مئة عام على إعدام ريا وسكينة: صناعة أيقونات الشر

الثلاثاء 21 كانون الأول 2021
من اليمين، الشقيقتان الشهيرتان ريا وسكينة كما ظهرتا على صفحات الصحف المصرية خلال محاكمتهما.

في فيلم الفانتازيا، «الحرب العالمية الثالثة» يقدم الثلاثي أحمد فهمي وشيكو وهشام ماجد، باروديا تاريخية تزعزع الثوابت التاريخية وشخصياتها الرئيسية في الذاكرة الوطنية والسجل التاريخي العالمي. ففي متحف مغلق للشمع، تعيش تماثيل الشخصيات الشهيرة في عالمها الخاص: محمد علي، صاحب مذبحة القلعة، يظهر هشًا رقيق القلب بعنجهية طفولية وقسوة مفتعلة؛ توت غنخ آمون رجل سمين وتافه في منتصف العمر، ولا تميزه أي من صفات الجلال المفترضة، صلاح الدين ورأفت الهجان وأبو الهول يظهرون على العكس من صورتهم الأيقونية أو في درجة شديدة المبالغة منها. وما ينسحب على الرموز المحلية يعمم على العالمي: يظهر آينشتاين كمدرس للفيزياء يتملق تلميذه الملك توت من أجل لقمة العيش؛ غاندي مجرد متسول، وبوب مارلي تاجر مخدرات. يصبح كل ما هو تاريخي ومقدس عرضه للتهكم وموضوع للتجرؤ بالمعنى الواسع للكلمة، وعلى الجانب الآخر تحاك مؤامرة من هتلر لإحياء تماثيل أشرار التاريخ، بغية قيادتهم وشن حرب عالمية ثالثة ضد الخير. ويساعده في تلك المهمة مديرة المتحف السابقة، هويدا، وهي خليط متناقض من صفات ربة منزل تقليدية وزعيمة عصابة شديدة القسوة وساحرة وموظفة بيروقراطية نمطية. 

بين أشرار التاريخ يبرز هولاكو وأبو لهب وريتشارد قلب الأسد ودراكولا، جميعهم من الرجال ومن غير المصريين، إلا أن الشخصيتين المصريتين الوحيدتين في قائمة الأشرار هما ريا وسكينة. لا يجد صناع الفيلم في التاريخ المصري سوى الشقيقتين الشهيرتين لتكونا تمثيلًا مكثفًا للشر؛ أيقونة مزدوجة يمكن مقارنتها بالإبادة الجماعية والمجازر الواسعة لكل من هتلر وهولاكو، وبالرعب الأسطوري لدراكولا. ينتصر الخير في النهاية، لكن اللافت هو أن الشر، شرنا نحن، بمعناه الوطني والمحلي، في الماضي والحاضر، يتكثف في مثلث من النساء: هويدا وريا وسكينة. 

بالطبع لا يختلق الفيلم هذا الدور للشقيقتين، بل يرثه من تراكم فني طويل، ويعيد تقديمه بلا مراجعة أو تهكم، يقبله كما هو على عكس تعامله مع بقية الشخصيات التاريخية. هذا المثال السينمائي يجسد نتيجة تحول ريا وسكينة إلى الأيقونة المثالية للشر في مصر، وهو تحول قادت إليه عملية تقاطعَ فيها التشويق الإعلامي المصطنع والرغبة في العثور على «جريمة مثالية»، مع مخاوف الطبقات الوسطى والبرجوازية المدينية المصرية والحاجة إلى خطاب وطني وحدوي، في سياق اقتصادي خانق في مصر الاستعمارية ثم الحاصلة على استقلالها حديثًا. هذه العملية التي تلقفت صناعة الثقافة نتائجها دون تدقيق، عادت لتوضع تحت المجهر في العقدين الأخيرين، مع المراجعة العميقة لقضية ريا وسكينة.

«الشريرتان» في الثقافة الجماهيرية

يمكن تتبع عملية أيقنة الشقيقتين كمثال للشر المطلق في الذاكرة الفنية الجماعية ابتداء من اثنين من عمالقة الثقافة والفنون المصرية، نجيب محفوظ ومعه رائد الواقعية السينمائية صلاح أبو سيف، في فيلم «ريا وسكينة» (1953). يكتب أديب نوبل قصة الفيلم والسيناريو بالمشاركة مع أبو سيف. كان محفوظ في عمر العاشرة حين تم إعدام الشقيقتين، وكان على الأغلب شاهدًا على الحدث الجلل، تنفيذ حكم الشنق في امرأتيْن لأول مرة في التاريخ المصري الحديث، ويمكن التخمين إنه تابع التغطية الصحفية المكثفة والجدل السياسي الواسع حول المحاكمة، من خلال حديث البالغين. يلتزم نص محفوظ برواية السلطات المصرية عن القضية، بالنظر إليها عبر عدسة التغطية الصحفية حينها، والتي أضافت الكثير من التفاصيل غير المثبتة بغرض التشويق وتكثيف صورة الشر في شخصيات الجناة. وبسبب هذا الالتزام، تبدو شخصيتا ريا وسكينة أحادية البعد، شر وشر فقط، على عكس شخصيات محفوظ الأكثر تعقيدًا ومتعددة الأبعاد والأعماق في العادة. بصريًا، صمم أبو سيف واحد من أشهر مشاهد السينما على الإطلاق، الزار مع الرقص وعملية خنق الضحية، وفي الخلفية الشريط الصوتي لأغنية «حسرة عليها يا حسرة عليها»، التي ستصبح بدورها الموسيقى التصويرية الأكثر رسوخًا في الذاكرة المصرية. الأمر اللافت أيضًا هو تاريخ عرض الفيلم، بعد شهور قليلة من ثورة يوليو، بالطبع لا يتجاوز هذا التزامن سوى صدفة عرضية، إلا أنها تظل صدفة معبرة، فقصة الشقيقتين سترتبط ولسوء حظهما الشديد بالثورات والتغيرات السياسية والاجتماعية الجذرية.

عام 1955، وبعد عامين من عرض الفيلم، وفي استثمار لنجاحه الاستثنائي، سيخرج حمادة عبد الوهاب فيلم «إسماعيل يس يقابل ريا وسكينة»، في أول باروديا سينمائية مصرية متكاملة، حيث يتأسس فيلم بأكمله على محاكاة تهكمية لفيلم آخر، ستصل حد استثنائيًا بإعادة إنتاج مشهد الخنق الشهير بحذافيره وبنفس الممثلين. تلك المحاكاة في جانبها التهكمي تسخر ضمنًا من مبالغة المشهد الأصلي والفيلم السابق بأكمله، لكن مع هذا تظل الشقيقتين نموذجًا للشر الخالص، دون تغيير. عام 1968، وبالصدفة بعد عام واحد من النكسة، ستحاكي شادية مشهد الخنق الشهير، في الفيلم الكوميدي «عفريت مراتي» من إخراج فطين عبد الوهاب، وبعد عقدين وفي العام 1983، ستلعب شيريهان دور البطولة مع يونس شلبي في فيلم كوميدي آخر باسم «ريا وسكينة»، تحتفظ فيه الشقيقتين بدور الشر المطلق، ولكن مع قليل من الأنسنة تضفيه الكوميديا على شخصياتهما بشكل عرضي. 

بين الكثير من الأعمال، التي تناولت الشقيقتين وجرائمهما، تظل مسرحية «ريا وسكينة» (1980) من تأليف بهجت قمر وإخراج حسين كامل، هي المحاولة الأكثر جدية لتعقيد شخصية الشقيقتين، بتصوير جرائمهما كنتاج للظروف والمعاناة الأسرية؛ أفعال شريرة يمكن فهمها في سياقها بل والتعاطف معها ومع مرتكبيها. تحول المسرحية ريا وسكينة إلى شخصيتين محببتين، وإن بقيتا العقل المدبر للجرائم، ولا تكتفيان فقط بتنفيذها، بل تورطان زوجيهما، الرجلين الساذجين وضعيفي الإرادة. بقصد أو بدون قصد، تظل النساء أصل الشر، والسبب في سقوط الرجال في حبائله.

ريا (يسار) وسكينة في صورة وملونة ومعدلة. عن اليوم السابع.

مراجعات أكاديمية: ما الذي حدث فعلًا؟

احتاج الأمر ثمانية عقود، حتى تتم مراجعة الرواية السائدة عن ريا وسكينة. ففي نهاية التسعينيات، عمل الصحفي والمؤرخ المصري، صلاح عيسى، على كتابه «رجال ريا وسكينة: سيرة سياسية واجتماعية» (2002) في محاولة لإعادة موضعه القضية في سياقها السياسي والاجتماعي، بعد نهاية الحرب العالمية الأولى واندلاع ثورة 1919. عنوان الكتاب نفسه يوحي بنقلة جذرية في الرواية التاريخية، فالجرائم لم تعد تتعلق بالشقيقتين بل برجالهما. حظى كتاب عيسى بكثير من الاحتفاء والمراجعة والعروض، وإن ظل تأثيره محصورًا في نطاق محدود نسبيًا، مقارنة بهيمنة صورة الشقيقتين التي فرضتها الثقافة الجماهيرية المستلهمة من أعمال سينمائية ومسرحية وتلفزيونية.  

شهدت الألفية الجديدة اهتمام متزايدًا بالقضية في الإصدارات الأكاديمية. ففي كتاب «إعادة تصور مصر» الصادر بالإنجليزية عام 2005، ساهم شون لوبيز بفصل عنوانه «أخبار الحوادث: قوادات وجرائم قتل ووسائل إعلام»، يذهب فيه إلى أن قضية ريا وسكينة وتغطيتها الصحفية المكثفة منذ اكتشاف الجثة الأولى مرورًا بالمحاكمة وحتى تنفيذ الإعدام، هي نقطة الانطلاق لتشكيل ثقافة جماهيرية مصرية عابرة للطبقات، تتشارك المخاوف نفسها، والإثارة المشتركة والرغبة الجامعة لتنفيذ العدالة، عبر أدوات الحداثة ومؤسساتها. فالبلاد التي كانت تتأهب لنيل استقلالها، وجدت في القضية نقطة مشتركة للشعور بوحدتها الوطنية.

 يبدو أن قضية ريا وسكينة احتلت هذه المكانة الهائلة في المخيلة العامة حينها، وفي الذاكرة الثقافية لاحقًا، لأسباب تتعلق بالصدفة، باللحظة التاريخية لوقوعها وثقلها السياسي وبمكان وقوعها، وليس بالضرورة لفداحة الجرائم أو استثنائيتها.

وفي ورقة بحثية بعنوان «بناء قضية وطنية في مصر بين الحربين: جرائم ريا وسكينة على صفحات الأهرام» صادرة بالإنجليزية العام الماضي، تؤكد الكاتبة إيلينا تشيتي أيضًا البعد الوطني للقضية في المرحلة الانتقالية بين الحكم الكولونيالي ودولة الاستقلال، وتعقد مقارنة بين تغطية الأهرام لها وبين تغطية قضية أخرى تشبهها في مدينة طنطا، ظهرت قبل قضية ريا وسكينة بشهور قليلة. تضمنت حادثة طنطا سلسلة من جرائم قتل النساء أيضًا، وتورط فيها جناة من الرجال والنساء بنفس الصورة. رغم ذلك، لم تحظى بنفس التغطية الصحفية ولا نفس الاهتمام الجماهيري، وربما يكون ذلك السبب في أن المحكمة في النهاية لم تقم بإدانة أي من النساء المتورطات في الجريمة، على خلاف قضية الإسكندرية. وترجع تشيتي تلك الفوارق إلى مكان وقوع الجريمة، فالإسكندرية كمدينة تقع في مستوى أعلى في التراتبية الحضرية من مدينة طنطا، كما أن وجود الأجانب في الأولى منح القضية بعدًا أكثر حساسية، وبالأخص فيما يتعلق بالأخلاق العامة، التي تم تصويرها في الخطاب الوطني الصاعد على أنها معرضة للتهديد بسبب الحضور الأوروبي والسلطة الاستعمارية. تحيلنا الورقة كذلك إلى أسباب أكثر اعتباطية، لكنها ذات تأثير معتبر، فجريدة الأهرام كان لديها مراسل محترف ومتفرغ في الإسكندرية تابع القضية بشكل مكثف وشبه يومي، فيما اكتفت الجريدة بتقارير غير موقعة من وكيلها في طنطا الذى نقل البيانات المقتضبة لأجهزة الأمن. ببساطة، يبدو أن قضية ريا وسكينة احتلت هذه المكانة الهائلة في المخيلة العامة حينها، وفي الذاكرة الثقافية لاحقًا، لأسباب تتعلق بالصدفة، باللحظة التاريخية لوقوعها وثقلها السياسي وبمكان وقوعها، وليس بالضرورة لفداحة الجرائم أو استثنائيتها.

في كتاب «ضحايا مستحيلات ومذنبات مستحيلات: المرأة أمام القانون» الصادر بالفرنسية في العام 2019، تساهم أمل هاشيت بفصل بعنوان» التناول العابر للثقافات للجريمة المتسلسلة: قضية الشقيقتين ريا وسكينة»، وتربط هي أيضًا جرائم الإسكندرية بجرائم طنطا، وتذهب خطوة أبعد بربط الأخيرة بسلسلة مشابهة من جرائم قتل النساء في فرنسا، ارتكبها السفاح الشهير هنري لاندرو بين عامي 1914 و1918. حيث اعترف المتهم الرئيسي في قضية طنطا، محمود علام، بتقليده لطرق لاندرو للتخلص من جثث ضحاياه حيث كان يقوم بحرقها في فرن في منزله ومن ثم يلقي بالرؤوس المقطوعة في النهر. الجدير بالذكر أن حكم الإعدام نفذ في لاندرو في فرنسا في فبراير 1922، أي بعد شهرين فقط من تنفيذه في ريا وسكينة. إذًا هل كان هناك ثمة ما يربط بين جرائم طنطا والإسكندرية؟ ولماذا لم يصبح محمود علام أيقونة الشر المصرية بدلًا من ريا وسكينة؟ 

في رسالتها للدكتوراه المنشورة بالإنجليزية 2016، بعنوان «جريمة قتل في الإسكندرية: السياسات الجندرية والجنسية والطبقية للإجرام في مصر»، تقوم نفرتيتي تكلا، بفحص ملف القضية تاريخيًا. بدايةً، تضع رسالتها انتقال ريا وسكينة من الصعيد إلى الإسكندرية في سياق النزوح الواسع للمصريين من الجنوب في ظل أزمات القطن وقوانين الجباية القاسية التي فرضها الاحتلال البريطاني مع بداية الحرب العالمية الأولى. في الوقت ذاته، خلق وجود القوات البريطانية والقوات الحليفة في الإسكندرية طلبًا هائلًا على الدعارة، ومع تدفق ألوف اللاجئين السوريين واليونانيين والأرمن واليهود مع اندلاع الحرب، في ظل الظروف الاقتصادية السيئة ومعدلات التضخم العالية، اضطرت الكثير من النساء من جنسيات مختلفة للعمل في الجنس إلى جانب أعمال الدلالة والخدمة. كانت ريا وسكينة وزوجاهما جزءًا من هذا الفائض البشري التي خلقته الحرب وصعود الدولة الأمة بعدها مباشرة، ودفعتهم للانخراط في أنشطة هامشية وغير قانونية. عمل أحمد راغب الزوج الثاني لريا مع الجيش البريطاني، ورحل عن الإسكندرية مع القوات المقاتلة. ألوفٌ من المصريين أُرغموا على العمل في المعسكرات وجبهات القتال. كانت سكينة تتسلل إلى المعسكرات البريطانية لسرقة لحوم الخيول الميتة، وبيعها في السوق بأسعار زهيدة. وبالتوازي، أدارت ريا وسكينة عددًا من بيوت الدعارة غير المرخصة في حي اللبان الشعبي، وكان عليهما التنقل من واحد إلى آخر، بسبب شكاوى الجيران. وأقامت صديقتهما أمينة منصور، وهي واحدة من المتهمات في القضية، غرزة للحشيش في الدور الأرضي لبيت الدعارة، فيما عمل زوجها في بيع الخمور غير المرخصة.

تنفي تكلا أن تكون جرائم القتل مدفوعة بغرض السرقة، فالرواية المعتمدة التي تم ترويجها عن خداع ريا وسكينة للضحايا واستدراجهن للمنزل لقتلهن والاستيلاء على الذهب، لا تجد ما يؤكدها في الأدلة المتوفرة في ملف القضية، فبعض الضحايا السبع عشرة حين اختفين لم تكنّ ترتدين أي ذهب على الإطلاق، مثل نبوية بنت علي، ومعظمهن كان لديهن القليل منه. كانت زنوبة بنت محمد موسى ترتدي حلقًا فقط، بل تشير التحقيقات إلى أن ريا كانت قد أهدت واحدة من الضحايا بعض المصوغات قبل قتلها. ولم تتمكن جهات التحقيق من الوصول إلى أي من المصوغات لدى المتهمين، باستثناء أمينة بنت منصور.

كل الضحايا باستثناء واحدة، عملن في الدعارة في واحدة من بيوت الشقيقتين في وقت من الأوقات. أما السبب وراء قتل الضحية الأولى، خضرة محمد اللامي، فكان عقابًا لها على إخفاء بعض من المبالغ المالية التي حصلت عليها من زبائن بيت الدعارة الذي تديره الشقيقتين، دون دفع النسبة المستحقة لهما. كان الشجارات بين الضحايا والفتوات التي سبقت اختفاءهن تؤكد نظرية تكلا؛ فنهاية الحرب فرضت تغييرات جذرية على اقتصاد المدينة، فانسحاب القوات المتحاربة كان يعني هبوطًا مفاجئًا في الطلب على الدعارة. في الوقت ذاته، أثرّت عودة التجارة الدولية على البرجوازية الصغيرة التي انتعشت على اقتصاد الحرب، على سبيل المثال أثرت عودة استيراد الزبد الرخيص من الخارج على الإنتاج المحلي، مما انتهى إلى اضطرابات وعنف شديد في شوارع الإسكندرية بعد الحرب مباشرة، وبشكل متقطع لاحقًا. في ظل تلك الظروف، كان على شبكات الدعارة غير الرسمية المنافسة على موارد أقل وفي سوق أضيق، وأن تلجأ للعنف لضبط العاملات فيها والتخلص من العاملات المستقلات، خاصة وأن معظم الضحايا كنّ يمارسن الدعارة كنشاط جانبي بالإضافة إلى أعمال أخرى، كبيع التجزئة وأعمال النظافة. هكذا، تذهب تكلا إلى أن جرائم الإسكندرية وسابقتها في طنطا مرتبطة ببعضها، ففي طنطا استهدف محمود علام وشركاؤه عدد من الداعرات اللاتي عملن لديهم، وللأسباب نفسها. وتلمح تكلا إلى أنه من الممكن أن تكون هناك علاقة غير مباشرة بين القضيتين، فهناك ما يثبت تورط أمينة بنت منصور في بيع عدد من عاملات الجنس المراهقات من الإسكندرية إلى بيوت دعارة في دمنهور وطنطا، وهو ما يشير إلى تواصل بين تلك الشبكات في المدن المختلفة. 

أصبحت الشقيقتان مثالًا نموذجيًا للشر: امرأتان منحلتان، مدمنتان على الشراب، شرهتان للجنس ومتعددتا العلاقات، جاهلتان نازحتان من الصعيد، ستصبحان رمزًا للهمجية.

وُجهت الاتهامات إلى ستة من المتهمين؛ الشقيقتان وزوجاهما محمد عبد العال وحسب الله سعيد، بالإضافة إلى الفتوتين عرابي حسان وعبد الرازق يوسف، ووُجهت تهمة التستر إلى أربعة آخرين. وبالرغم من أنه لم يثبت في التحقيقات تورط ريا وسكينة في عمليات القتل بشكل مباشر، ولا حتى حضور وقائع القتل، فإن القضية حملت اسميهما منذ اليوم الأول. وبحسب قراءة تكلا لملف القضية، لم تثبُت أيضًا مشاركة الشقيقتين في التخطيط للجرائم، ويصعب حتى إثبات فرضية التخطيط في معظمها، فعمليات القتل حدثت في بعض الأحيان بعد مشاجرات عرضية  بين الضحايا وواحد من الفتوتين، وفي جرائم أخرى، عرفت الشقيقتين بعملية القتل بعد عودتهما إلى المنزل، دون دراية مسبقة. تشير تكلا أيضًا إلى أدلة على قيام أحد الجناة الذكور بتخدير واحدة من الضحايا واغتصابها قبل قتلها.  

اعتمدت جهات التحقيق والاتهام بشكل كامل على اعترافات الشقيقتين، ورغم إصرارهما على أن دافعهما الوحيد للتستر على الجرائم هو الخوف من تهديدات القتل من قبل رجالهما الأربعة، فإن المحكمة أصرت على تجاهل تلك الفرضية، حتى مع تأكيد شهادات الشهود الآخرين على تعرض الشقيقتين للضرب والترويع على يد زوجيهما والفتوتين بشكل متكرر. تقلب تكلا القضية رأسًا على عقب، لتخبرنا بأن ريا وسكينة كانتا ضحيتين، أو على الأقل لم تستحقا حكم الإعدام.

الجريمة المناسبة 

كانت تفاصيل القضية صدمة للبرجوازية الصاعدة؛ الطبقة التي كانت في إطار إعداد نفسها لقيادة البلد المستقل حديثًا. وما صدمها لم يكن حجم العنف، بل الممارسات الجنسية والتهتك الأخلاقي للمتورطين، وبالأخص بين النساء. عدد من الضحايا كن ينتمين إلى الطبقة الوسطى الدنيا، نساء من ذوات الأملاك الصغيرة اللاتي كن في حاجة لزيادة دخلهن في ظل الظروف الاقتصادية المتعثرة، فعملن في الدعارة كنشاط جانبي. بحسب تكلا، كانت تلك النفاذية بين الطبقات هو ما أرعب البرجوازية. توافقت لحظة اكتشاف الجريمة مع تحول في الخطاب الوطني حول دور المرأة في المجتمع. وكان من المناسب تصوير الجريمة، كسلسلة من عمليات السرقة تتعرض لها نساء الطبقات الميسورة حين يعبرن الحدود الطبقية إلى أسفل، ويدخلن إلى فضاءات خاصة بعيدة عن عين الرقابة والضبط. هكذا وظفت الجريمة لتصليب الحدود بين الطبقات وبين الجنسين. 

أصبحت الشقيقتان مثالًا نموذجيًا للشر: امرأتان منحلتان، مدمنتان على الشراب، شرهتان للجنس ومتعددتا العلاقات، جاهلتان نازحتان من الصعيد، ستصبحان رمزًا للهمجية، وستخصص الصحافة مساحة ليست بالقليلة لوصف وشومهما وملامحهما القاسية وبشرتهما السمراء، وسيلقى باللوم على طقوس الزار على أنها وراء إغواء النساء إلى حتفهن، ومنع الجيران من سماع صراخ الضحايا. وضعت تلك الطقوس «الغيبية» والقاتلة في مقابل الممارسة الروحية القياسية لمؤسسات الدولة الدينية. وبالإضافة إلى كل هذا، اعتبرت ريا وسكينة دلالة على الفساد الأخلاقي الذي جلبه الاستعمار، والذي جاء موعد التخلص منه وبتره من جسد الأمة مع الاستقلال. تخبرنا تكلا بأن الشقيقتين كانتا ضحيتين للحداثة ولرغبة البرجوازية الوطنية الصاعدة في إثبات نفسها وتفعيل أدواتها المؤسسية. قدمت ريا وسكينة كقربان لفهم جديد للطبقة والجنس وقواعد السلوك والأخلاق العامة.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية