ثورة جون لوك غودار: مسيرة التجريب والوعي في سينما المخرج المتمرد

الثلاثاء 07 آذار 2023
غودار

فقد العالم بوفاة جون لوك غودار في أيلول الماضي مخرجًا مبدعًا ومتمرّدًا لم يتوقف عن التجريب وعن تجاوز ما هو مألوف أو سائد حتى آخر أفلامه. وفقدنا نحن العرب معارضًا شرسًا للإمبريالية الأمريكية ونصيرًا مخلصًا للقضية الفلسطينية، لم يتوان عن رفض الصهيونية بشكل مبدئي، ولا عن تأييد الكفاح المسلح، وعندما دُعي إلى أن يكون ضيف شرف في مهرجان سينمائي في تل أبيب طالبته حركة المقاطعة الفلسطينية بعدم الحضور فاستجاب لها.[1] 

إلا أن الحال لم تكن هكذا دائمًا، إذ سبق أن قدم غودار في فيلمه الثاني «الجندي الصغير» رؤية عنصرية للثورة الجزائرية، تجعل الثوار الجزائريين همجًا وتوزع اﻹدانة ما بين نصيب أكبر للعنف الجزائري ونصيب أقل للعنف الفرنسي. وحتى تضامن غودار مع فلسطين لم يخل من مركزية أوروبية تسطو على صورة المقاوم الفلسطينيّ، لتقدم من خلاله دروسًا فرنسية.

إلا أن مربط الفرس، على اﻷقل بالنسبة لهذا المقال، ليس مدح غودار لتضامنه مع فلسطين أو إدانته لموقفه القديم من الجزائر أو لبعض الخلل في مظاهر تضامنه. مربط الفرس أن مسيرة غودار كانت مسيرة ثرية تضافر فيها الوعي الفني بالوعي السياسي. ففي مرحلته الأولى، أو ما يعرف بمرحلة «الموجة الجديدة»، كانت صنعته السينمائية تسبق وعيه السياسي وكانت تقوده إلى مواقف تقدمية يلهث وراءها وعيه ويتخلف عنها تعبيره الواعي، ثم يكتشفها وينضج وعيه بها فيما بعد. ثم في مرحلته الوسطى، مرحلة السينما السياسية الملتزمة واعتناقه للماوية، كان التحامه المباشر بالنضالات الطلابية والعمالية في فرنسا، ثم التحامه بالنضالات المعادية للاستعمار (في فلسطين بالذات إثر زيارته لمخيمات الفدائيين في اﻷردن) وقودًا لصنعته الفنية التي أصبح أكثر وعيًا بدورها التقدمي.

الجندي الصغير: حرب الجزائر بعيون مصور يمينيّ

في ثاني أفلام غودار، «الجندي الصغير» (الذي لم يخرج إلى الجمهور إلا بعد إتمامه بثلاثة أعوام لأسباب سنحكيها في وقتها)، نرى الحرب السرية ما بين جبهة التحرير الجزائرية و«المنظمة السرية المسلحة»،[2] من خلال تجربة فنية فريدة تمزج ما بين عناصر أفلام الجواسيس والعصابات وتأثيرات مدرسة الواقعية الجديدة الإيطالية، وبطريقة حادة كأننا نشاهد فيلمًا تسجيليًا أو شيئًا صوّر على عجل من قلب الأحداث.

نرى الحرب من وجه نظر قاتل محترف يعمل مع هذه المنظمة اليمينية؛ ويعمل كذلك مصورًا صحفيًا، ويتحدث ببلاغة في الثقافة والأدب، ويظهر قدرًا عاليًا من الكرامة والإحساس بالقيمة الحضارية، ويجعله غودار يسيطر على معظم الحوار كما يجعله راوي الأحداث.

من اللافت هنا اختيار غودار، الذي كان ما يزال حينها يشق طريقه السياسي، والذي قال إن الفيلم يعبر عن تساؤلاته وقتها أكثر مما يعبر عن حرب الجزائر،[3] أن يقول حكايته ويصيغ تساؤلاته على لسان هذا المصور اليميني الذي يوشك أن يهجر يمينيته، والذي يحب فرنسا، لا لأسباب قومية، ولكن لأنه يحب الأدب الفرنسي، كما يحب أمريكا لأنه يحب السيارات الأمريكية (ربما مثل غودار الذي أظهر كذلك في أفلامه الأولى ولعًا بالسيارات الأمريكية)، ولا يحب العرب لأنه لا يحب الصحراء.

يقع هذا القاتل/ المصور في يد الجزائريين الذين يعذبونه بشكل بشع بينما يرددون مقاطع من كتابات ماو تسي تونج وفلاديمير لينين، ولكنهم لا يفهمون هذا الفرنسي الذي يرفض من باب الكرامة أن يخبرهم بأي معلومات عن زملائه بينما يعقد المقارنات (المعقدة والمرتبطة بشكل مكثف بالثقافة الفرنسية) ما بين سجانيه والنازيين قبل أن يهرب منهم.

المفاجأة بعدها هي أن بطل الفيلم يدرك، قرب النهاية، أن الفرنسيين قد اختطفوا عشيقته (التي تبين أنها جاسوسة لجبهة التحرير الجزائرية) وعذبوها حتى الموت. هذه الرواية لا تكتفي بالمساواة بين الطرفين ولكنها تجعل مرد التعذيب عربيًا وثوريًا، ليس فقط لأن التعذيب على يد جبهة التحرير يأتي أولًا، ولكن، والأهم، لأننا نشاهد تفاصيل تعذيب الجزائريين لسجينهم بينما لا نرى شيئًا من التعذيب الفرنسي؛ فقط نسمع البطل/ الراوي يحكي لنا عنه في دقيقتين كأنه شيء عارض. وكأن الفيلم يقول لنا -على أحسن تقدير- إن الفرنسيين، وياللهول، يعذبون سجناءهم على طريقة الجزائريين.

يصل الجندي الصغير إلى قناعة (تتأكد بهذه النهاية الباردة) بأن الطرفين على خطأ وأن هذه الحرب يجب أن تنتهي. هذا النقد الخجول ضاقت به الرقابة الفرنسية فلم تسمح بعرض الفيلم، الذي صوّر في عام 1960، إلا في عام 1963 بعد انتهاء حرب الجزائر. لكن قناعة الجندي الصغير لا تنجرف إلى أي تعاطف مع الجزائريين أو تضامن مع قضايا التحرر، وإنما تنبع من كرامة الفرنسي الذي يرى أن فرنسا أرقى من ذلك.

لا يغيب عنا هنا مغزى اختيار سويسرا (الشهيرة بهدوئها إلى درجة الملل، والتي تعود إليها جذور غودار) لتكون مسرحًا لهذه الحرب القذرة، كأن تجربة الاستعمار قد نقلت همجية العرب إلى قلب الحاضرة الأوروبية الوادعة، وكأنما غودار ينضم في هذه المرحلة إلى الذين عارضوا الاستعمار لا حبًا في العدالة وإنما خوفًا من أن تتسلل همجية الآخرين إلى أوروبا.

إلا أن الفيلم يحمل في طياته بذورًا لموقف أكثر جذرية وتقدمية من كل ما يثرثر به الجندي الصغير، وتعبر عنه، بجمل مبتسرة وفرنسية متكسرة، عشيقته التي تعمل جاسوسة لجبهة التحرير. فبينما لا تمتلك من الفصاحة والمنطق ما ترد به على عاشقها، فإنها تقول ببساطة إن الجزائريين لديهم مُثُل، أما الفرنسيين فلا. هذه البطلة، أو عشيقة البطل، التي تظل محصورة في الهامش، تصبح ضحية عدسة الجندي الصغير المتطفلة؛ إذ يمعن في تصويرها بشكل لا تكترث له في بعض الأحيان وتضيق به في البعض الآخر، بينما يظل يسألها أسئلة فضولية فترفض ببساطة أن تجيبه.

تلصص الكاميرا ونقد إمبريالية الصورة

لا يغيب عنّا هنا رمزية الكاميرا وأن يكون القاتل المحترف مصورًا كذلك، وما في ذلك من كشف، وربما إدانة، لتلصص الكاميرا. ثم في ثاني أفلام الحروب التي أخرجها غودار، فيلم «حاملو البنادق»، نرى اثنين من المجندين وُعدا بأن ينهبا ما يشاءان من غنائم، ثم في النهاية لا يعودان إلا بالبطاقات التي تحمل صورًا تذكارية لآثار العالم الذي وُعِدا بنهبه.[4]

في هذا المشهد، يُظهِر غودار وعيًا بما في الصورة من علاقة سلب، «أن تجمع الصور يعني أن تجمع العالم» كما تقول سوزان سونتاج في تعليقها على الفيلم.[5] إلا أن هذا الوعي لا يصل، لا في فيلم غودار ولا في تحليل سونتاج، إلى انتظام هذه الصور في علاقة إمبريالية أوسع تجمع العالم (من خلال صوَرِه كما من خلال نهب موارده الطبيعية والبشرية) في الحواضر الاستعمارية الغربية؛ ولهذا كان مناسبًا أن يكون المجندون في فيلم غودار من مكان غير محدد وتابعين لملك غير معلوم، ويجوبون العالم في حرب قد تكون استعمارية في عالم الفيلم لكنها لا تميز ما بين المستعمِر والمستعمَر في عالمنا الحقيقي (حتى إن الصور التذكارية التي جمعاها عوضًا عن الغنائم، والتي اعتبراها صكًا بملكية مؤجلة لهذه الغنائم، تضم آثار أوروبا كأن أوروبا هي عرضة لنفس سطوة الصورة التي يتعرض لها باقي العالم).

إذن، كانت صنعة غودار السينمائية تأخذه إلى مواقف نقدية متقدمة، وكانت سينماه تكشف ما في موقع المصور أو الرائي من سلطة، لكن وعيه السياسي حينها كان ما يزال في طريقه للحاق بهذه المواقف. ثم تغير كل شيء في صيف عام 1968.

أثر 1968

في فيلم «الحالمون» لبرناردو برتيلوتشي يعيش ثلاثة من الناس (أخ وأخته وضيفهما الأمريكي) حياة منعزلة في باريس، تدور ما بين محاكاة الأفلام التي يحبونها، بما في ذلك محاكاة أحد المشاهد الشهيرة من فيلم «جوقة الخارجين» لغودار، وبين أشكال من المتع المحرمة. أي يعيشون انغماسًا فيما يعرف في التحليل النفسي بـ«مبدأ اللذة» الذي يحكم عالم الخيال، والذي يتناقض مع «مبدأ الواقع».[6] وفي فيلم «الحالمون» يأتي الواقع على هيئة زجاجة مولوتوف طائشة من مظاهرات سنة 1968 تكسر نافذة البيت الذي يعيش فيه الحالمون الثلاثة فينزلون إلى الشارع.

كانت أحداث 1968 هي الواقع الذي أخرج «الحالمين» مثل غودار (الذي كان برتولوتشي يعتبره أستاذه) من عالم الخيال الذي صنعوه لأنفسهم إلى عالم الواقع. نزل غودار إلى المظاهرات، وساهم، مع فرانسوا تروفو ورومان بولانسكي وآخرين، في تعليق أنشطة مهرجان كان تضامنًا مع إضرابات العمال والطلبة، وألقى كلمة أدان فيها الأفلام التي لا تلتحم مع هموم الناس، بما فيها أفلامه هو.

كانت صنعة غودار السينمائية تأخذه إلى مواقف نقدية متقدمة، وكانت سينماه تكشف ما في موقع المصور أو الرائي من سلطة، لكن وعيه السياسي حينها كان ما يزال في طريقه للحاق بهذه المواقف.

هذا النزول، حرفيًا ومجازًا، إلى الشارع، جعل تجربة غودار أكثر وعيًا بمعاناة الفقراء والمهمشين والعمال. قبل ذلك كانت أفلام غودار قد بدأت تمتلئ بشعارات «الطبقة العاملة» و«معاداة الإمبريالية» مع طغيان ﻷبناء الطبقة البرجوازية (وفي بعض اﻷحيان مقدمي الخدمات الذين كان غودار يخلط بينهم وبين الطبقة العاملة) وغياب شبه كامل لهؤﻻء الذين يتضامن معهم عن أفلامه. المثال اﻷشهر هو فيلمه «الصينية» الذي أخرجه في صيف 1967، ويدور حول مجموعة من الطلبة، معظمهم من البرجوازيين، ينعزلون في فيلا طوال الصيف ليلوكوا شعارات ماو تسي تونغ وكتاباته إلى أن يقرروا تبني الإرهاب الثوري وينتهي الفيلم بطريقة سريالية (ربما تظهر تخبطهم عندما حاولوا أخذ الشعارات التي يتدارسونها إلى أرض الواقع).

الفيلم غني بالتجريب في التصوير والنص وإدارة الحوار، ويقدم نقدًا مهمًا لهذه الحالة «المثالية-الثورية» التي تغوص في تعاليم لينين أو ماو تسي تونغ وتنفصل عن الواقع، ولكننا نجد فيه، وفي غيره، انغماس غودار في هذه الشعارات نفسها وانعزاله تمامًا عن الطبقات الكادحة.

أما بعد عام 1968 فقد أسس غودار مع زميله جون بيير جونيه وآخرين فريقًا أسموه «مجموعة دزيكا فييرتوف»، تيمنًا بالمخرج الأوكراني السوفيتي الذي آمن أن الكاميرا ينبغي أن تكون عينًا ثالثة تلتقط هموم الناس. في هذه المرحلة قدما عدة أفلام، معظمها غير روائي، تنحو إلى التسجيلية أو إلى أن تكون «مقالًا سينمائيًا» وتحاول التركيز على أوضاع الطبقة العاملة، أو تضع صورة المجتمع البرجوازي في مقابل صور العمال في المصانع، أو تسائل الدور اﻹمبريالي الذي يمكن أن تلعبه الصورة، وتستكشف الظروف الاقتصادية والسياسية التي تجعل إنتاج الصورة ممكنًا والعلاقة اﻹيديولوجية التي تربط منتج الصورة بمتلقيها. ثم في نهاية هذه المرحلة قدما فيلما روائيًا (إلى حد ما وإن كان يعكف على تفكيك روايته) تدور أحداثه على هامش إضراب للعمال في مصنع لحوم، يقدم بشكل واع ولغة جمالية فريدة أوضاع العمال في أعقاب أحداث 1968، وعلاقة المثقف البرجوازي بالطبقة العاملة، وتقاطع الذات مع الجماعة، وهو فيلم «كل شيء على ما يرام» الذي أجده من أجمل أفلامه.

الشيء نفسه حدث مع نظرة غودار إلى الاستعمار، والتي خرجت من التعميمات، المثالية أحيانًا والعنصرية أحيانًا أخرى، إلى رؤية واقعية وواضحة للنضال ضد الإمبريالية.

1968 هنا وفي مكان آخر

في أعقاب معركة الكرامة أصبحت الثورة الفلسطينية مصدر إلهام لما عرف وقتها في أدبيات الثورة بـ«أحرار العالم». تزامن هذا الصعود للنموذج الفلسطيني مع أحداث عام 1968 وتنامي الوعي الثوري لدى فئات واسعة من الشباب الأوروبي، ثم مع خيبة أمل الكثير منهم حين لم تسفر هذه الأحداث عن تغييرات سياسية ملموسة. وبينما كان منهم من استسلم للإحباط أو ارتمى بعد ذلك في أحضان اليمين، فإن فئة من هؤلاء وجدت ملاذها ومصدر إلهامها في القضية الفلسطينية، وكان غودار وغورين من بين هؤلاء.

اتجه غودار وغورين في سنة 1970 إلى مخيمات تدريب الفدائيين في الأردن، لتصوير فيلم تسجيلي عن المقاومة الفلسطينية تحت عنوان «حتى النصر»، إلا أن الفيلم لم ير النور (لعدة أسباب من بينها أسباب ميدانية تتعلق بما تلاه من أحداث في أيلول من ذلك العام). بعدها بستة أعوام أخذ غودار المقاطع التسجيلية ووضعها في مقابلة مقاطع من الإعلام الفرنسي ليقدم فيلمًا تسجيليًا، أو مقالًا سينمائيًا، بعنوان «هنا وفي مكان آخر»، عن دور الصورة في تغييب الوعي في فرنسا، في مقابل صورة الفدائي الذي يرى حربه مع الإمبريالية بوضوح.

استلهام الفدائي أم السطو على صورته؟

إذ لم يكتمل فيلم «حتى النصر» فإن المقاطع التي صورت قد أصبحت، في فيلم «هنا وفي مكان آخر»، تأملاتٍ في أسباب فشل الثورة في فرنسا ودروسًا من فلسطين للتغلب على التشويش الذي يسببه الإعلام والإعلان وثقافة الاستهلاك.

أثناء تصوير «حتى النصر» كتب غودار مقالًا قال فيه إن الفيلم سيصبح مادة دعاية ثورية للتواصل ما بين الجبهات المختلفة للنضال ضد العنصرية والاستعمار والرأسمالية وإنه وغورين يريدان أن يقدما القضية الفلسطينية للعمال العرب في فرنسا وللفهود السود الهاربين من الإف بي آي؛ «أن نصنع الفيلم سياسيًا، ونعرضه سياسيًا، ونوزعه سياسيًا».

طبعًا لم يحدث شيء من ذلك، وبدلا من ذلك قدما فيلمًا «طليعيًا» و«تجريبيًا» على الطريقة الفرنسية لجمهور فرنسي عن الهموم الفرنسية، وزعته شركة غومون الفرنسية تجاريًا بدل أن يوزع سياسيًا كما كان يَعِد غودار.

تظل من مآثر الثنائي غودار وغورين (ومن بعدهما آن ميفيل، زوجة غودار التي ساعدت في إخراج «هنا وفي مكان آخر») أنهما تجرآ على استلهام نموذج من خارج أوروبا ومن جبهة حقيقية ومباشرة للنضال ضد الإمبريالية (على عكس ظاهرة اليسار الإمبريالي المعاصرة التي تريد أن تفرض أجندة اليسار الغربي على بقية العالم). ولكن، وحتى وهما يفعلان ذلك، ظل هناك شيء من استلاب الصورة إلى المركز الإمبريالي (كما فعل المجندان في فيلم «حاملو البنادق»).

المسيرة الطويلة

فيلم «هنا وفي مكان آخر»، على ما فيه من عيوب، هو درس مهم في الدور اﻹيديولوجي للصورة، يقوله صانعو الفيلم من خلال الصورة ومقابلها: صورة المجتمع الاستهلاكي الفرنسي في مقابل صورة الفدائي الفلسطيني. وفي فيلمه المتأخر «موسيقانا» سيفعل غودار شيئًا شبيهًا بمقابلة صورة المستوطنين الصهاينة اﻷوائل بصورة اللاجئين الفلسطينيين، ليقول إن العلاقة ما بين الصورة والصورة المضادة لا يمكن أن تكون محايدة. هذا الاهتمام بأيديولوجيا الصورة وهذه المحاولة المستمرة لتفكيك ما في الصورة من سلطة قد استمر طوال مسيرة غودار، منذ أفلامه اﻷولى التي تشعرنا أننا نتلصص على اﻷبطال مع الكاميرا، إلى أفلامه السياسية التي تتساءل عمن ينتج الصورة ولمن تنتج وما الذي تقوله، والتي تحاول تفكيك صورتها (بما في ذلك مشاهد في فيلم «ريح الشرق» يتوقف فيها فريق الفيلم عن العمل ويبدأون في مناقشة مغزى ظهور صورة ستالين في أحد المشاهد)، إلى أفلامه المتأخرة.

في مرحلة لاحقة سيُدعى غودار إلى تصوير فيلم تسجيلي في موزمبيق، وسيكتشف أن المادة الكيميائية في المادة الخام لأفلام كوداك لا تظهر الدرجات المختلفة للألوان الداكنة فتجعل الوجوه السوداء غير ذات ملامح، وسيرفض استخدام أفلام كوداك ويصمها بالعنصرية. منذ الخمسينيات، منذ كتاب فرانز فانون «بشرة سوداء، أقنعة بيضاء» ولدينا نقد مهم لتسيد الصورة البيضاء واحتكارها لمعايير الجمال على حساب الجماليات السوداء، إلا أننا كنا بحاجة إلى غودار، أو إلى ممارسة سينمائية نقدية تخلق وعيها من خلال تجربتها، لنرى كيف أن هذه العنصرية متجذرة في المادة الخام للصورة.

كانت مسيرة غودار -أحيانًا بوعي تام منه مسيرة تعلم مستمر، للمشاهد أحيانًا، وله هو دائمًا. أو كما تقول إحدى شخصيات فيلم «الصينية»، مستعينة بمصطلحات ماو تسي تونج وملخصة ما سيأتي من مسيرة غودار:

«كنت أظن أنني قفزت قفزة هائلة للأمام. ولكنني أدركت أنها لم تكن سوى خطوة أولى خجلى في مسيرة طويلة».

  • الهوامش

    [1] للأسف، تحجج غودار وقتها بـ«ظروف خارجة عن سيطرته»، بدل أن يقولها صراحة أنه يفعل ذلك من باب المقاطعة، ولو فعل لكان ذلك نجاحًا إعلاميًا جديدًا للمقاطعة؛ ولكن تضامن الأوروبيين قلما يكتمل، وإن كانوا على مبدئية غودار.

    [2] منظمة مسلّحة أنشأها اليمنييّون الفرنسيون، وشنوا من خلالها حملة إرهابية على الجزائريين المناصرين للثورة وعلى كلّ من تعاطف معها.

    [3] Godard on Godard, Critical Writings

    [4] الفيلم، على العكس من جودة «الجندي الصغير» الإبداعية والفنية، شديد الرداءة (وإن كان أنصار غودار يصرون أنه تعمد أن يكون الفيلم رديئًا ليقول من خلاله إن الحرب قبيحة؛ غودار نفسه قدم ردًا متناقضًا على هذا الاتهام، فقال إن الفيلم خرج بهذا الشكل لأنهم اضطروا لتصويره في زمن قصير، ثم تذرع بعدها بـ«مونتاج أيزنستاين» الذي لا يراعي بالضرورة تتالي المشاهد واستمرارية تفاصيلها). إلا أن الفيلم على رداءته الفنية يظهر وعيًا أنضج بالطبيعة الاستعمارية والإمبراطورية للحروب. هذا الوعي سيتطور أكثر عندما يشتبك غودار بشكل مباشر مع قضايا التحرر.

    [5] Susan Sontag, On Photography.

    [6] في التحليل النفسي الفرويدي يبقى الطفل منغمسًا في مبدأ اللذة إلى أن يصدمه مبدأ الواقع، بينما يمكن أن ينسحب الشخص البالغ من الواقع إلى خيالات تعيده إلى مبدأ اللذة إلى أن يكسرها عليه الواقع مرة أخرى.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية