لعبة الحبار: مجازٌ للجحيم الرأسمالي

السبت 09 تشرين الأول 2021
مشهد من مسلسل «لعبة الحبار» على منصة نتفلكس. المصدر: أ ف ب.

نشر هذا المقال للمرّة الأولى بالإنجليزية في موقع جاكوبين بتاريخ 6 تشرين الأول الحالي، ومن المهم الانتباه إلى أن النص يحتوي على حرق لجزءٍ من أحداث المسلسل.

يَعرف العالم صناعة الترفيه في كوريا الجنوبية، بشكل رئيسي، بزخمها الغزير من البوب الكوري (K-Pop) المتفائِل والمنتَج بكميات كبيرة، إلّا أن حفنةً من الأفلام والمسلسلات التلفزيونية الكورية قد حظيت أيضًا باهتمام عالمي في السنوات الأخيرة. إصدارات البلد السينمائية جاءت أكثر قتامة، حيث تعاملت مباشرة ومجازًا مع الحقائق المروّعة للحياة في ظل الرأسمالية في كوريا.

أحدث إصدار من هذا النوع هو دراما السعي للبقاء على قيد الحياة الديستوبية من نيتفلكس «لعبة الحبار» (Squid Game). وهو في طريقه ليصبح أكثر مسلسلات المنصّة مشاهدة على الإطلاق. ومثل فيلم المخرج بونغ جون الحائز على جائزة الأوسكار عام 2019 «طُفيْلي» (Parasite) ومسلسل الدراما الكورية «غير منهجي» (Extracurricular) عام 2020 على نتفلكس، يعكس لعبة الحبار الاستياء المتزايد من عدم المساواة الاجتماعية والاقتصادية في كوريا.

شهد الاقتصاد الكوري الجنوبي، الملقب بأنه أحد «النمور الآسيوية» الأربعة، تغيّرات هائلة في السنوات الستين الماضية، بعد تحوّله السريع لبلد صناعي عقب الحرب الكورية. في عام 1960، وضعَ متوسط دخل الفرد في كوريا الجنوبية، البالغ 82 دولارًا، البلادَ خلف قائمة طويلة من البلدان المستغلة اقتصاديًا والفقيرة، بما في ذلك غانا والسنغال وزامبيا وهندوراس. لم تبدأ كوريا تحقيقَ نمو اقتصادي هائل حتى وصول الديكتاتور بارك تشونغ هي إلى السلطة عام 1961. تطوّرت البلاد، بما يعرف باسم «معجزة نهر هان»، من بلدٍ منخفض الدخل إلى أحد الاقتصادات الرائدة في العالم، في غضون عقود قليلة.

ورغم أن النمو الاقتصادي في كوريا رفع المستوى العام للمعيشة، فقد تخلّف الكثيرون عن الركب. معدّل الانتحار في كوريا الجنوبية من أعلى المعدلات في العالم، وهي مشكلة خاصة بين كبار السن، حيث يعيش نصفهم تقريبًا تحت خط الفقر. للشباب معاناتهم الخاصة، بما في ذلك التجنيد العسكري، والضغط الأكاديمي الكثيف، والبطالة الهائلة (عام 2020، وصل معدل بطالة الشباب 22%). صاغ الشباب الكوريون مصطلحًا لهذا المجتمع الذي يعاني من ضغوط شديدة وفرص محدودة: «جحيم جوسون»، في إشارة ساخرة إلى سلالة جوسون الحاكمة الهرمية الصارمة، والتي كان من المفترض أن تتركها كوريا الحديثة وراءها.

بينما يكافح الملايين من الكوريين العاديين للنجاة، تسيطر نخب البلاد على الاقتصاد بقبضة حديدية. يعمل الاقتصاد الكوري على أساس «تشايبول» (chaebols) وهي تكتلات من الشركات المملوكة من قبل حفنة من العائلات الثرية وذات النفوذ. أصبحت تشايبول، التي كان يشاد بها لانتشالها الأمة من الفقر، الآن بمثابة مثال للرأسمالية الاحتكارية في كوريا الجنوبية، محفوفة بالفساد وخالية من العواقب.

ما يميز مسلسل لعبة الحبار عن أعمال الديستوبيا الأخرى، تركيزه الواضح على الطبقية وعدم المساواة، لا سيما في سياق كوريا الجنوبية الحديثة.

تشمل أكبر مجموعة تشايبول في البلاد شركة سامسونج، التي أُطلق سراح رئيسها التنفيذي لي جاي يونغ من السجن في آب 2021، بعد أن قضى نصف مدة عقوبته البالغة عامين فقط بتهمة الرشوة والاختلاس. في تبرير إطلاق سراحه، أشارت حكومة كوريا الجنوبية إلى أهمية لي في اقتصاد البلاد.

عدم المساواة الشديد في كوريا هو الموضوع المركزي في مسلسل لعبة الحبار. في المسلسل، تتنافس مجموعة من المتسابقين المثقلين بالديون في مجموعة متنوعة من ألعاب الأطفال، من لعبة الضوء الأحمر والضوء الأخضر، إلى لعبة «ببوبجي» (ppopgi) الكورية التقليدية، لفرصة الحصول على 38 مليار وون كوري، أي حوالي 38 مليون دولار أمريكي. هناك شرط واحد فقط، تلعب كلّ لعبة حتى الموت. يُقتل اللاعبون الذين يفشلون على الفور، وتتصاعد مخاطر الإقصاء مع كل جولة. في كل مرّة يُقتل فيها لاعب، تُضاف أموال إضافية إلى وعاء الجوائز، وتُعرض على شكل حصالة عملاقة  محلّقة في منتصف مهجع اللاعبين.

أثناء ذلك، تراقب نخبة من أثرياء العالم، مسرورة، المحاولات البائسة للاعبين للفوز بالجائزة. يقامرون على حياة اللاعبين، تمامًا كما قامر بطل المسلسل، جي هن، ووصل بنفسه إلى دَين دمّر حياته. في تصوير بديع للكيفية التي يسير بها المجتمع الخاضع للرأسمالية، إذ يخضل المجتمع لنوعين من القوانين؛ قانون للأغنياء، وآخر للفقراء.

ما يميز مسلسل لعبة الحبار عن أعمال الديستوبيا الأخرى، مثل «معركة رويال» (Battle Royale) و«ألعاب الجوع» (The Hunger Games)، تركيزه الواضح على الطبقية وعدم المساواة، لا سيما في سياق كوريا الجنوبية الحديثة. في الحلقة الثانية من لعبة الحبار، يعود أبطال المسلسل إلى حياتهم اليومية بعد التصويت لإيقاف اللعبة في الحلقة الأولى، لكن الظروف القاسية في حياتهم في ظل الديون الطاحنة تجذبهم للعودة للعبة. إذا كانوا سيعانون في ظل الرأسمالية على كل حال، فلماذا لا يجرّبون حظهم للحصول على أموال الجائزة التي ستغير حياتهم؟ تستحضر الحلقة وعنوانها «الجحيم» طبيعة جحيم جوسون الذي لا مفر منه.

مع تقدم المسلسل، يُكشف أن المشاكل المالية الأولية لجي هن تعود إلى فقدان وظيفته قبل عشر سنوات. قال هوانغ دونغ هيوك، كاتب المسلسل ومخرجه، إنه صاغ شخصية جي هن على غرار منظمي إضراب مصنع سانج يونج موتورز عام 2009، والذي هُزِم بعد اعتداءات متواصلة من الشرطة. [في مشاهد] لاستحضار الماضي، نعلم أنه وبعد تسريح جي هن ومجموعة من زملائه في العمل، تحصن هو وزملاؤه من أعضاء النقابة داخل مستودع دراجون موتورز طوال الليل. كسرت الشرطة الأبواب وضربوا العمال المضربين بالهراوات. ضربت الشرطة زميل جي هن حتى الموت أمام عينيه. بينما يتكشّف هذا المشهد من القمع العنيف، يفوّت جي هن حضور ولادة ابنته.

تتمتع كوريا الجنوبية بتاريخ طويل ومتواصل من الممارسات المناهضة للعمال، والتي غالبًا ما تكون متطرّفة، وأحيانًا عنيفة. في الشهر الماضي، اعتُقل وسُجن رئيس أكبر اتحاد نقابات عمالية في البلاد، وهو الاتحاد الكوري للنقابات العمالية (KCTU)، بحجة انتهاك لوائح السلامة الخاصة بكوفيد-19 في تجمّع عمالي في العاصمة سيول. من المرجح أنه تم قد استهدافه بسبب إظهاره درجة عالية من النضال العمالي، الأمر الذي أربك الحكومة. وهو الرئيس الثالث عشر لهذا الاتحاد العمالي الذي يتم سجنه.

تتمتع كوريا الجنوبية بتاريخ طويل ومتواصل من الممارسات المناهضة للعمال، والتي غالبًا ما تكون متطرّفة، وأحيانًا عنيفة.

إضافة إلى إضراب سانج يونج موتورز الأحدث عام 2009، الذي أشار له المسلسل، للصراع الطبقي العنيف حضور مستمرّ عبر التاريخ الكوري. عام 1976، على سبيل المثال، بدأت العاملات في مصنع دونغ إيل للنسيج معركةً، استمرّت عامين تقريبًا، من أجل انتخابات نقابية نزيهة وديمقراطية، واجهن خلالها وحشية هائلة واعتداءات من الشرطة. وبلغ النضال ذروته في هجوم شنّه مناهضو النقابيين المدعومين من وكالة المخابرات المركزية الكورية، ألقوا فيه الخراء على العاملات اللاتي حاولن التصويت في انتخابات النقابة. في معركة دونغ إيل ظهرت مجموعة ثيمات سادت تاريخ العمل الكوري في وقت واحد؛ السياسات الحكومية المعادية للعمال، وحرب الشركات عليهم، والعنف ضد النساء، والنقابات المسيطر عليها من الشركات داخل اتحاد النقابات الكورية (FKTU). ومنذ ذلك التاريخ لم يكن تاريخ العمالة الكورية أقل وحشية. 

في الحلقة الرابعة من المسلسل، التي حملت عنوان عالم عادل، يُقبض على متسابقٍ وهو يغش، فيتم إعدامه مع زملائه. ثم يلقي سيد اللعبة خطابًا حماسيًا يصوّر فيه نفسه على أنه مانح الفرص الكريم، ويصوّر العملية على أنها عملية فوز عن جدارة. يقول: «هؤلاء الأشخاص عانوا من عدم المساواة والتمييز في العالم الحقيقي، ونحن نمنحهم فرصة أخيرة للقتال بعدل، وللفوز».

وإن كانت الجدارة مفهومًا عامًّا في المجتمعات الرأسمالية، فإن لها في كوريا صدىً خاصًا يعود تاريخه إلى الكونفوشيوسية. حيث تظل فكرة أن العمل الجاد يؤتي ثماره شعارًا شائعًا في كوريا، حتى مع تزايد عدد الشباب الكوريين الذين رغم اتباعهم المسار المستقيم الضيق لنظام التعليم الكوري شديد التنافس يواجهون البطالة وهيمنة التشايبول وعدم المساواة.

بالنسبة للكثيرين، أصبحت معجزة نهر هان هي جحيم جوسون. ومثل فيلم «طفيلي» (Parasite) قبله يُظهر لعبة الحبار أن الشقوق تتشكل في أساطير الرأسمالية في البلاد.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية