كيف تعيد اللغة إنتاج العنف ضدّ النساء؟

الثلاثاء 27 تموز 2021
لبنانية ترتدي كمامة تحمل رقم الخط الساخن لجمعية مناهضة للعنف ضد النساء. باتريك باز، أ ف ب.

ثمّة انشغال ما بعد حداثيّ كبير بأثر واعتمالات اللغة والخطاب في المعرفة والوعي الإنسانيّين، وبما لهما من علاقة وثيقة بالممارسات الاجتماعيّة والثقافيّة، بما تتضمّن من بنى سلطويّة وعلاقات قوّة. فلا تعدّ اللغة، من منظور ما بعد حداثيّ، محض انعكاس أو أداة نقل للواقع الاجتماعيّ، بل ينظر إليها كونها الفضاء الذي يتشكّل الواقع الاجتماعيّ فيه وعبره. لذا تولي النظريّات المنتسبة للفكر ما بعد الحداثيّ -بصفة عامّة- اهتمامًا كبيرًا بدور اللغة والخطاب في بناء وضبط وإعادة إنتاج الهويّات الاجتماعيّة.

فيما يخصّ الهويّات الجندريّة، أحدثت نظريّة الأدائيّة الجندريّة (Gender performativity theory) التي وضعتها الفيلسوفة الأمريكيّة جوديث بتلر في كتابها «معضلة الجندر» الصادر عام 199تحوّلا كبيرًا في فهم علاقة اللغة بالجندر، فمنذ أن طرحت بتلر فكرتها واسعة التأثير عن الجندر كفعل أدائيّ متكرّر، يتمّ ضمن أطر اجتماعيّة وثقافيّة، وليس كهويّة ثابتة أو مستقرّة، ولا كثنائيّات حديّة مرتبطة بصفات جوهرانيّة وجامدة، لم يعد يُنظر للّغة كأداة نقل أو تمثيل لهويّات جندريّة وجنسانيّة قَبْليّة وجوهرانيّة، بل كإحدى طرائق أداء الجندر، إلى جانب الإيماءات والحركات الجسديّة والزيّ وغيرها، وكأداة تكوين وتشكيل متواصل للجندر وللجنسانيّة.

لكن إن كانت النظريّة الأدائيّة للجندر تعني إمكانية الفاعليّة الفرديّة في الخروج على ومقاومة الأنماط الجندرّية والجنسانيّة المهيمنة، فإنّها، بحسب بتلر، تعني كذلك أن أداء الجندر وبناء الهويّات يتمّان في ظل قيود وأطر اجتماعيّة صارمة. وبما أنّ العنف ضد النساء عنف بنيويّ بالأساس، وبحكم تعلّقه الوثيق بالأعراف والأدوار الجندريّة والجنسانيّة السائدة، وبفعل ارتباطه من ثمّ بعلاقات القوّة والتراتبيّة الجندريّة المستمدّة من الفكر الأبويّ، فإن للّغة دورًا كبيرًا في بناء وصوغ المفاهيم والثقافات المتعلّقة به، وفي مأسسته وإعادة إنتاجه، وفي تكريسه في الثقافة الشعبيّة وخلق حالة من التطبيع الاجتماعيّ العام معه كذلك. 

نساء مُعنَّفات أم رجال عنيفون؟

ينتقد جاكسون كاتز، الكاتب والناشط في مجال مناهضة العنف الجندريّ، تصوير العنف ضدّ النساء على أنّه شأن نسائيّ، رافضًا الرؤية السائدة له كقضية نسائيّة «يُعين فيها بعض الرجال الجيّدون»،[1] ويرى كاتز أنّ العنف ضدّ النساء قضيّة الرجال بصورة رئيسة، لكنّ صياغته كأنّه قضيّة نسائيّة تخرج الرجال من المحادثة، إذ تعطيهم مسوِّغًا ألّا يأبهوا بما يحسبونه شأنًا نسائيًّا خالصًا. يقول كاتز إنّ الأمر نفسه يحصل مع كلمة «جندر» التي يظنّ كثير من الناس أنّها تعني «النساء»، ولذا ثمّة تصوّر شائع أنّ قضايا الجندر تعني قضايا النساء.

يوضّح كاتز كيف تتواطؤ اللغة في تغييب الرجال عن موضوع العنف ضدّ النساء بأمثلة لتراكيب من اللغة الإنجليزيّة مستقاة من أعمال اللغويّة النسويّة جوليا بينلوبي، إذ يقول إنّ الأمر يبدأ بجملة إنجليزيّة بسيطة كجملة «جون ضرب ماري»، بها فاعل وفعل ومفعول به، ثم تتحوّل الجملة في صيغة المبني للمجهول إلى «ماري ضُربت من قِبل جون»، فيتحوّل الانتباه إلى «ماري» إذ يتوارى «جون» إلى آخر الجملة، أمّا في جملة «ماري ضُربت»، فالفاعل يخرج تمامًا من المعادلة، وتصبح الجملة عن «ماري»، وينصبّ الانتباه كلّه حولها، ويُشاع صياغة هذه الجملة الأخيرة بصورة أخرى بالقول: «ماري عُنِّفت»، وحين تتحوّل هذه الجملة إلى جملة اسميّة، «ماري امرأة مُعنَّفة»، يتحوّل النظر كُليًّة إلى «ماري» كامرأة مُعنَّفة، لا إلى مُعنِّفها، «جون»، الذي خرج باكرًا جدًّا من المعادلة كلّها.

هكذا، إذًا، تتحوّل القضيّة من الرجال العنيفين إلى النساء المُعنَّفات، وعبر أنساق كهذه، يتحوّل العنف ضد النساء، بشتّى صوره، إلى قضيّة نسائيّة لا شأن للرجال بها.

«لسانيّات اللوم»: كيف يُزاح اللوم من المعتدي إلى الضحيّة؟

تتجلّى إحدى صور تقاطع الممارسات اللغويّة والممارسات الاجتماعيّة في موضوع العنف ضد النساء في ذلك النمط السائد من تحميل النساء مسؤوليّة العنف ضدهنّ، وإزاحة المسؤوليّة من الجاني إلى الضحيّة. في دراستها المنشورة عام 1992، تبحث الكاتبة كيت كلارك[2] في كيفيّة توجيه وصوغ اللوم ولمن يُوجّه هذا اللوم في الاعتداءات الجنسيّة ضد النساء في عدد من التقارير المنشورة في جريدة «ذا صن» بين عامي 1986 و1987، وتهدف كلارك في دراستها إلى تفكيك أنماط اللوم في قضايا العنف ضد النساء، خاصّة أن صياغة اللوم غالبًا ما تكون ضمنيّة وغير مباشرة.

في تحليلها لسياسات التسمية في التقارير المعنيّة، تميّز كلارك بين خيارين رئيسين لتسمية المعتدي. في الحالة الأولى، يوصف المعتدي باعتباره كائنًا «دون بشريّ» بإسباغه بصفات مثل «شيطان» أو «وحش» أو «سفّاح» أو «معتوه»، مع استخدام أفعال توحي بخروجه عن المعايير الإنسانيّة الطبيعيّة، كما في المثال التالي من أحد التقارير المنشورة في الجريدة: «وُضع الوحش في القفص». أمّا في الحالة الثانية، فيوصف المعتدي باعتباره إنسانا عاديًّا غير خارج عن المعايير الاجتماعيّة بإيراد تفاصيل تخصّ اسمه، وعمره وعنوانه ومهنته، إلخ.

تتحوّل القضيّة من الرجال العنيفين إلى النساء المُعنَّفات، وعبر أنساق كهذه، يتحوّل العنف ضد النساء، بشتّى صوره، إلى قضيّة نسائيّة لا شأن للرجال بها.

فيما يخصّ تسمية الضحيّة، وأيّ امرأة أخرى ذات صلة بالواقعة، تختار الجريدة من بين مجموعة من التفاصيل الشخصيّة، مثل الاسم والعمر والعنوان والمهنة والحالة الاجتماعيّة، وما إن كانت أمًا أم لا. وتلاحظ كلارك أن التفاصيل المعطاة غالبًا ما تستهدف إطلاق ألقاب على الضحيّة، بدل فردنتها، فإن كانت المرأة شقراء ومطلّقة وأمًّا لأربعة أطفال، مثلًا، فقد توصف كـ «أمّ لأربعة أطفال» أو كـ«مطلّقة شقراء»، وهكذا توصف الضحايا عادة، لا كأفراد، بل في صورة أدوار اجتماعيّة وبحسب «الجاذبيّة الجنسيّة».

تلاحظ كلارك أيضًا أنه ثمّة ارتباط غير اعتباطيّ بين تسمية المعتدين والتسمية المختارة لوصف الضحايا، وتفسّر ذلك بكونه مرتبطًا، فيما يبدو، بـ«إتاحة جنسيّة مُفترَضة»، إذ إنّه في حالة التسمية المشيطِنة للمعتدين، عادة ما تُستخدم لتسمية الضحايا أوصاف من قبيل «زوجة»، «أمّ»، «ابنة»، «فتاة»، «ربّة منزل» (وهي أوصاف توحي بأنّ هاته النساء غير متاحات جنسيًّا)، بينما في حالة التسمية غير المشيطنة للمعتدين، تُعطى الضحايا أوصاف من قبيل «شقراء»، أو «أمّ عزباء»، أو «مطلّقة شقراء»، أو «لوليتا»[3] (ما قد يوحي بأنهنّ متاحات جنسيًّا). ثمّة نوع من اللوم الضمنيّ للضحايا في الحالة الثانية إذًا بما تتضمّنه أوصافهنّ من إيماءات مبطّنة.

ترى كلارك أنّ استخدام أنماط اللوم في الجريدة المعنيّة يساعد في الحفاظ على وإعادة إنتاج الوضع القائم، إذ ترتكز استراتيجيّة الجريدة على التمييز بين من تشيطنهم ومن لا تشيطنهم من المعتدين، وعلى التمييز، بالتالي، بين الضحايا «الحقيقيّين» والضحايا «غير الحقيقيّين»، وتعتمد هذه التمايزات على تعريف وتصنيف الجريدة للضحايا، وليس بناءً على فعل الاعتداء ذاته. كما تنتقد كلارك هذا النمط من تسمية الضحايا لانطلاقه من منظور أبويّ، ولأنّ التسمية المشيطنة للمعتدين تبرّر جريمتهم بما توحيه من شرّ وغرابة، ومن خروجهم عن المعايير الإنسانيّة والمجتمعيّة، إذ لا يمكن مساءلة الوحش أو الشيطان عن أفعاله. فوق ذلك، باعتبار هؤلاء المعتدين نمطًا خارجًا عن المجتمع، تعفي هذه التسمية المجتمع من مسؤوليّته عن إنتاج العنف والمعنِّفين.

العنف ضد النساء في السياق المحلّي

ثمّة أنساق شبيهة في تغطية وقائع العنف ضد النساء في الصحافة في محيطنا المحلّي. في مصر، مثلًا، المعروفة بتزايد معدّلات العنف الجنسيّ ضد النساء فيها في السنوات الأخيرة، والمعروفة كذلك بتزايد وتيرة الحكي العلنيّ والكشف والفضح، وحتى الإبلاغ الرسميّ عن جرائم الانتهاك والاعتداء الجنسيّ فيها، يُلاحَظ نمط عام في تسمية جرائم العنف الجنسيّ في الإعلام، إذ غالبًا ما تُسمّى هذه القضايا بنسبها لمكان أو موقع حدوث الاعتداء، مسبوقًا بكلمة «فتاة». فمنذ أقدم قضايا العنف الجنسيّ التي عُرفت إعلاميًّا باسم «فتاة العتبة» في التسعينات، مرورًا بوقائع عنف جنسيّ تداولها الإعلام باسم «فتاة المول»، و«فتاة التجمّع» و«فتاة العيّاط» و«فتاة المنصورة»، وصولًا إلى «فتاة الميكروباص» و«فتاة ميت غمر»، و«فتاة المترو»، يغيب فعل العنف الجنسيّ في العنوان العام للواقعة، كما يغيب النوع الاجتماعيّ للفاعل، وتُنسب القضيّة للضحيّة/ الناجية ومكان وقوع الاعتداء، كأن علّة وقوع الحدث هو الضحيّة نفسها ومحلّ تواجدها، لا الجاني وفعله.

لا تُغيّب عناوين كهذه ذكر فعل الاعتداء الجنسيّ فحسب، بل تلصق الواقعة كلها بالمُعتدَى عليها ومكان الاعتداء، وهكذا تتقاطع هذه الممارسة مع نمط مستقرّ من «لوم الضحيّة» بالتشكيك في ملبسها، وسلوكها، ومكان وتوقيت وجودها ساعة الاعتداء، ودوافعها ومدى رضائيّتها عن الفعل في حالة حدوث الاعتداء من شخص تعرفه، وتكون الضحيّة/ الناجية محلّ التساؤل والحديث والنقاش والتذكّر كلّما أثيرت الواقعة، بدلًا من الجاني ومن موضوع العنف الجنسيّ. كما أنّ هذا النمط من تسمية وقائع العنف الجنسيّ يغذّي التصوّر السائد أنّ العنف الجنسيّ قضيّة نسائيّة، ولا شأن للرجال به.

في المقابل، حين تُنسب لرجل وقائع ابتزازه واستغلاله الجنسيّ لعدّة سيدات، فإنّ قضيّته تُعرف إعلاميًّا بقضيّة «عنتيل الجيزة»، وهي تسمية لا تُغيّب صور العنف ضد النساء المتضمّنة في هذه الوقائع فحسب، لكنها تستبدل بها مفردة «عنتيل» التي تحيل في اللهجة المصريّة المحكيّة إلى ما تحيل من معاني الفحولة، وما يتلازم معها من محمولات ثقافيّة، وما تثيره من استيهامات وإعجاب وسخرية وتندّر ونكات حول فحولة الرجل وألاعيبه وطرائق إيقاعه بضحاياه، وبفعل تسمية كهذه، يتوارى الجرم وتتوارى حقوق الضحايا، وتتصدّر صورة الرجل العنتيل و«مغامراته الجنسيّة» الواجهة.

ترتكز أسماء كهذه بوضوح على البعد الفضائحيّ لمثل هذه الوقائع، وعلى إثارة الفضول الجنسيّ، لا على تسمية الجرم باسمه ووصفه بصورة تقريريّة وموضوعيّة، وتتحوّل الجريمة، عبر الاسم الذي أعطي لها، إلى مصدر لاستهلاك و«بيع» وترويج الأخبار المتعلّقة بها، وتصير موضوعًا للتلصّص والاستيهام، فيتحوّل الانتباه من موضوع العنف الجنسيّ إلى موضوع الجنس، وهو ما يساهم في تطبيع العنف الجنسيّ في الأذهان، إذ تتحوّل بعض صور العنف ضد النساء عبر أنساق لغويّة كهذه إلى صور «طبيعيّة» للفعل الجنسيّ.

بخلاف النمط سابق الذكر أيضًا، باتت تُعرف وقائع اتهام عدد من الرجال لطبيب أسنان مصريّ شهير بالتحرّش بهم مؤخّرا بقضيّة «الطبيب المتحرّش» أو «الطبيب المتحرّش بالرجال»، وهي تسمية تتضمّن ذكرًا واضحًا لجريمة التحرّش، كما أنّ القضيّة لم تُنسب لأحد الضحايا، ولا لمكان وقوع الانتهاكات، ويردُ في الاسم الإعلاميّ للقضيّة أيضًا النوع الاجتماعيّ للمعتدي والمُعتدَى عليهم. يبدو أمرًا بسيطًا وممكنًا وبديهيًّا إذن أن تسمِّي قضيّة عنف جنسيّ المجرمَ باسمه، وأن يُنسَب الجرم لفاعله، لا إلى ضحاياه، هذا لولا تورّط اللغة وتجذّرها في الممارسة الاجتماعيّة التي اعتادت إلصاق جرائم العنف ضدّ النساء بالنساء، اسمًا وتعليلًا.

من الإعلام إلى ساحات المحاكمة

في دراساتها حول اللغة والجندر، تبحث اللغويّة سوزان إرليك في أثر عمليات التقاضي في قضايا الاعتداء الجنسيّ على أداءات الجندر، وكيفيّة تشكيل الافتراضات والأيديولوجياّت الذكوريّة التي ينطوي عليها الخطاب القضائيّ للهويّات والعلاقات الاجتماعيّة. تعتمد إرليك في مثل هذه الدراسات على تحليل التفاعلات اللغويّة في عمليّات التقاضي الخاصّة بالعنف الجنسيّ ضدّ النساء، وترصد من خلالها الفجوة بين القانون كنصّ والقانون كممارسة اجتماعيّة.

في دراسة حالة[4] لتسجيلات جلسات المحاكمة في واقعتي اعتداء جنسيّ اتُّهم فيها شاب جامعيّ كنديّ، على سبيل المثال، توضّح إرليك كيف أنّ «مفاهيم قانونيّة، مثل «التراضي»، و«عدم التراضي»، و«الاعتداء الجنسيّ»، تُحمَّل بالمعاني في سياق الممارسات القانونيّة اليوميّة، وهي معانٍ غالبًا ما تخرج بصورة كبيرة عن التعاريف القانونيّة لهذه المصطلحات في السياق الكنديّ».[5] تعود تفاصيل هذه القضيّة إلى اتّهام بالاعتداء الجنسيّ لطالب في المرحلة الجامعيّة الأولى في جامعة يورك، بتورنتو، كندا، من قبل اثنتين من زميلاته بالجامعة جمعته بهنّ علاقة معرفة عارضة قبل حادثتي الاعتداء، وقد جرى تداول هذه القضيّة في محكمة تأديبيّة متعلّقة بالتحرّش الجنسيّ تابعة لجامعة يورك، وفي محكمة جنائيّة كنديّة.

ترصد إرليك من خلال تحليلها لوقائع هذه القضيّة عدّة جوانب مهمّة فيما يخصّ قضايا الاغتصاب من قبل المعارف. فبالإضافة إلى النظر إلى الجوانب اللغويّة في شهادة المُدَّعى عليه عن وقائع العنف الجنسيّ المتّهم بها، وإشارتها إلى استخدامه لما تسمّيه «نَحو اللافاعليّة» (A grammar of non-agency)، وهي صيغ لغويّة متعدّدة[6] تلطّف من الاعتداء الجنسيّ وتزيح وتنفي مسؤوليّته عنه، وتصوّره، عوضًا عن ذلك، كشريك للمُدّعيات في أفعال جنسيّة رضائيّة. تتتبّع إرليك آثار الخطاب والأيديولوجيّات السائدة حول الجندر والجنسانيّة في تشكيل رؤية هيئة المحكمة للأحداث وفي مآلات المحاكمة،[7] وتوردُ مثالا لذلك الفقرة التالية التي جاءت في حيثيّات الحكم على المُدَّعى عليه في أحد القضيّتين من قبل المحكمة الجنائيّة الكنديّة:

«تبقى الطبيعة البشريّة في جوانب كثيرة هي هي ولا تتغيّر، خاصّة في المجال المعقّد للسلوك الجنسيّ والدافع المستقرّ في الإنسان نحو غاية استمرار الجنس البشريّ. يجب أن يكون الشباب حسّاسًا لحقّ الشابّة في أن تقول «لا»، ويجب أن تعي الفتيات، من ثمّ، أنّه حين يُستثار فتىً أثناء النشاط الجنسيّ إلى درجة كبيرة، فثمّة خطر أنّ ما سيسوقه هي الهرمونات، لا ضميره».[8] 

تستدعي هذه الفقرة، بحسب إرليك، خطاب «الدافع الجنسيّ للرجال» (The male sexual drive discourse) الذي يصوّر جنسانيّة الرجال كأمر مرتهن بدوافع بيولوجيّة غير قابلة للتحكّم، كما يُحمِّل هذا الخطاب النساء مسؤوليّة الاعتداء الجنسيّ عليهنّ بدعوى استثارة غرائز الرجال، ويحيل مسؤولية العنف الجنسيّ إلى دوافع خارجة عن تحكّم مرتكبه، وهكذا فإنّه يُصادق على خطاب المُدَّعى عليه بخصوص كونه غير فاعل أو مرتكب لاعتداءات جنسيّة على الضحايا.

من جانب آخر، تشير إرليك أيضًا إلى استدعاء «معيار المقاومة القصوى» (The utmost resistance standard) في جلسات المحاكمة، وهو معيار متقادم كان معمولًا به كمطلب ضروريّ في قضايا العنف الجنسيّ في الولايات المتحدة الأمريكيّة حتّى الستينات، إذ كان يُشترط لإثبات الاغتصاب أن تبرهن المدّعية أنّها قاومت الاعتداء الجنسيّ عليها بأقصى قوّة لديها وحتّى النهاية. يتجلّى استدعاء هذا المعيار في مساءلة المدّعيتين بشأن ما اتّخذن وما لم يتّخذن من وسائل لمقاومة الجاني، فقد واجهت المُدّعيتان أسئلة من قِبل دفاع المتهم وهيئة المحكمة تنبني على افتراض وجود عدّة «خيارات» ومسالك أخرى كان يمكن لهنّ اتخاذها في صدّ الاعتداء الجنسيّ عليهنّ. سُئلِت المُدّعيتان في أكثر من سياق، على سبيل المثال، حول أسباب عدم مغادرتهنّ للغرفة، أو عدم إيصاد باب الغرفة خلف المعتدي، أو عدم صراخهنّ طلبًا للمساعدة، إلخ. فوق ذلك، واجهت المدّعيتان أيضًا تشكيكًا في جدوى وفعاليّة ما استطعن اتخاذه من مساع لمقاومة المُدَّعى عليه.

لكنّ الحديث عن خيارات الضحايا وحرّيّة التصرّف والمسالك البديلة يتجاهل، كما تحاجج إرليك، أثر علاقات القوّة في تشكيل خيارات وردود فعل النساء في سياق العنف الجنسيّ والحدّ منها، وهو ما ظهر جليًّا فيما أفادت به المُدّعيتان في شهاداتهنّ حول ما انتابهنّ من خوف من التعرّض للإيذاء، ومن ارتباك وتشوّش، وخجل من عدم السيطرة على الموقف. رغم ذلك، تشير إرليك إلى أثر استدعاء «معيار المقاومة القصوى» في تقويض مصداقيّة ورواية المُدّعيتين حول ما تعرضنّ إليه من عنف جنسيّ، وفي اعتبار نكوصهنّ عمّا افترضه دفاع المتهم وأعضاء المحكمة من «خيارات» لإنهاء الاعتداء الجنسيّ عليهنّ سلوكًا سلبيًّا، وفي تأويل طرائقهنّ في مقاومة المعتدي على أنّها مقاومة غير فعّالة وغير كافية، وبالنتيجة، في فهم وإعادة تأطير وقائع العنف الجنسيّ المعنيّة على أنّها وقائع جنس قائم على الموافقة.

وفي عود للسياق المحلّي، وخلافًا لما أشارت إليه إرليك في دراستها من مفارقة بين التعاريف القانونيّة لمفاهيم مثل «التراضي» والتصوّرات والممارسات الاجتماعيّة لها، تنبني ما تُعرف في سياقنا المحلّي بـ«جرائم الشرف» ابتداءً على تسويغ وترسيخ المفهوم الاجتماعيّ والثقافيّ لـ«الشرف» عبر القانون والقضاء، وعلى تقاطع اللغة والقانون والبنى الاجتماعيّة وما تستند عليه من تصوّرات محليّة راسخة عن الجندر والجنسانيّة في تشكيل وتحديد المفاهيم القانونيّة القائمة عليها عمليّات التقاضي في هذا النوع من قضايا قتل النساء من قِبل الأقارب، وفي العقوبات التعزيريّة والأحكام المُخفّفة التي تؤول إليها.

تستند إجراءات التحقيق والتحرّي في قضايا العنف ضدّ النساء في بعض الأحيان أيضًا على القيم والتصوّرات الاجتماعيّة السائدة محليًّا. في إحدى قضايا العنف ضدّ النساء في مصر والتي عُرفت إعلاميًّا باسم قضيّة «سيّدة السلام»، على سبيل المثال، أشارت التحقيقات والتحريّات الأمنيّة إلى أنّ القتيلة كانت «بكامل ملابسها» وقت وقوع الحادث، وهي العبارة التي سرعان ما التقطتها المواقع الإعلاميّة وصدّرت بها عناوين الأخبار والتقارير المتعلّقة بالجريمة. تمثّل العبارة وأهميّة إثباتها في تحريّات القضيّة على الاستدعاء التلقائيّ للقيم الثقافيّة السائدة في نظام التحقيق والتقاضي المتعلّق بالعنف ضد النساء، كما تدلّل عبارة كهذه، بالإضافة إلى ما ورد من طلب النيابة العامّة إجراء مسحة مهبليّة للقتيلة لبيان ممارستها الجنس من عدمه قبل وقوع الجريمة، على أثر علاقات القوّة في تشكيل مواقع النساء والرجال داخل هذا النظام، حتّى فيما يتعلّق بضحيّة قُتلت في بيتها على أيدي مجموعة من جيرانها في العقار الذي تسكنه، وفيما يتعلّق بمسار قضيّتها الذي بدا مُعلّقا بما كانت ترتديه، وبما كانت تفعله في بيتها، وبمن كان في ضيافتها وقت وقوع الجريمة.

وفي تمثّل آخر لأثر التصوّرات الاجتماعيّة والثقافيّة السائدة في سير ومآلات وقائع التقاضي في قضايا العنف ضدّ النساء، وفي واقعة اتّهام شاعرة مصريّة شابّة لناشر مصريّ مشهور بالاعتداء الجنسيّ عليها، والتي انتهت إجراءات التقاضي فيها مؤخّرا بالحكم ببراءة المتهم، انبنت في بعض حيثيّات الحكم تصوّرات وأيديولوجيّات ساهمت بالتأكيد في تشكيل رؤية الأحداث، إذ أشار القاضي إلى كون المُدّعية كاتبة وشاعرة ترتاد المقاهي وتتواصل عبر وسائط التواصل الاجتماعيّ. لا يرتكز هذا الجانب من حيثيّات الحكم في قضيّة عنف جنسيّ على بيّنات قانونيّة تفنّد ادّعاء الشاكية، أو قرائن وأسانيد موضوعيّة تفيد ببراءة المتهم، بل على استدعاء وتأويل لجانب ممّا تمارسه الضحيّة/ الناجية بصورة طبيعيّة من عمل وأنشطة وهوايات كمدعاة أو مسوّغ لبراءة المتّهم. وهكذا، وبصورة إشكاليّة ومثيرة للتعجّب، جرى الاستدلال على براءة المتهم بالنظر إلى سلوك المُدّعية وأنشطتها اليوميّة، لا إلى فعل المُدَّعى عليه، وما وُجّه إليه من اتّهام، وهو ما يحيل النظر مجدّدًا من الجاني إلى الضحيّة عبر نمط اجتماعيّ عام يترسّخ هذه المرّة بعبارات واضحة ومباشرة في حيثيّات حكم قضائيّ.

تشهد الأمثلة والممارسات سالفة الذكر من مجالات وسياقات مختلفة، من الثقافة الشعبيّة إلى فضاءات الإعلام إلى أروقة المحاكم، وعلى مستويات لغويّة متعدّدة، على ضلوع اللغة في بناء التصوّرات والمفاهيم والثقافات الخاصّة بالعنف ضد النساء، وعلى تجذّر العنف ضد النساء بصورة كبيرة في الممارسات اللغويّة في تقاطعها مع الممارسات الاجتماعيّة وعلاقات القوّة التي تؤسّس لها. لكنّ هذا يدعونا، رغم كلّ شيء، إلى الانتباه إلى أنّ ما يتشكّل في اللغة يتفكّك فيها وعبرها أيضًا.

  • الهوامش

    [1] Katz, J. (2012, November)Violence against women- It’s a men’s issue. TED. 

    [2] Clark, K. (1992). The linguistics of blame: The representations of women in The Sun’s reporting of crimes of sexual violence. In M Toolan (Ed.), Language, text and context: Essays in stylistics (pp. 208-226). London: Routledge.    

    [3] تقول كلارك إنّ «لوليتا» في لغة الجريدة تعني «فتاة قاصر نشطة جنسيًّا» (ص 211).

    [4] Ehrlich, S(2001). Representing rape: Language and sexual consent. London: Routledge.

    [5] المصدر السابق، ص 30.

    [6] إلى جانب استخدامه لإستراتيجيّة إخفاء أو إسقاط الفاعل عبر توظيف صيغ المبني للمجهول، يستخدم المُدَّعى عليه في شهادته أيضًا صيغ «أفعال المطاوعة» (unaccusative verbs) كما في عبارة «انخلع قميصي» التي تطمس وجود الفاعل تمامًا، وكأنّ الفعل قائم بذاته، ويحدث تلقائيًّا بدون فاعل أو سبب لحدوثه، وكأنّه لا إرادة للمُدَّعى عليه أو لأحد غيره في خلع قميصه.

    بالإضافة إلى ذلك، يجنح المُدَّعى عليه إلى استخدام تراكيب تعتمد على «الأسمنة» (nominalizations) إذ يصف بعض الأحداث بتحويلها من أفعال لأسماء، كما يتضّح من المثاليين التاليّين:

    «بدأ النشاط الجنسيّ في التصاعد بدرجة أكبر».

    «بدأت الحميميّة بعد ذلك بوقت قصير».

    تتجنّب هذه الصيغ وصف الأحداث المعنيّة كأفعال، وهكذا تحوّلها من أحداث لها فاعل وأسباب للحدوث إلى صيغ اسميّه تطمس كلّ ذلك. وعلاوة على دلالات اختيار الألفاظ في وصف المتّهم للأحداث («نشاط جنسيّ» وليس «اعتداء»؛ «حميميّة» بدلًا من «عنف»)، يُحيّد وصف الأحداث باستخدام المصادر والمركّبات الاسميّة بدل الأفعال والصفات ما جرى من اعتداءات وعنف وقسر من المتّهم تجاه الضحايا، كما يُسقِط فاعليّة ومسؤوليّة المُدَّعى عليه عمّا ارتكبه من أفعال.   

    [7] جدير بالذكر أنّ المحكمة التأديبيّة لجامعة يورك قضت أنّ سلوك المُدّعى عليه في هذه القضيّة لم يرقى لمعايير السلوك الجامعيّ، وأنهّ لم يبد احترامًا وحساسيًّة تجاه رغبات المدّعيات، لكنّ المحكمة أفادت في حيثيّات الحكم أنّ المُدّعى عليه لا يمثّل «تهديدًا واضحًا وآنيًّا لأعضاء المجتمع الجامعيّ» (ص 54)، ورغم توصية محامي الجامعة بطرد المتهم، قضت المحكمة بتقييد دخوله للسكن الجامعيّ حيث وقعت الأحداث فحسب.

    بالنسبة لحكم المحكمة الجنائيّة، أدين المُدّعى عليه في واقعة الاعتداء الجنسيّ على المدعية الثانية، وبُرِّأ من الاتّهام في الواقعة الأخرى. تفيد إرليك أنّه ممّا شكّل فارقًا بين الحالتينن هو اعتراف المدّعية الأولى أنّها كانت تشعر بانجذاب نحو المتّهم، وأنّها وافقت على تقبيله في البداية، لكنّها، رغم ذلك، أوضحت أنّها لم تُرد الاستمرار في أيّ سلوك حميميّ آخر، ورفضت الاعتداءات الجنسيّة اللاحقة للمتّهم. بالإضافة إلى ذلك، ثمّة شهود على واقعة الاعتداء الجنسيّ على المدعية الثانية إذ حدث أنّ المدّعية وصديقتها والمدّعى عليه وصديقه جميعهم قضوا ليلتهم في حجرة المدّعية في السكن الجامعيّ ليلة الاعتداء.

    [8] المصدر الرابع، ص 57.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية