتكلل بنجاح خالد، لولا اضطراره إلى خوض رعب مستنقعات بونتين الرومانية التي كانت تحت حكم بعوضٍ استنزف جيوش هانيبال بالملاريا، ونال من هانيبال نفسه عينًا فقد الإبصار بها بسبب الحمى، وزوجةً وابنًا ذهبا مع الآلاف من ضحايا الملاريا.

يمتلئ الكتاب بقصص ما فعله البعوض بالبشر، ويقول إن البعوض هو ما صد جحافل جنكيز خان عن جنوب أوروبا، وقتل ثلث جنود الحملات الصليبية، وأخذ حياة الإسكندر الأكبر ذاته -حسب أرجح الاحتمالات- في أوج شبابه ومجده. لكن المؤلف يتجاوز التاريخ البشري ليزعم أن البعوض قد غيَّر مجرى التاريخ الطبيعي لكوكب الأرض أيضًا، حين لعب دورًا بارزًا في انقراض الديناصورات.

ظهرت الديناصورات قبل 230 مليون عام تقريبًا، وهيمنَت على الكوكب طوال 165 مليون عام. لكن الحشرات أقدم منها، فأول ظهور لها يعود إلى 350 مليون عام مضت، وهو ما يجعلنا نتساءل عن الذي كان يهيمن على الأرض حقًّا على طول تاريخها.

يطرح جورج بوينار، وهو عالِم الأحياء القديمة الذي ألهم الكاتب مايكل كرايتون في روايته الشهيرة «الحديقة الجوراسية» بفكرة استخلاص المادة الوراثية للديناصورات من البعوض المحتجَز لملايين السنين داخل الكهرمان، في كتابٍ له أن الديناصورات كانت تعاني مثل البشر تمامًا -وربما أكثر، بالنظر إلى قلة حيلتها مقارنةً بنا- من استهداف البعوض، ومن الملاريا وغيرها من الأمراض القاتلة التي يحملها البعوض إلى دماء ضحاياه. ويؤكد أن حدثًا تاريخيًّا بحجم انقراض الديناصورات لن يتسبب فيه عامل وحيد حتى وإن كان اصطدام كويكب بالأرض، وأن هذا الارتطام لم يكن سوى ضربة قاضية أخيرة للديناصورات التي كانت أجهزتها المناعية تخسر حروبها الضارية أمام البعوض وأسلحته الفتاكة، وهو ما كان يهدد 70% تقريبًا من أنواع الديناصورات بالفناء قبل موعدها المحتوم مع الكويكب.

آثار هائلة، تترتب على أفعال مؤثِّر لا نكاد نلاحظه. يذكرنا الأمر بنظرية «أثر الفراشة» الشهيرة، التي تزعم أن رفرفة جناحي فراشة في البرازيل قد تثير في النهاية -بعد سلسلة من التأثيرات المتتالية- إعصارًا في تكساس. الفراشة بديعة وموحية، لن ينكر أحد. لكن ألم تكن البعوضة أولى منها باسم تلك النظرية؟ نرى الفراشات فتُطلق أجنحتها الملونة لخيالاتنا العنان. أما البعوض فلا نكاد ندرك حضوره الثقيل إلا بعد أن يزعجنا طنينه، ولا نكاد نرى من آثاره سوى تلك البثور الحمراء على جلودنا. هل نعرف مثلًا أن البعوض بوجه عام يعتمد في غذائه أساسًا -كالفراشات تمامًا- على رحيق الزهور؟ وأن ذكور البعوض كلها تكتفي تمامًا بالرحيق كمصدر غذاء ولا تسعى أبدًا خلف الدماء؟ وأن الإناث لا تبدأ في اشتهاء الدم إلا في مرحلة التجهيز لتغذية بيوضها؟ هل نعرف أن البعوض يختار ضحاياه بعناية بالغة وبنظام معقد، يجعل لبعض البشر لديه أفضلية هائلة على البعض الآخر؟

إذا أردنا معرفة الأسباب العلمية لذلك، فربما علينا أن نتخيل وجود مصاص دماء حقيقي، ونتساءل عما قد يجعله يفضِّل ضحية بعينها عن غيرها، ثم نتأمل ما سيوضع فيما يلي بين قوسين، من دلائل مفاضلة مصاصي الدماء بين ضحاياهم. يقول العلم إن أول عوامل الجذب هي أنفاس الزفير ذاتها (أو دليل وجود الحياة) المشبعة بثاني أكسيد الكربون، الذي تعتمد عليه حواس البعوضة في توجيهها منذ البداية إلى ضحاياها. وهو ما يعني أن ظروف زيادة معدلات التنفس، مثل زيادة النشاط البدني أو الحمل، تزيد أيضًا من جذب البعوض.

العامل الثاني هو رائحة العرق (أو دليل بذل الجهد) التي تميِّز كل إنسان عن غيره، وتحكمها الكثير من المؤثرات ومنها عوامل وراثية وميكروبيولوجية، وقد ثبت أن حمض اللاكتيك بالذات يلعب دورًا في تشكيل روائح العرق الأكثر تفضيلًا للبعوض، وهو الحمض الذي يفرزه الجسم في ظروف التنفس اللاهوائي -أي حينما لا يكفي الأكسجين المتاح لتوليد الطاقة اللازمة للقيام بنشاطٍ بدني ما- ثم يظل يتراكم داخل العضلات حتى نشعر فيها بتلك «اللسعة» الحامضية المعروفة.

ثالثًا ألوان الملابس (أو دليل التخفي) التي أثبتت التجارب تفضيل البعوض لألوانها الداكنة، التي تعكس أقل قدر ممكن من الضوء، وهو ما يوفر لها حماية أكبر من رصد عيون الضحايا. ورابعًا تناوُل الكحول (أو دليل غياب اليقظة) والذي يزيد من احتمالات التعرُّض لهجمات البعوض إلى خصمٍ عطَّل بنفسه آليات دفاعه. أما العامل الخامس فهو وجود عدوى الملاريا نفسها (أو دليل غياب المناعة) الذي يغوي البعوض بالاقتراب، معلنًا أن هذه الضحية هي «زبون» سابق ممتاز، بشهادة البعوض من أهل الخبرة.

لكن أيُّ طَعمٍ مُسكِر يدفع البعوض إلى اشتهاء دمائنا بتلك الدرجة التي دفعَته إلى إتقان كل مهارات الرصد والتسلل والتخفي والمناورة الجديرة بمصاصي الدماء؟ وتدفعه -مع كل هجمة- إلى إلحاحه الأسطوري الذي لا يعرف الهوادة، ولا يهاب الموت؟

يحاول فريق من العلماء تقديم إجابة تكشف عن أسرار يمكننا استغلالها يومًا في حربنا الأبدية مع البعوض، بدراسة عينة من إناث بعوض الزاعجة المصرية (Aedes aegypti) -نعم، فحتى العلماء قد لا يتغاضون عن إزعاج البعوض وهم يختارون له اسمًا علميًا– بإجراء تعديلات وراثية تجعل الأعصاب المسؤولة عن التذوق في البعوضة تتوهج عند إثارتها بإضاءة فلورية، تسمح بتصوير الاستجابات العصبية المختلفة للبعوضة عند تذوق الدم البشري مقارنةً بالرحيق السكري، لتحديد المكوِّنات التي تثير شهوة البعوض. لعلَّه الجلوكوز، الذي يوجد في كليهما؟

«الأدينوسين ثلاثي الفوسفات هو المكوِّن السِّري الذي ليس في وسع حواسِّنا البشرية أن تدرك مذاقه، لكنه -على ما يبدو- يداعب حواس البعوض بما لا نتخيله من المتعة والإثارة».

تحتوي الدماء على سكر الجلوكوز وعلى الملح (كلوريد الصوديوم) وعلى الحديد الذي يُكسبها ذلك المذاق المعدني وعلى غير ذلك من المواد التي نعرف طعومها. فماذا يكون الطَّعم المفضَّل للبعوض من بينها؟ أم هو مزيجُ كلِّ تلك الطعوم؟ أظهرَت نتائج الدراسة توهُّجًا ملحوظًا عند تذوُّق الدماء، لم يظهر في حالة تناول الرحيق. تقول ليزلي ب. ڤوسهول، أستاذة العلوم العصبية بجامعة روكيفيلر والباحثة الرئيسة في الدراسة، إن الوصف الحقيقي لهذا الطَّعم يستحيل على الفهم البشري. لأن بحثهم قد اكتشف أن واحدة من أهم مكونات الدماء التي تكسبه مذاقه الخاص لدى البعوض، هي مادة الأدينوسين ثلاثي الفوسفات (ATP)، وهي الجزيئات التي تخزِّن الطاقة وتنقلها في أجسام الكائنات الحية، ولهذا تُعرف بوصف «عُملة الطاقة في الخلية». لكن الأدينوسين ثلاثي الفوسفات لا طعم له على الإطلاق، حسبما تؤكد ڤوسهول التي لم يفُتها أن تجرِّب تناوُل محلول غني بالمادة، مصنَّع في المعمل، وتقول: «الأدينوسين ثلاثي الفوسفات هو المكوِّن السِّري الذي ليس في وسع حواسِّنا البشرية أن تدرك مذاقه، لكنه -على ما يبدو- يداعب حواس البعوض بما لا نتخيله من المتعة والإثارة».

لعل خيالات برام ستوكر وغيره من كُتَّاب الرعب والخيال، لم تتصور مصاص دماء يختار ضحاياه مسترشدًا بأنفاس الحياة، وروائح الكدح، ويختار من بينها -رغم فنونه الخارقة في التخفي والمراوغة- الأضعف بنيةً، والأوهن وعيًا، ويجد أقصى لذاته الحسية في امتصاص جوهر الطاقة والحياة من أجساد الضحايا. ولعل هذه الأوصاف لا تتحقق إلا في نوعين من مصاصي الدماء الحقيقيين، تشتعل بينهما حرب دموية منذ فجر التاريخ، وحتى نهايته ربما: البعوض والبشر.

يقول تيموثي وينجارد في كتابه «البعوضة»:

«ربما كان للبعوضة قدرات إعجازية على التكيُّف، لكنها مخلوق أناني تمامًا. فعلى عكس الحشرات الأخرى، لا يلعب البعوض دورًا ذا شأن في تلقيح النباتات أو تهوية التربة أو تغذية غيره من المخلوقات. وعلى ما يبدو فإن غرض البعوضة ليس سوى الحفاظ على ذريتها، وقتل البشر ربما».

خُلق الإنسان بقدرات كامنة على تجاوز كل الحدود. أما البعوض، فمثلما تقوده منظومة كاملة من الحواس والأعصاب إلى دماء ضحاياه، فإن هناك منظومة مماثلة تقابلها تكبح اشتهاء المزيد من الدم كلما نالت البعوضة ما يكفيها. في تجربة علمية مضى عليها أكثر من نصف قرن، بُترَت الأعصاب البطنية للبعوض، وهي الأعصاب التي تنقل لأدمغتها إشارات الشبع، ووثَّق العِلم للمرة الأولى المشهد المخيف لبعوضة تظل تمتص الدماء في جوع لا يُسكِنه امتلاء الجوف، ولا يُوقفه إلا تمزُّق جدار بطن البعوضة وتفجُّر الدم من الجسد الذي تتسرب منه الحياة خلال لحظات.

«تلك الملذات المستعرة ستكون خواتيمها دموية»، يبدو أن هذا هو ناموس الدنيا، كما أنذر شكسبير في روميو وجولييت، وكما شهد التاريخ على خمس سفن اسكتلندية أبحرَت يومًا إلى بنما بقليل من الزاد وكثير من البضائع (بطانيات وأمشاط وشعور مستعارة وأناجيل وجوارب و25 ألف زوج من الأحذية!) وطموح هائل كان سببًا في أن تحمل السفن أيضًا آلة طباعة ستفيد كثيرًا عند كتابة الاتفاقيات التجارية والعقود. وشهد أيضًا -بعد ستة أشهر تقريبًا- فرار السفن الخمسة على طريق العودة، بعد أن حصدَت الملاريا نصف أرواح ركابها، وتركت الكثير من النصف الآخر على الشواطئ في عجز عن الحركة وفي انتظار الموت، وطاردَت البقية على ظهور السفن حتى كانت الجثث تُلقى في مياه البحر واحدة خلف الأخرى.

أما رمال الشاطئ المهجور في بنما فقد ابتلعَت -فيما بدا- كل المنتجات الاسكتلندية الفاخرة، لأن حملة الإنقاذ التي وصلَت فيما بعد إلى المكان سجَّلت أنها لم تجد من آثار المستعمرة البائدة سوى آلة طباعة تقف وحدها وسط كل هذه الرمال، وكل تلك الرياح.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية