«الزند ذئب العاصي»: قيامة دراما جديدة تراعي متطلبات السوق

الخميس 13 نيسان 2023
الزند ذئب العاصي

منذ عرض حلقته الأولى بداية شهر رمضان، أثار مسلسل «الزند: ذئب العاصي» تفاعلًا كبيرًا من جمهور الدراما السورية ونقادّها، وذهب البعض لاعتباره قيامة للدراما السورية وعودة إلى سابق عهدها بعد سنوات من التراجع جراء ظروف الحرب والإنتاج. 

اليوم، وبعد عرض أكثر من عشرين حلقة منه، بات بالإمكان تفكيك طبيعة المسلسل الذي يقع ضمن قائمة الأعمال الدرامية السورية الأعلى كلفةً إنتاجية لهذا الموسم، ونقاط القوة والضعف فيه، والتفكير بحجمه الفعلي ضمن الدراما السورية.

عاصي: مجابهة ظلم الإقطاع

تدور قصة المسلسل في إحدى القرى الصغيرة الواقعة على نهر العاصي في أرض شديدة الخصوبة معروفة بسهل الغاب، الواقع جغرافيًا في وسط سوريا بين البادية من الشرق وجبال الساحل السوري من الغرب. يبدو المسلسل منذ بدايته وفيًا لبيئته، من خلال الاعتماد على مواويل العتابا وهي اللون الغنائي الشعبي الدارج في هذه المنطقة، إذ يبدأ المسلسل بموال عتابا منسوب لأشهر مطربي سهل الغاب وسوريا فؤاد غازي: «أنا يا ديب بكاني عويلك»، الذي أداه الفنان السوري سام عبد الله، وشارة النهاية التي غنتها مها الحموي ولاقت صدى كبيرًا بين الجمهور، واعتمدت على كلمات عتابا ابن الغاب الشاعر برهوم رزق، والعديد من مشاهد غناء العتابا على لسان شخصيات المسلسل.

تتضح مع اللحظات الأولى للمسلسل الخطوط الدرامية لطبيعة الصراعات المستقبلية في القصة، إذ يظهر للمشاهد توضيح مكتوب عن قوانين تنظيم الطابو التي أصدرتها السلطنة العثمانية، واستغلال الباشاوات لهذه القوانين في سبيل توسعة أراضيهم ومصادرة حقوق الفلاحين، يتلوه مشهد افتتاحي نسمع فيه صوت تيّم حسن بشخصية عاصي يسرد أسطورة نشأة نهر العاصي التي أخبره بها والده، الذي انشق بفعل تنين حفر في الأرض مختبئًا من عاصفة اعترضت طريقه لتنفجر بعدها مياه النهر من أعماق الأرض، في إحالة دلالية إلى شخصية عاصي نفسها في المسلسل. 

يبدو المسلسل قيامة لنوع جديد من الدراما، تنعدم فيها المساحة المشتركة بين المشاهد والشخصية، حيث يكتفي بمتابعة أحداثها من باب الفضول دون شعوره أن قضاياها ومشكلاتها قريبة منه أو تمسه.

نرى بعدها والد عاصي يذهب برفقته لتسجيل أرضه في الطابو كما تنص القوانين المرعية موصيًا إياه بالحفاظ عليها، إلا أن الباشا الإقطاعي يرسل رجاله، وعلى رأسهم «إدريس»، إلى والد عاصي لانتزاع الأرض منه وقتله، ليهرب الابن بعد توجيهه ضربة سكين لإدريس رجل الباشا الذي غدر بوالده. ويمضي بعدها المسلسل 17 عامًا للأمام، كان عاصي قد قضاها في الخدمة العسكرية لدى الجيش العثماني، ليعود بعدها واضعًا نصب عينيه استعادة أرضه، التي استولى عليها الباشا، والانتقامَ لأبيه بعد وفاة الباشا الكبير وحلول ابنه نورس مكانه ليصبح خصم عاصي الرئيسي في المسلسل.

الخصومة بين الفلاح والإقطاعي ليست الأولى من نوعها في تاريخ الدراما السورية، إذ سبق نقاشها في العديد من الأعمال الفنية، كمسلسل الثريا عام 1997، وقبله فيلم الفهد 1972 المأخوذ عن رواية بالاسم نفسه للروائي السوري حيدر حيدر، وتروي قصة شخصية حقيقية تدعى «أبو علي شاهين»، وهو أحد الفلاحين من قرى سهل الغاب «سيغاتا»، تمرّدَ ضد الإقطاع وعاش مُطاردًا في الجبال، متسلحًا ببندقيته ليلقّب بالفهد نسبةً لسرعته في الهجوم على دوريات الدرك وهروبه منها، قبل أن يُلقى القبض عليه ويعدم في اللاذقية.

حضور هذه القصة في الفن السوري، وقبلها حضورها في المواويل والأغاني الشعبية دفع البعض للقول إن قصة عاصي مقتبسة عن قصة «أبو علي شاهين»، رغم كون القصتين مختلفتين في الفترة الزمنية التي تحصل فيها أحداثهما، إذ يجابه «الفهد» الإقطاع في مرحلة متأخرة من الانتداب الفرنسي، فيما يواجهه الزند في زمن السلطنة العثمانية.

تركز القصة في الحلقات الأولى على الخصومة بين الزند الفلاح المظلوم ونورس باشا الإقطاعي الظالم، لتشهد تناميًا سريعًا ومفاجئًا لهذا الصراع يخرج من هذه الثنائية الضيقة المعتادة، وتتداخل مع قضايا أكبر تعكس آثار احتضار الدولة العثمانية وأطماع الدول الأوروبية بولاياتها، مكتشفين لاحقًا عمالة نورس باشا لهذا المشروع، وشراءه أراضيَ المنطقة لصالح مستر روث مندوب بريطانيا في البنك الإمبراطوري العثماني، لتدخل شخصية الزند في تطورات سريعة ويتغير حاله من الفلاح المظلوم إلى قاطع الطريق المطارد فالمدافع عن الأرض أمام الاستعمار، ويتحول لاحقًا إلى مشروع إقطاعي جديد وصديق لهذه القوى، مشرعنًا لنفسه ممارسة القوة و«مصادرة» أراضي الفلاحين، بما أنه يرى نفسه الأجدر بقيادتهم وحماية حقوقهم في ظل انتهاء الدولة العثمانية وتقاسم تركتها بين قوى الدول الغربية.

جماليات اللهجة والصورة

كسر المسلسل مركزية اللهجة «البيضاء» في الدراما السورية على حساب لهجات المناطق السورية الأخرى، وهو ما لاقى عليه استحسنانًا كبيرًا. كما يحسب له تنوّع اللهجات فيه، مراعيًا فروق اللهجات بين قرى سهل الغاب، والتي نلاحظها بين أهالي قرية صومع أصحاب القاف الثقيلة وأهالي قرية الجب أصحاب القاف الخفيفة الأقرب لهمزة، إضافةً لاستخدام لهجتيْ حمص ودمشق. لكن ورغم هذا التنوّع إلا أن لهجة شخصية عاصي حملت فروقات كبيرة عن باقي الشخصيات، حتى عن أخته عفراء وأبناء قريته، وإن كان ذلك مبررًا بغيابه عن القرية سنين طويلة قضاها في حروب على جبهات أجنبية، إلا أنه لا يفسر أن تكون لهجته أقرب للهجات الساحل السوري الغربي القريب من سهل الغاب.

كسر المسلسل مركزية اللهجة «البيضاء» في الدراما السورية على حساب لهجات المناطق السورية الأخرى، وهو ما لاقى عليه استحسنانًا كبيرًا. كما ظهرت اللغة البصرية للمسلسل غنية باللقطات والتفاصيل الفنية.

كما لابد من الاحتفاء باللغة البصرية للمسلسل. فمن المعروف عن مخرج العمل سامر برقاوي اهتمامه باللقطات والتفاصيل الفنية، وقد اعتمد في الزند على التصوير السينمائي لمعظم المشاهد مستفيدًا من الدعم الإنتاجي الكبير الذي وفرته شركة الصباح، ساعده في ذلك خبرة مدير التصوير وصانع الأفلام البولندي زبينجنيو ريبكزينسكي، والذي سبق له العمل في العديد من أعمال الدراما العربية كمسلسليْ «أهو ده اللي صار» و«أسمهان»، إذ بدا واضحًا حجم الاهتمام بتقديم مشاهد جمالية عبر حركة الكاميرا ومعالجة الألوان والأزياء والانتباه لتفاصيل المشاهد الداخلية في قصر الباشا وبيوت الفلاحين وخيم الغجر، إضافةً لإبراز جمال البيئة سواءً أكانت في البادية أو وادي العاصي أو الجبال، ومراعاة أبعاد اللقطات في المشاهد، حيث ركزت بعض المشاهد على التعبير بلغة الصورة عن الحالة النفسية والمشاعر والهواجس للشخصيات دون الاعتماد على الحوارات المباشرة والتعبير الأدائي المباشر للممثل.

برز أيضًا الجهد المبذول على إخراج المعارك في المسلسل، خاصةً مشهد معركة النهر بالأسلحة البيضاء بين عاصي الزند وإدريس، المشابهة لفيلم عصابات نيويورك 2002 للمخرج مارتن سكورسيزي، إذ يعتبر المشهد نقلة نوعية في مشاهد المعارك من هذا النوع من ناحية الإخراج والتنفيذ وتصوير اللقطات وانفعالات الممثلين، خاصةً أن المعركة بين المتحاربين جرت داخل مياه العاصي ما يزيد صعوبة تنفيذها وتصويرها، وقد لاقى مشهد المعركة بعض الاعتراضات من الجمهور بسبب دمويتها المفرطة وعدم اتساقها مع شكل معارك المنطقة تاريخيًا، لكن يحسب للمخرج إبداعه لهذا النوع من المعارك لغايات الاستعراض، وهي نقطة إيجابية في تناول هذا النوع من الأحداث في التاريخ، خاصةً بالنظر إلى طبيعة المسلسل والاستفادة من العناصر الطبيعية الموجودة في المكان.

اعتراضات على السردية التاريخية

في المقابل، انتقد المسلسل لضعف التزامه بالأحداث التاريخية، فمثلًا يذكر المسلسل أن ناظم باشا كان والي إيالة سوريا، في الوقت الذي تجري فيه أحداث المسلسل عام 1895-1896 بينما عُيّن ناظم باشا واليًا لسوريا عام 1897، كما ثارت التساؤلات حول عدم وجود ضباط أتراك بين ضباط السلطنة العثمانية، فجميع الضباط والنافذين في المسلسل يتحدثون اللهجة السورية بطلاقة دون تبرير إتقانهم لها، ما يفسر على أنهم عرب سوريون، الأمر الذي يتعارض مع نسبة الضباط العرب الخادمين في الجيش العثماني تلك الفترة.

كما انتقِد المسلسل لتفاصيل أخرى بينها طبيعة الألبسة والأزياء التي ارتدتها النسوة وعدم توافقها مع مرحلة المسلسل الزمنية، وتمت السخرية كذلك من تطور الطب في استخانة حمص «المستشفى» والتي عُرِضت مكتظة بالأسرّة والممرضات، وأجريت فيها عملية استئصال ورم لعفراء شقيقة عاصي ما يناقض حال العمليات الجراحية المتواضعة آنذاك.

 في ظل الأحداث الكبرى: ثغرات ونقاط ضعف

إضافة إلى الثغرات في السرد التاريخي، يعاب على المسلسل تمحوره الشديد حول عاصي، إذ دارت كل الشخصيات الثانوية في فلكه، دون أن تمتلك القدرة على التأثير عليه أو على الأحداث. وفي الوقت نفسه كانت شخصية عاصي عصية على التغيير أمام الأزمات التي تعصف بها، فتعامل معها بعقلانية شديدة، ولم نرَ الصراعات النفسية للشخصية والتغيرات التي يمكن أن تطرأ عليها بعد هذه الأحداث.

كما يعاب عليه أن الإيقاع السريع له جاء على حساب المنطق الدرامي، وهو ما التقطه الجمهور على الفور، كسرعة انتقال الشخصيات بين الأماكن في المسلسل بطريقة غير مفهومة، وهو ما ظهر في سرعة انتقال عاصي بين مخبئه في الجبال وحمص والعودة لقريته رغم أنه ملاحق من الدرك وأعوان الباشا ورغم المسافات البعيدة بين هذه المناطق، واقتصار وسائل النقل في تلك الفترة على الخيول والعربات. وكذلك وقوع أحداث أخرى دون تمهيد درامي، وقد أثرت هذه الهفوات على جودة العمل، خاصةً أنه كان بالإمكان تلافيها ببساطة عبر الاستعانة بحيل درامية أكثر إقناعًا.

لم يتحرج صناع المسلسل من الاقتباس المستمر من أعمال أجنبية، كان أبرزها اقتباس شخصية نورس باشا الواضح من شخصية كالفين ج. كاندي من الفيلم الأميركي جانغو الحر للمخرج كوينتن تارانتينو التي أداها ليوناردو دي كابريو، فتشابهت الشخصيتان في الشكل الخارجي وتسريحة الشعر والمكانة الاجتماعية كإقطاعيين وملّاكيْ أراضي، حتى إن نورس باشا في أول مشهد رئيسي له يشرح لضيوفه نظريته العنصرية في الفروق بين النخبة والعامة معتمدًا على كتاب «مقالة عن عدم المساواة بين الأجناس البشرية» المؤلف عام 1853 للكاتب الفرنسي آرثر دو غوبينو، رغم أن سياق المنطقة تاريخيًا لا يستدعي هذه العنصرية ولا توجد فعليًا في تاريخها هذه العنصرية المبنية على أساس عرقي كما هو الحال في الجنوب الأميركي، منطقة نشاط الشخصية الأصلية التي اقتبست عنها شخصية نورس.

الترند والمبالغة: عناصر درامية حديثة

صور المسلسل شخصية عاصي بالبطل الذي لا يشق له غبار، فهو ليس مجرد فلاح ثائر على الظلم، بل جندي سابق في العسكر السلطاني حارب على جبهات البلغار، يجيد القتال وإطلاق النار ببراعة والتخطيط العسكري وقراءة الخرائط، كما أنه كوّن علاقات مع ضباط نافذين في السلطنة، ولديه القدرة على التعامل مع الثقافات المختلفة، ويبدو أن هذه الصفات سوغت لصناع المسلسل استحضار الفيلسوف الألماني نيتشه من قبل عاصي، الذي استشهد به للسخرية من صديقه المثقف، مع العلم أن أول كتاب مترجم لنيتشه إلى العربية كان بعد زمن أحداث المسلسل بعشرات السنين، ولا يمكن توقع معرفة عاصي بنيتشه من على خطوط الجبهة في وقت لم يكن فيه نيتشه مشهورًا في أوروبا، ولا يوجد تفسير للاستعانة بنيتشه في المسلسل، سوى التعويل على هذا الاستخدام لإثارة الجدل على وسائل التواصل الاجتماعي وإعادة تدوير اقتباسات عاصي لنيتشه من قبل روادها، وهو ما نجح فعلًا.

هذا النوع من الدراما نشأ لصالح مراعاة متطلبات السوق، حيث يتيح مساحات أوسع للتشويق والإثارة والاستعراض، مع ما تشكلّه هذه العناصر من فرصة مضمونة لجذب متابعة جماهيرية أكبر.

رغم الإشادة التي لاقاها تيم حسن في الحلقتين الأولى والثانية من المسلسل لخروجه من عباءة شخصية جبل شيخ الجبل التي أداها على مدار خمسة أجزاء من مسلسل الهيبة، لكنه مع استمرار المسلسل عاد إلى ذات أدوات الممثل التي استعملها مع شخصية جبل، من عنترية ومبالغة في حركات الجسد لإبراز الشخصية الذكورية بإفراط واستخدام ألفاظ بطريقة مبالغ بها، إلا أن هذا التشابه في أداء الشخصيتين نتيجة طبيعية لتشابه طبيعة شخصيتي جبل وعاصي في العديد من السمات كالهيمنة ومركزية القوة والتمرد على القانون وبطولة الشخصية في عيون مسانديها وقيادتها لهم مقابل شيطنتها من قبل خصومها.

بالمحصلة من المبكر اعتبار مسلسل الزند «ذئب العاصي» قيامة جديدة للدراما السورية، خاصةً مع تصريح صنّاعه أنه عمل من ستين حلقة مقسمة على موسمين، لكن في ضوء ما نشر منه لحد الآن، يبدو المسلسل قيامة لنوع جديد من الدراما، تقفز إلى الاشتباك مع التحولات والقضايا الكبرى، على حساب التغيّرات الإنسانية والأبعاد النفسية للشخصيات وردود أفعالها تجاه الأزمات المصاحبة لهذه التحولات، لتنعدم فيها المساحة المشتركة بين المشاهد والشخصية، حيث يكتفي بمتابعة أحداثها من باب الفضول دون شعوره أن قضاياها ومشكلاتها قريبة منه أو تمسه، مثلما تبدلت قضية الزند من رفع الظلم عنه والانتقام لأبيه إلى لعب أدوار على صعيد السلطة والسياسة، هذا النوع من الدراما نشأ لصالح مراعاة متطلبات السوق، حيث يتيح مساحات أوسع للتشويق والإثارة والاستعراض، مع ما تشكلّه هذه العناصر من فرصة مضمونة لجذب متابعة جماهيرية أكبر، مستفيدةً من وفرة إنتاجية تسمح لها بالمناورة ضمن هذه المساحات الجديدة.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية