المدرسة والعنف الاستعماري في فيلم «الزمن الباقي»

الأربعاء 10 شباط 2021
لقطة من فيلم «الزمن الباقي» لإيليا سليمان، 2009، استخدمت في الملصق الترويجي للفيلم.

في كتابه «المراقبة والمعاقبة: ولادة السجن»، يحلل الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو علاقة السلطة بالمدرسة، مُعتبرًا الأخيرة مرفقًا كليّ الحضور داخل المجتمع، وواحدة من المؤسسات ذات الهيكلية البانوبتيكونية،[1] التي تؤدّي وظيفة المراقبة لضمان ترويض الأفراد وفقًا للمعايير التي تضعها السلطة السياسية. وهو بذلك يشبّه المدرسة بالسجن،[2] ولكنه سجن غير مرئيّ القضبان.

يروي إيليا سليمان في فيلم «الزمن الباقي: سيرة الحاضر الغائب» سيرة عائلته النصراويّة على مدار أكثر من 60 عامًا من الاحتلال، أي منذ نكبة عام 1948. تحضر شخصية إيليا، الطفل بالزي المدرسي، في كل لقطات الفيلم النهارية، وتظهر في ثلاثة فضاءات، وهي: البيت، حيث نرى الطفل في معظم اللقطات حول مائدة الطعام مع والديه، والمدرسة، حيث نراه في غرفة الصف أو الباحة، وأخيرًا، الطريق بينهما.

من بين مشاهد الفيلم العديدة، اختيرت لقطة يظهر فيها الأستاذ وهو يؤنّب إيليا في ساحة المدرسة لتكون صورة ملصق الفيلم الدعائي، في الدورة 62 لمهرجان كان السينمائي. وفي هذه اللقطة، يوظّف إيليا تأطيرين لإبراز تمظهرات المراقبة التي يتحدث عنها فوكو: تأطير جسد الأستاذ داخل الباب الذي يفصل بينه وبين إيليا، كاشفًا خلفه عن زينة بلون علم إسرائيل، والتأطير «الكلاستروفوبي»[3] لرأس الأستاذ داخل مربع أصفر فاتح، دلالة عمله ضمن نظم وسياسات مفروضة عليه قسرًا. في هذه اللقطة أيضًا، تحيل إيماءات الجسدين إلى الخنوع، مفصحةً عن تمثّلين بصريّين لهيمنة البنى السلطوية: سلطة الأستاذ على إيليا، وسلطة الاستعمار الصهيوني على الأستاذ أثناء الحكم العسكري الإسرائيلي للأراضي المحتلة عام 1948، الذي استمرّ، حتى بعد إلغائه كجهاز بالكامل عام 1968، على شكل عقيدة تمارسها مختلف أجهزة دولة الاستعمار الصهيوني.[4] 

تضعنا كلّ هذه الرمزيات البصريّة في مواجهة السؤال التالي: لماذا حرص سليمان على إبراز هوية إيليا الطفل بصفته طالبًا يراقب بصمت مجتمع المدرسة ويتحدّاه بين الفينة والأخرى؟ وكيف يمكن أن نؤوّل بيت الطفل باعتباره حيز تعلّم مقاوم؟

مارس الاستعمار الصهيوني أشد أنواع الرقابة الأمنية على الفلسطينيين في الأراضي المحتلة عام 1948 خلال فترة الحكم العسكري، والتي يمكن إرجاع بداياتها الحقيقية إلى وقت احتلال الناصرة وقراها عام 1948.[5] تمثّلت أشكال الرّقابة التي مارسها الجهاز العسكري في تجميع البقية الباقية من الفلسطينيين ضمن «غيتوهات»، وتقييد تنقلهم بتصاريح يصدرها الحاكم العسكري للمرضيّ عنهم، والتدخل في المسائل الشخصية كالزواج والطلاق، وتوظيف كل السبل الممكنة للهيمنة على نظام التعليم؛ لينجح في تجنيده لمراقبة المجتمع الفلسطيني وتحديد أدواره.

مع زوال هذا النظام، ألغيت أكثر مظاهر الهيمنة حدّة، كضرورة استصدار تصاريح لهدف التنقّل، دون أن يُنهي ذلك تعامل دولة الاحتلال مع الفلسطينيين في الأراضي المحتلّة عام 48 باعتبارهم خطرًا أمنيًّا يجب تدجينه بكل السبل الممكنة.

في إدارته السينمائية لمقاومة القوى المهيمنة، يحوّل سليمان الصمت إلى أداة لخلخلة السلطة.

في «الزمن الباقي» يبرز إيليا سليمان هذه الهيمنة أيضًا في الدور الرقابي الذي يُجبر الأستاذ النصراويّ ضمن هذا النظام على أدائه. يتجلّى هذا الدور في مشهدين نراه يوبّخ فيهما إيليا الطفل لقوله تارةً «إن أمريكا كولونيالية»، وتارةً أخرى إنّها «إمبريالية». لا نسمع هذه العبارات من الطفل مباشرة، بل نعرف أنّه قالها من الأستاذ أثناء تقريعه إيليا. يوظّف إيليا تقنية تقديم الفعل في لحظة عرض عواقبه للتركيز على أنّ أهمية الفعل تكمن في مقاومته لمحاولات «الأسرلة القسرية» التي تتعرّض لها عقول الطلبة.

في إدارته السينمائية لمقاومة القوى المهيمنة، يحوّل سليمان الصمت إلى أداة لخلخلة السلطة. من مظاهر هذا التوظيف أن يرد الطفل إيليا بالصمت رافضًا الاعتراف كلاميًا، متحديًا استجواب الأستاذ له. يتساءل المُشاهد: كيف كوّن إيليا هذا الوعي؟ نلاحظ الطفل في المشاهد التي تصوّر البيت وهو يراقب والده بصمت كل صباح على مائدة الفطور الصغيرة بحجم عائلة إيليا، ونلاحظ الوالد يظهر في مشاهد أخرى مناضلًا للاستعمار. يجعلنا هذا نفهم أحد أسباب اختيار سليمان تكرار مشهد اجتماع العائلة على مائدة الفطور صباحًا، فهنا يجد الطفل حيزًا حميميًّا وآمنًا يتعرض فيه لروايات مغايرة ومضادة لتلك التي تحاول المدرسة حشوها في عقله، تكريسًا لحضوره كمجرّد جسد وتغييب كيانه وهويته.

طلبة حاضرون غائبون

تبدأ «سيرة الحاضر الغائب» بمشهد يظهر فيه سائق التاكسي الإسرائيلي الذي يقلّ إيليا الكهل من المطار إلى بيت والديه في الناصرة، بين نسختي ملصق متطابقين كتب عليهما «أرض أخرى» (Eretz Arechet).[6] في نسختي الملصق هاتين يحضر البرتقال كرمز لأرض إسرائيل التوراتيّة، ويغيّب الفلسطينيون، تعزيزًا للأسطورة الصهيونية القائلة بأن فلسطين كانت «أرضًا بلا شعب».

يوظف سليمان الطقس كأداة للرد بطريقة تهكمية على ادّعاء المحتل، فتهطل أمطار غزيرة وتهب عاصفة يضلّ بسببها السائق الإسرائيلي الطريق، فتختفي عن ناظريه معالم الاستعمار الصهيوني التي تجعل هذه الأرض مألوفة لديه، مثل «الكيبوتسات» والمزارع التعاونية. ينتهي مشهد التيه بسؤال «أين أنا؟» يعيدنا بعده سليمان بتقنية «فلاش باك» 60 سنة إلى الوراء، إلى ما قبل نكبة عام 1948.

مشهد من فيلم «الزمن الباقي: سيرة الحاضر الغائب»، فيلم روائي طويل، 2009

تعاود كلّ من رمزيتي «البرتقال» و«تغييب الوجود الفلسطيني» الظهور في مشهد احتفال مدرسة إيليا الطفل، باليوم الذي أقرته دولة الاحتلال «يوم استقلال إسرائيل»، بحضور وفد سياسي إسرائيلي. اليوم الذي أُجبِرَت المدارس العربية على الاحتفال به خلال فترة الحكم العسكري. بأجساد مصطفّة بانضباط عالٍ، مرتبة حسب الطول. وفي مشهدٍ يطغى عليه اللونان الأبيض والأزرق تنشد فتيات المدرسة:

غدًا سنبحر من شواطئ إيلات إلى ساحل العاج
وسفن الحرب القديمة، غدًا ستحمل البرتقال
هذا ليس مجازًا ولا حلمًا
إنها حقيقة ساطعة كشمس الظهيرة
[7]

كعادته، يستعين سليمان بحركة الممثلين داخل الإطار للتعبير البصري، فتهز أولغا، مديرة المدرسة وعمة إيليا، رأسها أثناء غناء الجوقة تملقًا للوفد، مستمعةً بخنوع ممزوج بالتوتّر إلى أداء الفتيات أغنيةً تدعو كلماتها إلى استعمار أرضهنّ ومحو وجودهنّ.

عبر إعادة استحضار هذه الدلالات، يصوغ سليمان موزاةً بين العنف الكامن في هذه اللحظة الاحتفالية بما فيها من محاولات لمحو عقول الطلبة وعنف العصابات الصهيونية المتمثّل في احتلال أرض فلسطين بقوّة السلاح، ومحاولات محو شعبها. ينتهي الأداء الغنائي ويكرّم المسؤول الإسرائيلي الجوقة بالجائزة الأولى في مسابقة «أفضل غناء باللغة العبرية»، ملقيًا خطابًا يكرّس النظرة الدونية إلى العرب، يقدّمه في الوقت ذاته على أنّه لفتة لممارسة الديموقراطية والمساواة.

مشهد من فيلم «الزمن الباقي: سيرة الحاضر الغائب»، فيلم روائي طويل، 2009

بينما تتّجه عدسة مصوّر المدرسة لتوثيق اللحظة، تتبعها عدسة المخرج إلى مؤخرة المصوّر تهكمًا على الحدث ونقلًا له من وجهة النظر الفلسطينية. يستخدم سليمان نفس التقنية التي وظفها عند توثيق لحظة تسليم رئيس بلدية الناصرة المدينة لعصابات الاحتلال. فبدلًا من صورة المصور، يرى المُشاهد اللقطة من وجهة نظر موضوع التصوير، فتجمع الشاشة الجائزة مع المتفرجين على الاحتفال لا مع فتيات الجوقة. يهدف تكرار تقنية التصوير هذه إلى محاذاة لحظة الهزيمة المتمثلة بتسليم الناصرة للاحتلال ولحظة انهزام نظام التعليم وتسليمه عقول الطلبة الفلسطينيين لروايات الاحتلال.

المدرسة باعتبارها حيزًا لتطبيق العنف الاستعماري

في هذا النظام التعليمي، الذي يغيّب الفلسطينيين في أفضل أحواله، ويشكّل في أسوأها عدوًّا يجب التخلص منه بالنّسبة لهم، كان المعلم الفلسطيني ملزمًا بحماية أمن دولة إسرائيل من أيّ معارضة سياسية قد تتبلور داخل المدرسة وعائلات طلبتها. يتحدث الأديب الفلسطيني حنا أبو حنا عن تلك الفترة قائلًا: «تبدأ حملة فصل المعلمين من ذوي العمود الفقري وتعيين «معلمين» يعلنون الخنوع في مدارس تفرض على التلاميذ أن تتحول دروسهم إلى استعداد للاحتفال بعيد استقلال إسرائيل والإنشاد: في عيد استقلال بلادي غرّد الطير الشادي».[8] يمارس الأستاذ في مشهد توبيخ إيليا دورًا استخباراتيًا لا تربويًّا، إذ لا يقتصر هذا التوبيخ على الفعل ذاته بل يتجاوزه إلى سؤال «مين» قال لك هذا.

يتكرّر هذا المشهد في سياق مختلف، وهو يوم رحيل جمال عبد الناصر، ولكن مع بعض التغييرات الطفيفة. ففي لقطة طويلة ثابتة، تظهر ساحة المدرسة في المشهد الأول فارغة إلّا من زينة بلون علم إسرائيل، بينما تظهر الساحة في المشهد الثاني خالية من هذه الزينة ومكتظّة بالطلبة الذين يقفون متحجّرين كالتماثيل برؤوسٍ ينحني معظمها نحو الأسفل، في استشرافٍ لمستقبل الشباب الفلسطيني.

يمارس الأستاذ في مشهد توبيخ إيليا دورًا استخباراتيًا لا تربويًّا، إذ لا يقتصر هذا التوبيخ على الفعل ذاته بل يتجاوزه إلى سؤال «مين» قال لك هذا.

في هذا المشهد، نسمع الأستاذ بنفس النبرة الموبِّخة يسأل إيليا الذي استبدل هذه المرّة كلمة كولونيالية بإمبريالية، كون الثانية أكثر اتّساقًا مع الخطاب القومي العربي الذي جسّده عبد الناصر آنذاك، وتغلغل في وجدان العديد من الفلسطينيين في الأراضي المحتلة عام 1948. تُشعرنا هذه التغييرات الطفيفة بمضيّ الوقت، دون أن نغفل عن محاولات سليمان لتعطيله عبر تكرار المشاهد، الأمر الذي يمكننا أن نقرأ فيه محاولة لمقاومة استمرار الكارثة التي حلّت بالفلسطينيين، ورغبةً في إظهار عبث العنف الاستعماريّ وفحشه.

يتغلغل هذا الحس الرقابيّ في كل جوانب التربية المدرسيّة، ويظهر في سياقات لا تشكل أي تهديد على الأيديولوجيا الصهيونية. في أحد مشاهد المدرسة، تعرض المديرة فيلم «سبارتاكوس» (1960) لمخرجه ستانلي كوبريك، والذي يلعب دور بطولته الممثل الصهيوني كيرك دوغلاس. يبدو أن هذا الفيلم فُرض كنشاط لا منهجيّ على المدارس بغرض تعزيز الرواية الصهيونية، فاقتران وجه دوغلاس المعروف بتمثيله في أفلام صهيونية مثل «في ظل العمالقة» (1966)، بقصة العبد سبارتاكوس، الذي قاد ثورة العبيد في المملكة الرومانية ضد ظروف معيشتهم غير الإنسانية، يجعل الفيلم مادة مثالية لتعزيز رؤية الصهيونية لذاتها.

يفهم المشاهد أن المديرة ليس لديها أي صلاحيات في اختيار ما يتعلمه الطلبة، لأنها تتفاجأ بمشهد حميمي يُقبّل فيه سبارتاكوس حبيبته فتقفز أمام الشاشة لتحجب المشهد، وتقول: «هادا أخوها يا بنات»، مكرّسةً ممارسات تشويه الحقائق وأدمغة الطلبة، ولكن بشكلٍ طوعيّ هذه المرة. لطالما فرضت المدرسة تاريخيًا ثقافة الطبقات المهيمنة، وفي استثناء الذكور من خطابها تعزّز أولغا الفكر الأبوي السائد الذي يعتبر هذه المشاهد خادشة لحياء الفتيات فقط.

مشهد من فيلم «الزمن الباقي: سيرة الحاضر الغائب»، فيلم روائي طويل، 2009

في حيّز المدرسة، يلعب إيليا الطفل دور المراقِب الشاهد على كلّ هذا العنف، والطالب الذي يتحدّى بصمته مطالبَ الإفصاح التي يشترطها نظام التعليم لهدف حماية صورة الصهيونية عن ذاتها.

البيت باعتباره حيزّ تعلّم مقاوم

فور وصوله البيت، يمسك الطفل إيليا طبق مجدّرة أعدّته عمته أولغا، ويتخلص من هذه الوجبة ذات الطعم غير المستساغ، تمامًا كالتعليم الذي يتلقاه في المدرسة التي تشغل العمّة منصب إدارتها. يتكرر هذا الفعل بعد كل مشهد توبيخ من أستاذه، فنحس عبر هذا التتابع المشهديّ أن هذا الفعل يشكّل وسيلة إيليا الطفل للنقمة على العمة البالغة، التي لم تستطع حمايته مما يتعرّض له داخل المدرسة من عنف متمثّلٍ في تقريع الأستاذ له، أو في الإجبار على التغني بالرواية الصهيونية التي تكرّس محوه.

يختلف الشعور العام في مشاهد البيت، خصوصًا تلك التي يجتمع فيها أفراد العائلة على مائدة الطعام صباحًا. يعطي اللون الأصفر لديكور المطبخ شعورًا بالسعادة والاسترخاء، تولّد التفاصيل الصغيرة الحاضرة في تكوين الصورة، كمرطبانات المخلل المُعَدّة يدويًا، شعورًا بالدفء والألفة، ويضفي ترك باب البيت مفتوحًا في هذه المشاهد إحساسًا بالأمان وسيادة العائلة الكاملة على هذا الحيز. تتشارك العائلة بأبسط الأفعال الإنسانية، وهي تناول الطعام، مما يغري المشاهد بالعودة إلى طفولته، مسترجعًا دفء العائلة. يصرّح سليمان في أكثر من مناسبة بتأثّره بأسلوب المخرج الياباني ياسوجيرو أوزو، الذي استخدم مشاهد تناول الطعام كثيرًا في أفلامه لتقريب المُشاهد من عالم شخصياته.

مشهد من فيلم «الزمن الباقي: سيرة الحاضر الغائب»، فيلم روائي طويل، 2009

يتغير معنى المراقبة الصامتة التي ترافق إيليا الطفل داخل حيّز البيت، لتفصح في هذا السياق عن حب الوالدين والتعلق بهما. نرى في لقطة متوسطة دموع الطفل تنهمر حزنًا على رحيل جمال عبد الناصر أثناء تخلّصه الروتيني من مجدرة أولغا، تأثرًا بمعرفته بانتماء والديه القوميّ وحبهم لعبد الناصر. يشاهد الطفل أيضًا والده فؤاد ينهض عن مائدة الفطور كل صباح لإقناع الجار بالعدول عن حرق نفسه احتجاجًا على الوضع السياسي، رغم اقتناعه التام بأن محاولات جاره غير جدّية. يحاول فؤاد إيقاف لحظة العبث الهائلة المنبثقة من غضب الجار، وداخل كل هذا الأسى يستشعر المشاهد كوميديا المشهد. يمثّل الوالد شعلة الأمل التي تتحدى هذا العنف الكامن، في مشاهد التعبير عن الظلم واليأس الذي يعيشه الجار، كحال العديد من الفلسطينيين.

يجانس سليمان متضادات مثل الكوميديا والغضب، والعبث والجدّ، واليأس والأمل، خالقًا بذلك قواعد خاصة لخطابه السينمائي، بعيدًا عن الانفعال العاطفي. ويوظف هذه «الجماليات التحررية» كما يسميها المفكر الإيراني حميد دباشي[9] في معالجة مأساة الشعب الفلسطيني، والسخرية من فكرة إقامة دولة يهودية على أرض فلسطين، في كل أفلامه.

يجانس سليمان متضادات مثل الكوميديا والغضب، والعبث والجدّ، واليأس والأمل، خالقًا بذلك قواعد خاصة لخطابه السينمائي، بعيدًا عن الانفعال العاطفي.

يصرّ إيليا الطفل على أن يكون شاهدًا على مداهمة شرطة الاحتلال بيتهم لاعتقال فؤاد، رغم محاولات والديه ثنيه عن ذلك. تفتّش الشرطة البيت بحثًا على السلاح، فتعثر على البرغل تحت سرير إيليا معتقدةً أنه بارود، وينفضح جهلهم بالأرض التي استعمروها وشعبها. في لحظة السخرية هذه، يفكك سليمان داخل سينوغرافيا المنزل، ببساطة تامّة، أحد أجهزة الدولة، وهي الشرطة، التي تحتكر العنف وتمارسه. يكبر إيليا التلميذ ويرافقه وعيه المقاوم في شبابه، فنسمع على لسان أمه أنه خرج في مظاهرات تندّد بالاحتلال رافعًا علم فلسطين في يوم الأرض.

يتكدّس جوهر الفيلم في مشهد وقوف إيليا الطفل مقابل أستاذه في باحة المدرسة. تحمل هذه السردية المهمّشة شحنة تعبيريّة عن الهزيمة وتغلغل العنف الاستعماري في أبسط تفاصيل حياة الفلسطيني، ومحاولات مقاومتها من قِبل الشباب الفلسطيني (الذي يجسّد الطفل فكرة الأمل به).

يتّخذ تصوير طفولة إيليا في سياقها المدرسيّ أهمّيّته من انتماء المدرسة إلى المؤسسات التي تهدف إلى إعادة صياغة وعي الأفراد، وبالتالي إعادة صياغة وعي المجتمع. شكلت المدرسة مواجهة إيليا اليومية مع النظام، كونها النظام الأكثر حضورًا في حياة الطفل. يولّد التناقض بين ترابط المدرسة مع البيت بصريًّا من خلال اللون الأصفر، والتنافر الشعوري الذي يخلّفه اللون ذاته في كلّ حيز، لحظةَ وعي يدرك فيها المُشاهد أن التعلم داخل البيت يجابه نظام التعليم الرسميّ. وتعطي اللغة المجازية والبناء الشعري للصورة هذه الطبيعة التأملية لعوالم شخصية إيليا، فيستفزّنا سليمان للتنقيب داخل طبقات ذاكرتنا وتفاصيلنا الشخصية، علّنا نحرّر الواقع من ثقل المأساة.

  • الهوامش

    [1] مبدأ صاغه الفيلسوف الإنجليزي جيرمي بينثام عام 1786، لوصف المؤسسات الإصلاحية ذات المبنى الدائري الذي يشبه القفص، والذي يخضع فيه المساجين لمراقبة شديدة من حراس متخفين في برج مركزيّ. تستخدم المؤسسة التأديبية هذه الهندسة المعمارية التي تساعدها في تطبيق ممارساتها الرقابية والأمنية لمنع حدوث الفوضى والجرائم.

    [2] ميشيل فوكو، المراقبة والمعاقبة: ولادة السجن، ترجمة. علي مقلد. بيروت: مركز الإنماء القومي، 1990، 214 -215.

    [3] الكلاستروفوبيا هي رُهاب الأماكن المغلقة. في سياقٍ سينمائيّ، إن كان التأطير في مشهد يحصر موضوعًا ما ضمن إطار ضيق ومقيّد يمكن وصفه بالكلاستروفوبي.

    [4] يئير بوميل، «الحكم العسكري»، في «الفلسطينيون في إسرائيل: قراءات في التاريخ، والسياسة، والمجتمع»، تحرير نديم روحانا وأريج صبّاغ-خوري (حيفا: مدى الكرمل، 2015)، 60.

    [5] الفلسطينيون تحت الحكم العسكري في إسرائيل، رحلات فلسطينية: المسرد الزمني، تاريخ الدخول 22 كانون الثاني، 2021.

    [6] صمّم الفنان الصهيوني ديفيد تارتاكوفر هذا الملصق عام 2004، وهو نسخة عن الملصق الأصلي الذي صممه الفنان الصهيوني ميتشل لويب بعنوان «زوروا فلسطين: جمال قديم يبعث» وذلك بتكليف من الوكالة اليهودية لتشجيع هجرة اليهود إلى فلسطين. فصور لهم فلسطين وكأنّها أرضٌ أعيد إحياؤها بالزراعة بعد أن كانت أرضًا قاحلة بلا شعب، فنرى في الملصق ثلاثة بيوت جديدة وبرج ماء ومسطحًا مائيًا تلوح خلفه جبال تكسوها الثلوج. يؤطر المشهد رمزَية البرتقال وسعف النخيل، تفعيلًا للمخيال التوراتي الذي صبغ تصورات المستعمرين عن أرض فلسطين، والذي استحوذ على رمزية البرتقال الحاضرة بقوة في أدبيّات فلسطين ما قبل النكبة نظرًا لما اشتهرت به مدينة يافا من زراعة البرتقال وتصديره إلى العالم.

    [7] أغنية بعنوان «غدًا» كتبتها مؤلفة الأغاني الصهيونية نعومي شيمير (1930-2004) لفرقة «هاناخال» الموسيقية التابعة لجيش الاحتلال أثناء خدمتها العسكرية.

    [8] حنّا أبو حنّا، مسيرة الأدب العربي عندنا (شهادة)، جريدة السفير، كانون الأول 2010.

    [9] حميد دباشي، «في مديح العبث: حول سينما إيليا سليمان»، في «أحلام وطن: عن السينما الفلسطينية»، تحرير. حميد دباشي. ميلانو: منشورات المتوسط، 2018، 219.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية