فيلم «الجزائر مكّة الثوار»: سيرة بصرية لفترة استثنائية

الأحد 02 تشرين الأول 2022
كاسترو بومدين
محادثات فيدل كاسترو مع الرئيس الجزائري هواري بومدين، خلال زيارة رسمية إلى الجزائر، في أيار 1972. أ ف ب.

في أحد المؤتمرات التي كان يترأسها في الجزائر العاصمة، سُئل أميلكار كابرال،[1] أحد أبرز القادة الأفارقة الذين حاربوا الاستعمار في الستينيات والسبعينيات من القرن المنصرم، ما الذي كان يعنيه بعبارته الشهيرة «الجزائر مكة الثوار»، فأجاب: «المسلمون يحجون إلى مكة والمسيحيون إلى الفاتيكان، أما الحركات التحررية فوجهتها الجزائر».

يأتي فيلم المخرج الجزائري الفرنسي بن سلامة «الجزائر مكة الثوار: 1962-1974»، والمنتج عام 2016 ضمن هذا الإطار ليستعرض الدور الذي لعبته الجزائر إثر استقلالها عام 1962، حاضنةً مهمة ومحفزًا لحركات التحرر ليس في إفريقيا والوطن العربي فحسب، بل في أنحاء مختلفة من العالم.

بُني الفيلم على مادة أرشيفية غنية شملت صورًا وفيديوهات وشرائط إخبارية ومقابلات نادرة جمعها المخرج على مدار عامٍ كامل، من 15 مصدرًا مختلفًا في الولايات المتحدة وبريطانيا وصربيا وكوبا وألمانيا والبرتغال. في مقابلة أجريتها مع مخرج الفيلم، أخبرني بن سلامة أنه كان مهتمًا بإعداد الفيلم منذ عام 2009، بمناسبة مرور أربعين عامًا على ذكرى تنظيم أول مهرجان ثقافي لعموم إفريقيا في الجزائر عام 1969، إلا أنه لم يتلقَ حينها التمويل الذي كان يحتاجه. وفي عام 2013 حصل على تمويل من محطة التلفاز الفرنسية Arte لإعداد الفيلم، وهو الأمر غير المستبعد حيث حاز العالم العربي في حينها على اهتمامٍ متزايد من قنوات الإعلام الغربية والعالمية في ضوء أحداث الربيع العربي. للمفارقة، نُشر في نفس عام صدور الفيلم كتاب بعنوان «مكة الثوار: الجزائر وانتهاء الاستعمار ونظام العالم الثالث» (2016) للكاتب الإيرلندي جيفري جيمس بيرن، الذي يتحدث عن الفترة نفسها ولكن من وجهة نظر أكاديمية.

يقول بن سلامة إنه لا علاقة للفيلم بالكتاب، ولا بأحداث الربيع العربي. مضيفًا: «كنت مهتمًا بإعداد الفيلم لأنني عشت في سن المراهقة هذه الفترة من الانفعال الثوري والتضامن الدولي في الجزائر. لدي ذكريات قوية جدًا عن المهرجان الإفريقي والمناقشات والاجتماعات في سينماتيك الجزائر التي كانت تعرض حينها أفلامًا من بلدان العالم الثالث». إلّا أن هذا الاهتمام الشخصي يختبئ في الفيلم وراء صوت الراوي المحايد، والذي يروي بما يشبه نبرة الريبورتاج أحداث الفترة الواقعة ما بين 1962 و1974.

تبدأ قصة الفيلم باستقلال الجزائر عام 1962، فنسمع صوت الحشود الغفيرة قبل أن نراها ترقص وتلوّح بعلم الجزائر في الهواء، بينما تُقرَع الطبول احتفالًا بالتحرير، وانتهاء ثماني سنوات من الحرب القاسية و132 عامًا من الاستعمار. ومع استقلال الجزائر، يحدد الفيلم لحظة زيارة الرئيس الجزائري أحمد بن بلة[2] (1916-2012) إلى كوبا عام 1962 لحظةً مركزية في تنصيب الجزائر كقاعدة مهمة لحركات التحرر حول العالم.

لوحة ترحيب  برئيس الجزائر الأول بعد الاستقلال، أحمد بن بلة، في كوبا، في 23 تشرين الأول، 1962. المصدر: صور جيتي.

تعاون كوبي جزائري: إفريقيا «الحلقة الأضعف للإمبريالية»

في عام 1962، توجه أحمد بن بلة إلى نيويورك للمشاركة في حفل انضمام الجزائر كعضو رسمي في منظمة الأمم المتحدة. تلقى بن بلة حينها دعوة رسمية من الرئيس الأمريكي جون كينيدي لزيارة البيت الأبيض، حيث استقبله الأخير وزوجته استقبال الأبطال. كان الرئيس الأمريكي حينها يأمل أن يكسب بن بلة في صف الولايات المتحدة، ويعدله عن زيارة كوبا، مدركًا خطورة حصول تحالف بين الدولتين مع وجود الأسلحة النووية الروسية على الأراضي الكوبية، إلا أنه لم ينجح في ذلك. فذهب بن بلة إلى هافانا على متن طائرة كوبية نقلته سرًّا من نيويورك. هناك، استُقبل بن بلة بحرارة من الشعب الكوبي، كبطل تحدى الدولة الأمريكية لزيارة كوبا. في تلك الزيارة، تباحث بن بلّة مع فيديل كاسترو وتشي جيفارا حول ممكنات التعاون فيما بينهم في دعم حركات التحرر ضد الاستعمار حول العالم. تبع ذلك عدة زيارات لتشي جيفارا إلى الجزائر، كانت أولاها في تموز من عام 1963، بمناسبة الذكرى الأولى لاستقلال الجزائر، حيث شكلت الزيارة اعترافًا رسميًا آنذاك بالحكومة الجزائرية من قبل الثوار.

عرف بن بلة بناءً على تجربة الجزائر الثورية، سواءً على مستوى الاستراتيجيات العسكرية، أو على مستوى العلاقات الدبلوماسية، أن بإمكان الجزائر لعب دور مهم كحاضنة لحركات التحرر في العالم، وبشكل أخص في إفريقيا. فقد شهدت تلك الفترة ثورات مسلحة في أكثر من عشر دول إفريقية ضد الأنظمة الاستعمارية الأوروبية، ممّا جعل من إفريقيا بنظر كل من تشي جيفارا وبن بلة «الحلقة الأضعف للإمبريالية». وبالفعل، بدأ قادة الثوار الأفارقة يتوافدون على الجزائر للاطلاع عن كثب على مشروع التحرر الجزائري. وكان نيلسون مانديلا[3] من أوائل أولئك الزوار.

«لقد حاربنا لمدة سبع سنوات ونصف ضد أعند أنواع الإمبريالية التي وجدت على الإطلاق. ليس لدينا الحق أن نفكر بطعام أفضل بينما يموت أشخاص في أنغولا والموزمبيق وجنوب إفريقيا».

كان حزب «المؤتمر الوطني الإفريقي»[4] أول حركة تحرر يُرحب بها في الجزائر، ويُخصص لها مكتب في مركز المدينة. يُظهر الفيلم جوني ماكاتيني، أحد أعضاء الحزب وهو يتحدث عن دعم الجزائر للحزب، سواء في توفير الاحتياجات الأساسية من مسكن ودعم مادي، أو حتى تذاكر طيران للأعضاء للمشاركة في مؤتمرات عالمية لحشد الدعم العالمي لقضيتهم. فقد كانت الجزائر تؤمن بأهمية الجانب الدبلوماسي وحشد التأييد العالمي في المشروع التحرري بقدر اهتمامها بالجانب العسكري. وقد شمل الدعم تدريبات عسكرية ودروسًا في الاستراتيجيات الثورية، والتي شارك فيها نيلسون مانديلا في آذار من عام 1962، في مدينة وجدة في المغرب، بالقرب من الحدود الجزائرية. وبعد عودته إلى جنوب إفريقيا اعتقل ووجهت له عدة تهم من ضمنها تلقي تدريب على يد الجزائريين وحُبس على إثرها. لاحقًا في عام 1990، وبعد ما لا يزيد عن ثلاثة أشهر من تحرره، زار نيلسون مانديلا الجزائر ليشكر الجزائريين على مساعدتهم له، وقال، كما يظهر في الفيلم، في خطابه للجزائريين: «الجزائر هي دولتي».

لم يقتصر دعم الجزائر المادي والمعنوي والتدريبات العسكرية على «المؤتمر الوطني الإفريقي»، بل شمل عدة حركات تحرر إفريقية أخرى، مثل أعضاء من جبهة تحرير الموزمبيق (FRELIMO)، وحزب الحركة الشعبية لتحرير أنغولا (MPLA) و حزب جبهة التحرير الوطني لأنغولا (FNLA). كما وأعلن بن بلة أن لديه 10 آلاف متطوع جزائري مستعدين لتقديم يد العون في الميدان وفي ساحة القتال. تم تأسيس لجنة التنسيق لتحرير إفريقيا على إثر ذلك، بقيادة العقيد الجزائري مختار كركب. في حينها، كان يُنظر إلى بن بلة على أنه كاسترو إفريقيا، كما تم تمثيله في الفيلم على هذا الشكل. فنرى بن بلة في إحدى خطاباته في الفيلم وهو يصرح: «لقد حاربنا لمدة سبع سنوات ونصف ضد أعند أنواع الإمبريالية التي وجدت على الإطلاق. ليس لدينا الحق أن نفكر بطعام أفضل بينما يموت أشخاص في أنغولا والموزمبيق وجنوب إفريقيا».

يتحدث الفيلم عن التقارب في الفكر الأيديولوجي بين كل من بن بلة والزعيم المصري جمال عبد الناصر، وتعود العلاقة بينهما إلى ما قبل استقلال الجزائر، حيث استقبل عبد الناصر بن بلة في القاهرة في الخمسينيات، خلال الحرب الجزائرية. وبعد الاستقلال أرسل عبد الناصر مستشارين سياسيين وآلاف المعلمين إلى الجزائر ضمن حملة تعريب الجزائر. وخلال حرب الرمال عام 1963 بين الجزائر والمغرب حول ترسيم الحدود بين الدولتين، لم يكن الجيش الجزائري بقوة الجيش المغربي عسكريًا، فناشد بن بلة أصدقاءه للمساعدة، ليرسل عبد الناصر الطائرات، ويهب الكوبيون لدعم حلفائهم في الجزائر، فانتهت الحرب بتسوية بين الجهتين.

موكب أحمد بن بلة والرئيس المصري جمال عبد الناصر، عند زيارة الأخير الجزائر في عام 1963. المصدر: صور جيتي.

كان بن بلة في أوج شعبيته عام 1965 عندما قاد العقيد هواري بومدين انقلابًا عسكريًا على الحكم إثر خلافات داخلية مع بن بلة، قبل أقل من أسبوع من الموعد المحدد لعقد المؤتمر الثاني لحركة عدم الانحياز والمزمع عقده آنذاك في الجزائر. لم تتأثر السياسة الخارجية للجزائر بعد الانقلاب العسكري، حيث حافظت الجزائر على دعمها لجميع حركات التحرر، حتى الصغيرة منها مثل «حركة استقلال جزر الكناري». وباتت عاصمة مركزية لحركات التحرر الباحثة عن الدعم والمؤازرة.

دعم يتجاوز حدود القارة الإفريقية

لا يُغفل الفيلم ذكر الدعم الجزائري للقضية الفلسطينية، ورغم بُعدها الجغرافي عن المعركة، كان وقع هزيمة الدول العربية عام 1967 أمام «إسرائيل» مدميًا للجزائريين. قبل ذلك العام، كان دعم الجزائر يميل نحو الدعم الدبلوماسي أكثر من الدعم العسكري، حيث تم تدريب 200 فدائي فلسطيني فقط في الجزائر. وشعر الشعب الجزائري بالإهانة إثر الهزيمة، ونزل إلى الشارع احتجاجًا على ما حصل، واتهم الإمبريالية الأمريكية بالتواطؤ مع «إسرائيل» وتزويدها بالأسلحة، فأنهت الجزائر علاقاتها الدبلوماسية مع الولايات المتحدة، كما أعلن متطوعون جزائريون استعدادهم للقتال إلى جانب إخوتهم العرب، فأرسل هواري بومدين جيشه إلى مصر للقتال، ولكن لم تكن لدى مصر الاستعدادية لخوض الحرب مباشرة، فعاد الجيش الجزائري بعد بضعة أشهر دون أن يقاتل.

في عام 1974 ساهم عبد العزيز بوتفليقة، الذي ترأس الجلسة 29 من الجمعية العامة للأمم المتحدة، بجعل منظمة الأمم المتحدة منبرًا لحركات التحرر، فقام بحشد أغلبية الدول في دعم القضية الفلسطينية، واستقبل الرئيس ياسر عرفات في مبنى الأمم المتحدة.

تلقي الجمهور الجزائري للفيلم

وحول رأي الجمهور الجزائر بالفيلم، يقول بن سلامة: «اتخذ الجمهور الجزائري من الفيلم مثالًا على الماضي المجيد للجزائر. كان هناك نوع من الحنين لدى كبار السن إثر مشاهدتهم الفيلم. أمّا الجيل الشاب، فقد استحوذ عليه الشعورٌ بالاعتزاز بذلك الماضي الذي لم يخبره عنه آباؤهم. يتم عرض الفيلم بشكل موسع في المدارس الجزائرية بمبادرة من المعلمين».

تنتهي قصص الأفلام بالعادة مع تحقيق الاستقلال. نادرًا ما يُسأل ماذا بعد؟ بالنسبة للجزائر التي طالما عُرفت بدورها البطولي في الحرب في وجه الاستعمار الفرنسي، يأتي هذا الفيلم ليظهر أن تكملة رحلة البطولة هذه لا تقل أهميةً عن الاستقلال. فلا يمكن للحرية أن تقتصر على شعب واحد أو فئة واحدة من البشر.

ومع أن الفيلم مباشر في طرحه للتاريخ، إلا أنه يقدم مادة غنية تحتاج للمشاهدة أكثر من مرة، فهو زخم بالمعلومات التي غالبًا ما تكون صادمة عند مقارنتها مع سياق زمننا الحالي. فبالإضافة إلى دور الجزائر السياسي، يتطرق الفيلم إلى دورها الثقافي حاضنة للشعوب، سواء من خلال مجلة «الثورة الإفريقية» التي قدّمت نقدًا للكولونيالية والإمبريالية وجميع حلفائها في إفريقيا، أو من خلال المهرجان الإفريقي الذي حول شوارع الجزائر إلى ساحات رقص وغناء واحتفال في الثقافات الإفريقية المتنوعة. يأتي هذا الفيلم ليظهر مثالًا حيًا على قدرة الشعوب على تناسي الاختلافات الموجودة فيما بينها نحو هدف سامٍ تقاتل من أجله وهو الوحدة التي تتجاوز الشعارات.

  • الهوامش

    [1] زعيم الحزب الإفريقي لتحرير غينيا وجزر الرأس الأخضر.

    [2] أول رئيس للجزائر إثر الاستقلال وأحد مؤسسي جبهة التحرير الوطني.

    [3] بعد تبني مانديلا ورفاقه للكفاح المسلح بعيد العام 1960، إثر مذبحة «شارب فيل» والتي قتلت فيها الشرطة البيضاء في جنوب إفريقيا حوالي 70 شخصًا، زار مانديلا خفية مجموعة من الدول الإفريقية بحثًا عن الدعم والمساندة من ضمنها الجزائر.

    [4] تأسس الحزب عام 1912 في جنوب إفريقيا للدفاع عن حقوق السود أمام هيمنة الأقلية البيضاء.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية