لماذا لم يقل فيلم «فرحة» ما يجب أن يقال؟

الأربعاء 07 كانون الأول 2022
فيلم فرحة
مشهد من فيلم «فرحة».

أثار فيلم «فرحة» الذي بدأ عرضه مؤخرًا على منصة «نتفليكس» ردود فعل متباينة، حيث حاز على قبول ملحوظ من الجمهور الفلسطيني وتعرض لبعض الانتقادات، في حين هاجمه الإسرائيليون وطالبوا بمقاطعته. ويأتي «فرحة» في سياق تنامي ظاهرة الأفلام التي تعالج القضية الفلسطينية بحاضرها وتاريخها، والتي غالبًا ما تشق طريقها إلى الرأي العام الغربي. لذلك، بغض النظر عن طبيعة ردود الفعل، من المهم فتح مساحات لمناقشة هذه الأعمال بموضوعية ومسؤولية كجزء من مناقشة شكل الرواية الفلسطينية التي تتبلور من خلالها، والتفكير في سبل تعزيز حضورها الدولي دون أن تفقد أي من ملامحها الأصلية. 

يفترض أن الفيلم يسلط الضوء على النكبة من خلال روايته لقصة حقيقية تتمثل في مجزرة ارتكبتها الحركة الصهيونية بحق عائلة فلسطينية، شهدت عليها الفتاة فرحة، الناجية من التطهير والطرد الذي حدث في قريتها. وهذه واحدة من الآف الشهادات التي يتناقلها الفلسطينيون، والتي يمثل توثيقها توثيقًا لرواية النكبة. بالتالي تَحدد دور الفيلم منذ البداية برواية ما هو خاص من خلال العام، ورواية العام عبر شهادة خاصة.

لكن الإشكالية الأساسية التي وقع فيها الفيلم هي تجنب اقتحام القضية العامة بصراحة ووضوح وجرأة كافية، حيث غاص في تفاصيل شخصية فرحة وحياتها دون تحقيق الترابط المتين والواضح مع مجريات الحدث العام، فبدت فرحة وكأنها تعيش في جغرافيا وتاريخ وسياسة ضبابية الملامح. فقد اختار القائمون على الفيلم على ما يبدو تركيب الأحداث والمشاهد بحذر ودون تعمق، وجاء الحوار مقتضبًا فضفاضًا وفقيرًا خاليًا من التعبيرات والمصطلحات المتداولة في «أدبيات النكبة». ولعل ذلك ناتج عن ممارسة «رقابة ذاتية» أو البحث عن «توازن ما» يسمح بحضور أكبر للفيلم على المنصات الدولية، مما أربك كامل روايته.

مسلحون غرباء وعدو مجهول

يبدأ الفيلم أحداثه بقصة فرحة التي تحلم باستكمال التعليم في المدينة وهي تعيش في مجتمع محافظ، فتواجه برفض «الشيخ» و«تردد» الأب ورغبة ابن العم بالزواج منها. ثم يحدث الانتقال من المحور الاجتماعي إلى السياسي، أي من حلم التعليم إلى الخطر الذي يتهدد القرية، من خلال مشهد يصور «مسلحين» فلسطينيين في بيت مختار القرية -والد فرحة- يطلبون منه المساعدة في القتال، وهنا يرفض المختار المساعدة لأن قرى كثيرة حدث فيها تهجير ولجوء، وهو يريد المحافظة على قريته بانتظار وصول الدعم العربي. 

رغم أن هذا المشهد تأسيسي لمجمل الرواية، ويفترض به مساعدة المشاهد وخاصة من ليس لديه معرفة كافية بالتاريخ على فهم سياق المجزرة التي سترتكب لاحقًا في بيت المختار، والتمهيد لها كجزء من النكبة، إلا أن الحوار ابتعد عن تسمية الأشياء بمسمياتها، فدار الحديث عن لجوء وتهجير بصيغة المبني للمجهول، دون تحديد السبب وتسمية المسبب. لم يذكر طوال الفيلم كلمات كالحركة الصهيونية أو اليهود أو حتى فلسطين، وكأن الحديث يدور عن شيء بعيد متخيل.

إن الإشكالية الأساسية التي وقع فيها الفيلم هي تجنب اقتحام القضية العامة بصراحة ووضوح وجرأة كافية، حيث غاص في تفاصيل شخصية فرحة وحياتها دون تحقيق الترابط المتين والواضح مع مجريات الحدث العام.

وقد زادت المعالجة الإخراجية من هذه الضبابية، إذ تم نقل الحوار وتصوير كامل المشهد من خلف الباب حيث تقف فرحة تسترق السمع والنظر، وهو ما حوّل «المسلحين» أنفسهم الى غرباء عن المُشاهد، فلم نعرفهم ولم نعرف ما هي قضيتهم ومن سيقاتلون ومن أجل ماذا. لم يبذَل الجهد الدرامي الكافي ولم يبنى الحوار المناسب، ولم ندخل -كمشاهدين- إلى الغرفة لنقترب من شخصية هذا «المسلح/ المقاوم» ونتعرف عليه وننحاز له ولقضيته، وذلك على نمط البناء الدرامي في الأفلام الأمريكية التي ننسى معها أنفسنا فننحاز للحظة إلى قناص أمريكي في العراق، مع فارق التشبيه. على العكس من ذلك، تم تصوير الحوار متوترًا بين المختار وهؤلاء المسلحين لدرجة أن يطردهم بشكل غير مباشر من بيته، وينتهي هذا المشهد بمقطع يبعدهم تمامًا عن فرصة انحياز المُشاهد لهم، حين ينادي أحدهم المختار وهو يهم بالخروج بصيغة تهكمية قائلًا «يا أبو فرحة»، وكأنه يسخر من كونه ينادى باسم ابنته وليس له ابن.

في المقابل، يقع هذا المشهد في «تناقض ثقافي» عندما يفتح أحد هؤلاء المسلحين الغرباء عن البيت البابَ ليأخذ الشاي من فرحة، وليس والدها كما هو مفترض في مجتمع محافظ، وتفسير ذلك تجيب عليه عدسة الكاميرا حين تركز على «مسدس» معلق على وسط الشاب الذي تناول الشاي. هذا التركيز على السلاح دون المسلحين يتكرر في مشهد اقتحام القرية، حيث تظهر بوضوح مجموعة منهم تركض بين الناس الهاربين من إطلاق النار، ويعود موضوعًا محوريًا مرة أخرى عندما يقتحم الجنود بيت المختار ليبدو وكأن سبب وجودهم هو البحث عن سلاح وعن مقاتلين.

مفارقة غريبة أن يعالج الفيلم قضية «المقاتل» الفلسطيني وسلاحه بهذه الطريقة، في المقابل يلف هوية العدو الذي يقتل ويهجر الناس من قراهم بالغموض الذي يستمر حتى أثناء اقتحام القرية، حيث فجأة وبينما فرحة تجلس مع صديقتها تحت شجرة، يبدأ إطلاق نار وأصوات طائرات وقصف، وتبدأ الناس بالصراخ والهرب في كل الاتجاهات، وكل ذلك دون أن يظهر هذا الذي يطلق النار ودون أن نتعرف على فعله. وحتى عندما تبدأ عقدة الفيلم بالبروز بوجود فرحة مختبئة في غرفة في بيتهم، تختبئ الكاميرا معها ويستمر نقل ما يحصل فقط عبر الأصوات القادمة من بعيد. لا مصابون ولا قتلى ولا اقتحام بيوت وطرد متعمد ومنظم للناس. هذه المعالجة للمشهد المتمثلة بعدم إظهار مقتحم القرية أدت تلقائيًا إلى إخفاء عناصر الجريمة ببعدها العام المتمثلة في النكبة، أي أن ذلك مثّل قطعًا ما بين الرواية الشخصية والحدث العام.

الكاميرا خلف الباب

يظهر العدو الخفي للمرة الأولى عندما يصل جنود برفقة «جاسوس مقنع» إلى بيت المختار. وفي هذا المشهد المفصلي من الفيلم الذي يمثل ذروة القصة، يبقى العدو رغم ظهوره بعيدًا. تم تصوير كامل هذا المشهد من خلف الباب حيث تختبىء فرحة، والدلالة الوحيدة على هوية العدو كانت بعض الجمل باللغة العبرية، دون وجود لأية رمزيات أخرى.

صحيح أن وجود الكاميرا داخل الغرفة ساهم في تسليط الضوء على مشاعر فرحة وقلقها ومخاوفها، ولكن جاء ذلك مرة أخرى على حساب القضية العامة التي بقي تقديمها ضمن إطار التلميح لا التصريح. فالعدو جاء كما يظهر الحوار بحثًا عن سلاح وعن ومقاتلين وليس بنية القتل والتهجير المنظم. وعندما وجد خلال بحثه عن ذلك عائلة كاملة بنسائها وأطفالها، وبدأ يتهيأ لارتكاب جريمته، لم يدخلنا الفيلم إلى عمق شخصية القاتل ودوافعه، ولم يتوفر الحوار العميق الذي يعرفنا على خطابه السياسي والأيديولوجي. كل ما جاء على لسانهم مجرد حديث عام فضفاض لا يحمل أية دلالات سياسية. وعلى عكس ذلك، انتهى هذا المشهد بمقطع يؤشر إلى لمحة إنسانية لدى هذا القاتل، حيث لم يستطع أحد الجنود قتل رضيع كما يأمره الضابط، فيضع على وجهة منديل صغير ويخرج من البيت حزينًا. 

هناك تفاصيل ومشاهد أخرى متفرقة تزيد من إرباك الرواية وضبابيتها، على سبيل المثال، مشهد يمر فيه من القرية جنود «إنجليز» كما نادتهم فرحة، حيث يلحق بهم الأطفال وهم يحملون ألعابًا على شكل بنادق، ويرمونهم بالحجارة فيصاب أحد الجنود دون أن يظهر منهم أي رد فعل تجاه الأطفال. ما دلالة البنادق بيد الاطفال؟ وما معنى أن يلقى الجنود الانجليز بالحجارة دون ردة فعل؟ ولماذا هنا يسمون صراحة بـ«الانجليز»، في حين لا تذكر أي كلمة تشير صراحة إلى هوية قوات الحركة الصهيونية؟

ما نريد، لا ما يرفضه الإسرائيلي

قد يكون الفيلم بما فيه من مشاهد وحوار قادرًا على توصيل الرسالة إلى المشاهد الفلسطيني، وإلى حد ما العربي، لأنه يملك المعرفة والخلفية التاريخية الكافية التي تسمح له بالدخول إلى عمق الحدث والشخوص بمجرد التلميح. من منا لم تقفز الى رأسه فكرة أن الضابط قد يطعن الأم عندما سألها إن كانت حاملًا بولد أم بنت؟ ومن منا لم يستبق السيناريو ويتوقع أن العائلة كلها غالبًا ستقتل، وذلك بناءً على ما تربينا عليه من قصص النكبة؟ ولكن يقال في عالم الإعلام والرأي العام أن الرسالة لا تصل إلى المستقبل كما يريدها المرسل تمامًا، لأن فهمها يتأثر كثيرًا بما يملكه المستقبِل من معرفة وتجارب شخصية. لذا، للنجاح في إحداث تأثير في الرأي العام، عليك أن تفهم ثقافة من تخاطبهم ومعارفهم وتجاربهم، وتصمم رسالتك بناء على ذلك. وهذا يعني أن ما تم الإشارة إليه أعلاه يخلق مزيدًا من الإرباك والضبابية ويحد من عمق الرواية والرسالة وأثرهما على المُشاهد الأقل معرفة بتاريخنا، وخاصة في الغرب حيث يحملون الكثير من الصور النمطية عن الفلسطيني وقضيته. فصورة المسلح لا تعطي للغربي نفس الدلالات التي تعطيها للمشاهد الفلسطيني، وصورة الجندي وهو يسأل المرأة عن حملها لا تترك نفس الأثر ولا تؤدي نفس المعنى. 

لذلك، فشل الفيلم باعتقادي في الانتقال من حدود العالم الشخصي لفرحة إلى عالم مجتمعها، وبالتالي فشل في التعريف بالنكبة بعناصرها وأطرافها وأحداثها. ما حصل عام 1948 هو تطهير عرقي، وعلى العمل الذي يتناول تلك المرحلة أن يبني تلك الحقيقة ويرسخها في الوعي العام كجزء أصيل من الرواية الفلسطينية، والمناورة أو التردد في ذلك سيؤدي إلى ضرر كبير بجوهر الرواية.

من غير المفيد أبدًا أن نبني مواقفنا من عمل ما بناء على ردة فعل الإسرائيلي عليه، فالإسرائيلي يرفض مجرد التلميح إليه وخاصة على صعيد دولي، ويحارب الكلمة. ومن غير المبرر أن نلجأ إلى «تهذيب» روايتنا ومواربتها حتى تصبح أكثر قبولًا لدى الغرب. المطلوب اليوم أكثر من أي وقت مضى هو تكاثف الجهود والخوض في نقاش عميق وجدي حول كيفية تثبيت حضور الفن الفلسطيني والعربي دون أن يخسر ملامحه الدالة على جوهره.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية