«عالمٌ يسعُ الجميع»: واقعية أدب الناشئة عند سماح إدريس

الأربعاء 19 كانون الثاني 2022
تصميم عبير عنبتاوي

مقدّمة: أدب الناشئة في المكتبة العربيّة

ما زلتُ أذكر الخيبة التي تملّكتني بداية مرحلة المراهقة، وتحديدًا عندما فقدت قصص «سلسلة المكتبة الخضراء للأطفال»، و«سلسلة الجوهرة: مغامرات مؤمن»، و«سلاسل الروايات المصريّة للجيب»، مُجتمعةً قدرتها على إمتاعي وإشباع فضولي. كان الإفراط في العيش مع الشخصيات الخياليّة ومغامراتها الفانتازيّة أو البوليسيّة قد جعل خيالي خصبًا حدّ أنّني بدأتُ أفقد الصّلة مع العالم الواقعيّ. في المقابل، لم تُفلح القصص العالميّة المُترجَمة بواقعيّتها الغربيّة أن تُعيدني إلى الواقع تمامًا، فقد أثارت حبكة القصص التي تستهدف اليافعات واليافعين اهتمامي، لكنّ التّماهي مع شخصياتها الأجنبيّة لم يكن ممكنًا بالنسبة لي إلا بالانسلاخ عن الثقافة العربيّة؛ فأسماء الشخصيّات واهتماماتها وهمومها كانت بعيدةً عنّي. وبعدما فقدت الأمل في العثور على ما يُرضي ذائقة مراهقة في عمري، لم أجد أمامي حينها إلّا مكتبة أخي الأكبر، وبدأت تجربتي مع «أدب الكبار» في وقت مبكّر، لكنّني ألفيته عصيًّا على الفهم بمُجمله.

فيما يصعب رسم الحدود الفاصلة بين أدب الأطفال وأدب النّاشئة بشكلٍ قطعيّ، خاصةً وأنّ بعض كتب الأطفال العالميّة تصلح للكبار أيضًا، يظلّ التمييز بين المراحل العمريّة المختلفة ضروريًّا في نظر المُتخصّصات والمُتخصصّين، وذلك تجنّبًا لإرباك الجمهور المُتلقّي، ومراعاةً للاهتمامات العمريّة المختلفة. تُشير الكاتبة والناقدة اللبنانيّة إيمان البقاعي إلى أنّ ما يُسمّى بأدب الناشئة (أدب الفتيات والفتيان، أو أدب اليافعات واليافعين) يستهدف فئات عمريّة تتراوح ما بين مرحلة المراهقة المُبكّرة (12-14)، مرورًا بمرحلة المراهقة المُتوسّطة (15-17)، ويمتدُّ إلى نهاية مرحلة المُراهقة المُتأخّرة (18-21).[1]

كما يتميّز أدب النّاشئة عن أدب الأطفال من خلال المواضيع التي يعالجها، لاسيّما التي يمتنع الأهل عن الخوض في تفاصيلها تجنّبًا للإحراج. وعليه، فإنّ مراعاة الكاتبة أو الكاتب لحساسيّة مرحلة المراهقة وهمومها، والالتفات إلى التغيّرات الفسيولوجيّة والنفسيّة المُفاجئة، يُشكّل عنصرًا أساسيًّا وجاذبًا لجمهور اليافعات واليافعين. بالإضافة إلى ذلك، فإنّ معالجة القضايا الإنسانيّة المحليّة أو حتى العالميّة، بأسلوب أعقد قليلًا من أدب الأطفال، وأبسط من أدب الكبار في الوقت ذاته، يُشبع بعضًا من فضول النّاشئة، ويُساهم في توضيح ما تعذّر شرحه على أرض الواقع، ويُحبَّذ أن يكون ذلك عبر لغة سهلة نسبيّة، تتماشى مع النمو اللغويّ لدى الناشئة.[2]

خلافًا لأدب الأطفال الذي دخل حيّز الاعتراف في الوطن العربيّ مطلع القرن الماضي،[3] وأخذ ينتقل «من المعالجة الوصفيّة والتاريخيّة» في أواخر السبعينيات إلى «المعالجة النقديّة» في أواخر التسعينيات،[4] ظلّت المكتبة العربيّة تفتقر إلى أدب موجّه نحو اليافعات واليافعين حتى مطلع الألفية الجديدة. تنتقد الكاتبة والشاعرة التونسيّة إيناس العبّاسي هذه «الفجوة المعرفيّة» في أدب الناشئة، قائلةً: «لدينا مئات القصص المُوجهة للأطفال ما دون سنّ العاشرة وعشرات القصص والروايات الموجهة لليافعين! ثم نجد آلاف الروايات والكتب المُوجّهة للكبار، وكأنّ الطفل العربيّ يُولد طفلًا ثم يقفز مباشرة لعالم الكبار (..) لدينا نقصٌ كبير، فجوةٌ ما بين سنّ الطفولة وسنّ الرشد».[5]

وتُرجِع الكاتبة الفلسطينية مايا أبو الحيّات أسباب هذا الافتقار إلى الصّرامة والرقابة التي تُفرَض على أدب الأطفال والناشئة، سواء من جهة الأهل أو من المُتخصّصات والمُتخصّصين في حقل التربية والتعليم، ممّا يُحمّل الكتابة للأطفال والنّاشئة أعباءً إضافيّة، ليصير إرضاءُ هذه الجهات الشاغلَ الأساسيّ، عوضًا عن التفكير باحتياجات الجمهور المعنيّ بهذا الأدب أصلًا. أمّا الكاتبة والأكاديميّة الأردنيّة سناء شعلان، والكاتبة المغربيّة نادية السالمي، فتعتقدان أنّ واحدًا من أسباب افتقار المكتبة العربيّة إلى أدب الناشئة هو غياب الدعم الوطنيّ والمؤسّساتيّ، وعدم اهتمام معظم دور النشر بهذا النوع من الأدب.[6]

سماح إدريس: أدب الناشئة و«النّضال اللغويّ»

كان الكاتب والناقد والمترجم ورئيس تحرير مجلّة ودار الآداب اللبنانيّة سماح إدريس، الذي رحل عنّا مؤخّرًا، من روّاد موجة أدب الّناشئة الجديدة[7] التي برزت خلال العقديْن الماضييْن، وأهمّ ما يُميّزها هو توظيفها للأساليب التجريبيّة، وطرح مواضيع مثيرة للجدل لم يسبق طرحها من قبل.

بعد  سلسلةٍ من القصص التي كتبها للأطفال،[8] توجّه سماح إدريس عبر سلسلة أخرى من القصص للفتيات والفتيان، وهي «الملجأ» عام 2005، و«النصّاب» عام 2006، و«فلافل النّازحين» عام 2011، و«خلف الأبواب المُقفلة» عام 2014. يأتي التفات إدريس إلى جمهور الناشئة عبر هذه السلسلة مُتقاطعًا مع عدّة مشاريع تربويّة وثقافيّة وسياسيّة؛ فهو لا يرى فارقًا بين نشاطه السياسيّ، كعضو مؤسّس في حملة « مقاطعة داعمي إسرائيل في لبنان» منذ عام 2002، وكتابة أدب الأطفال والناشئة على حّد قوله،[9] لأنّ حركات المُقاطعة ومقاومة التطبيع بالنسبة له لا تنفصل عن الحركات الثوريّة الحقوقيّة،  والحركات النسويّة، وحركات القوميّة العربيّة.

وعليه، فإنّ ما أسماه  إدريس «بالنضال اللغويّ» هو جزءٌ من مشروع تقدّميّ نهضويّ، يسعى من خلاله إلى تحبيب الأطفال والناشئة باللغة العربيّة من خلال الأدب، وإظهار حيويّتها وجماليّتها بعيدًا عن مشاعر «الدونيّة الحضاريّة»[10] المُبطّنة بتمجيد الثقافة الغربية. فمقاومة التطبيع، كما يُعرّفها إدريس في إحدى مقالاته، لا تنطبق على الاحتلال الإسرائيلي فحسب، بل على القوى القمعيّة والاستعماريّة والإمبرياليّة مُجتمعةً، فيقول: «التطبيع هو السعيُ إلى ترويض عقولنا على تقبّل الفكرة الآتية: لا إمكانيّةَ لعيشنا إلّا بقبول القامع وشروطِه (..) ويتفاقم خطرُ هذا التفكير إلى حدّ اعتبار القمع الذي نتعرّض له أمرًا «طبيعيًّا» لا مجرَّدَ استسلامٍ للواقع. وقد يذهب بعضُنا إلى القول بأنّنا «نستحقّ» هذا القمعَ لعلّةٍ فينا، في «عقلنا العربيّ» أو تاريخنا أو ديننا أو تركيبتنا الاجتماعيّة».[11]

يراهنُ سماح إدريس على اللغة العربيّة بوصفها وعاءً أصيلًا للنضال الفكريّ والتحرّري، فيدعو إلى تجديد وتطويع مفرداتها، وخاصةً عند الكتابة للأطفال والناشئة، فالعربيّة ليست «كائنًا معزولًا» ولا لغةً جامدةً كما يُصرّ بعض المُثقّفين والمثقّفات على تصويرها، ويرفع من قيمة أدب الأطفال والناشئة مؤكّدًا على أهميّته، في الوقت الذي  ينظر إليه البعض نظرةً دونيّة، إمّا خجلًا من كتابته، أو حتى ترفّعًا عن قراءته.[12]

بينما التزم إدريس في سلسلة القصص المُوجّهة للأطفال بمواضيع يوميّة بسيطة، تُعالج مواقف أخلاقيّة وبأسلوبٍ مَرِح وواقعي بعيدًا عن التلقين والوعظ والإرشاد، لم يتردّد منذ قصّته الأولى الموُجّهة للفتيات والفتيان بالإفصاح عن مشروعه ذي الأبعاد المُتعدّدة، والذي يُمهّد من خلاله إلى طرح مواضيع مثيرة للجدل ثقافيًّا وسياسيًّا.

يؤمن إدريس بضرورة اهتمام حركات المقاطعة ومقاومة التطبيع بالقطاع التربويّ، لأنّ «مقاومة الصهيونيّة والتطبيع معها عمليّة طويلة ودقيقة وشاملة، تبدأ منذ مرحلة المراهقة»،[13] أمّا الدعوات الليبراليّة والتربويّة إلى الابتعاد عن تسييس أدب الناشئة فليست سياسةً مُجدية بحسب رأيه، لاسيّما أنّ السياسة جزء من الواقع الذي لا يمكن تجاهله أو إخفاؤه، ولكن لا بدّ للتمييز بين ما أسماه «الحشو الغوغائيّ» من جهة و«التسييس المبني على المعلومة والصورة والفيديو من جهة أخرى».[14]

فكيف مهّد إدريس لذلك التسييس الفعّال عبر قصصه؟ وهل يُعتبر التطرّق للمواضيع الحسّاسة في أدب الناشئة، مثل الحبّ والحرب، واقعيّةً أدبيّة أم أيديولوجيّة؟ وكيف استطاع مخاطبة جيل اليافعات واليافعين في بلد مثل لبنان شهد تاريخًا طويلًا من الحروب الأهليّة والطائفيّة، وظلّ يعاني من الأزمات الاقتصاديّة والسياسيّة؟ وما الأساليب السرديّة التجريبيّة التي يوظّفها لإيضاح تقاطع الحقل التربويّ مع ثقافة مقاومة التطبيع، والحركات الثوريّة والحقوقيّة الأخرى؟

جدليّة الحبّ والحرب في قصتيّ «الملجأ» و«النصّاب»

على وقع أصوات الصّواريخ في أحد الملاجئ الرطبة والمُظلمة خلال الحرب الأهلية في  بيروت، يقتحم سماح إدريس في قصته الأولى «الملجأ» عالم المراهقة السريّ، بأسلوبٍ شيّقٍ لا يخلو من السّخرية والمُزاح. وخلافًا للأساليب السرديّة الخطيّة المتعارف عليها في أدب الفتيات والفتيان، يوظّف الكاتب تقنية الاسترجاع الفنّي (Flashback)، ليعود بنا إلى فترة الثمانينات، وتحديدًا مرحلة المراهقة للشخصية الرئيسة في القصّة «مازن».

يكشف إدريس عمّا يدور في عالم الملاجىء السفليّ الموازي للحرب الطائفيّة الدائرة في الأعلى عبر التركيز على البعد الإنساني الذي يوحّد الناس في مصائبها على اختلاف مصالحها وانتماءاتها الحزبيّة والطائفيّة. قد يبدو أنّ ما يرويه «مازن» من أحاديث الكبار حول الحرب هامشيًّا مقابل انغماسه في همومه ومغامراته، لكنّ الحرب هي ما يُحرّك أحداث القصّة فعليًّا. وعليه، يتعامل إدريس مع ما يسمعه الصّغار من أحاديث الكبار بواقعيّة؛ فيكتب الجمل المُتعلّقة بالسياسة بشكلٍ مقتضب، أو يُنهيها بنقاط دون إكمالها أحيانًا (..). ولعلّ عدم الاهتمام بتفاصيلها يُحاكي عدم اهتمام الناشئة بسماعها أساسًا، إلا أنّه لا يتوانى عن توظيفها كخلفيّة للأحداث، يُسرّب من خلالها بعض المعلومات للناشئة بشكلٍ غير مباشر:

«سرعان ما يشرع الكبار هناك في الجدال حول من بدأ القصف؛ فيقول أحدهم إنّ «جماعتهم» هم البادئون لأنّهم أخذوا ضوءًا أخضر من أميركا و«إسرائيل»، ليردّ الآخر بأنّ «جماعتنا» هم المسؤولون لأنّهم تلقّوا تحذيرًا من سوريّة بعدم السماح للجماعة «الآخرين» بتجاوز الخطوط الحمر (..) كان الكبار يختلفون حول الأضواء والخطوط وكلّ شيء، لكنّهم أجمعوا على شيء واحد: هو تقاسم المسؤوليات في الملجأ».[15]

يوقِظ إدريس ذكريات الحرب الأهليّة في المُخيّلة عبر حالة حسيّة، لها رائحة مميّزة، هي رائحة «الكاتول»؛ وهي المادة التي يستعملونها في الملاجىء لقتل البرغش ولها رائحة نفّاذة، «تُسبّب صداعًا واحمرارًا في العينين وتورّمًا في الحنجرة»، ولها أصوات مُتداخلة بصيحات الخوف من القصف والفرح المُتأهِّب الذي يجمع أولاد الجيران ليلعبوا معًا أثناء القصف في عتمة الملجأ، كما لها طعم السكاكر و«المُلبّس» الذي يسرقه «مازن» و«ثُريّا» من غرفة جارهم. فيما تُساعد رسوم عمر الخوري المُصاحبة للنصّ على جعل هذه الحالة الحسيّة «الحبيبة الكريهة» مرئيّةً أكثر.

تصوير مؤمن ملكاوي.

وهكذا، يجيء التركيز الواقعيّ على اللُّغة الحسيّة في القصّة مُنسجمًا مع حساسيّة مرحلة المراهقة ومُستجيبًا لخصوصيتها، فيما يُمثّل اختيار شخصيّات تتقارب في أعمارها مع القارئات والقُرّاء عنصرًا تشويقيًا عند القراءة، يُضاعف من فرصة التّماهي مع الشخصيّات، والتعاطف معها.

من جهة أخرى، يصعد إدريس  في قصّة «النصّاب» من الملجأ إلى عالم الحرب الأهليّة أواخر الثمانينيات، ويصحبنا إلى «النّصب لاند» التي يُديرها أحد المُقامرين في إحدى مناطق بيروت، في محاكاة ساخرة  «للنصب لاند» الكُبرى في السلطة، وفسادها المُتفشّي في البلاد. تعود الشخصيّتان «مازن» و«ثريّا» للظهور في هذه القصّة أيضًا، بالإضافة إلى شخصيّات أخرى من خلفيّات متعدّدة، مثل «ريما» قريبة «ثريّا» التي كانت تسكن في ولاية «بوسطن» في أميركا، و«وليد» صديق مازن القادم من بلدة «بحمدون»،[16] و«خميس» حارس البناية المصريّ الذي يلعب دورًا هامًّا في مُحاورة الشخصيّات، ومساعدتها في مغامرة القبض على «النصّاب».

تشكّل هذه الشخصيّات على اختلافها أرضيةً واسعة يوظّفها الكاتب ليعرض أنماط حياة مختلفة، ووجهات نظر مُتضاربة. ومجدّدًا، يُحاول إدريس التقرّب من جيل الناشئة مخاطبًا همومهم، إذ يُركّز على التغييرات الفسيولوجيّة، وأحاسيس الغيرة والقلق إزاء ما يتعلّق بالمظهر الخارجيّ، فنرى «مازن» على سبيل المثال، منشغلًا طوال الوقت في إخفاء حب الشباب، والتعرّق الزائد، وعدم ثقته بشكل جسده.

وسعيًا لمقاربة اللغة التي يتحدّث بها إلى الناشئة، يُدخل إدريس بعض الكلمات الإنجليزيّة على حوار الشخصيّات لتبدو أكثر واقعيّةً، كما يُلبسها من الماركات الأجنبيّة للملابس والأحذية، ويجعلها مهووسةً بموسيقى الروك، والأفلام السينمائيّة الغربيّة. الأمر الذي يجعلنا نتساءل: أليس التركيز على هذه المظاهر يُمجّد من صورة الثقافة الغربيّة في عقول الناشئة، ويتعارض مع مشروع إدريس التربويّ واللّغوي والقوميّ بشكلٍ صارخ؟

إذا ما نظرنا إلى الأمر من زاوية واحدة مُبسّطة، فالإجابة هي: نعم، ولكنّ استفادة إدريس مما يُتيحه تيّار الواقعيّة الأدبيّة قد ترفع من وعي الناشئة، وتُشّجع على النّظر إلى المواضيع من زوايا مُتعددة. ومن هنا، يدعو إدريس إلى مواجهة هذه الوقائع المتناقضة، بدلًا من تغييبها والتظاهر بعدم وجودها أصلًا.

هكذا، تُتيح الواقعيّة الفرصة أمام الكاتب ليُسلّط الضوء على التناقض الناجم عن التقليد غير الواعي  للثقافة الغربيّة من جهة، ويوظّفها في الوقت ذاته ليوسّع مدارك الوعي بأبعاد الحريّة الشخصيّة، وعدم التسرّع في الحكم على الآخرين تبعًا للمظاهر الخارجيّة من جهة أخرى. مثلًا، عندما ينتقد «مازن» شخصية «ريما» السخيفة والمُأمرَكة، تُهاجمه «ثريّا» قائلةً: «إنّ صديقتها حرّة فيما تفعله، وإنّي أيضًا حرٌّ في أن ألبس ما أريد، وأن أنتعلَ ما أريد (..) وحرّ في أن أستعمل الكولونيات والديودورانات والمراهم والكريمات التي أريد».[17] ولكن، نرى فيما بعد أنّ والدي «ريما» المُتحرّريْن يمنعانها من الحديث مع «وليد» بعد أن اكتشفا أنّه من طائفة أخرى، فيقول «مازن»: «أستغرب عقليّة والديْ ريما؛ فقد عاشا مع ابنتهما في أمريكا سنتين، وسمحا لها بأن تكون ثيابها على آخر موضة، وأن تستمع إلى أحدث الأسطوانات والأشرطة الغربيّة، وأن تتحدّث وتقرأ بالإنجليزيّة متى شاءت»، ليردّ عليه وليد قائلًا: «إنّ أكثر الأهل، كما يظهر، على هذه الشاكلة: يسمحون لأولادهم أن يكونوا «مودرن» بالمظاهر فقط».[18]

تصوير مؤمن ملكاوي.

تكشف واقعيّة إدريس الأدبيّة عن المآزق الأخلاقيّة في التعامل مع تنظير الأهل وتناقض تصرّفاتهم. ولذا، يحاول بدوره أن ينأى عن التنظير عبر حَلْحَلة السرد وإضفاء طابعٍ رومانسيّ على القصّة؛ فيكشف عمّا يدور في مُخيّلة المراهق «مازن» من أفكار حول جسد «ثريّا»، ويصفه بشكل تفصيليّ قليلًا، ثمّ يكشف لنا كيف تتعارض أفكار«مازن» مع تصرّفاته عندما يقابل «ثريّا» في الواقع.

قد تُعتبر هذه الرومانسيّة المُبطّنة بإيحاءات جنسيّة مُنافيةً للأخلاق بالنسبة للأهل، ولكنّ غيابها في نظر بعض اليافعات واليافعين يُعتبر «تعقيدًا» زائدًا عن اللزوم، ويجعل من قراءة القصص عمليّةً مملّة وجافّة.[19] لذلك، يُقرّر إدريس الانصياع لشيء من رغبات الجمهور المتلقّي، على مسؤوليته!

في المحصّلة، ما يراه البعض «أيديولوجيّةً» مُتلاعبةً بعقول الناشئة في قصص إدريس يُفسّره البعض الآخر على أنّه استجابة واعية للواقع، تنبذ العالم الورديّ في سبيل تهيئة الناشئة للتصالح مع العالم الرماديّ، مع إفساح المجال لحريّة الاختيار والتفكير، وإمكانية التغيير قليلًا. وهذا، في رأيي، ما يُنشىء عالمًا قصصيًّا واعيًا ومُؤثّرًا.

تعاطفًا مع الاختلاف: تعدّدية الأصوات السرديّة في قصّة «فلافل النّازحين»

ينتقل إدريس في قصّة «فلافل النّازحين» إلى حرب مفصليّة أخرى؛ وهي الحرب الإسرائيليّة على لبنان (حرب تموز) عام 2006. يُوظّف الكاتب هنا تقنية تعدّد الأصوات السرديّة التي قلّما نجدها في أدب الناشئة، مُوسّعًا بذلك الدوائر الاجتماعيّة لأسرة لبنانية تتقاطع في مصائرها مع عائلات النّازحين من الجنوب خلال الحرب.

وكما في القصيتيْن السابقتيْن، يُسلّط إدريس الضوء على حياة اليافعات واليافعين مُتدرّجًا في الانتقال من الدائرة الأسريّة، فالمدرسيّة، ثمّ المجتمعيّة. الجميعُ له صوتٌ في هذه القصّة، فلا ينفرد الناشئة بالسرد، بل يُشرك الكاتبُ الأهلَ أيضًا، ولا يكتفي عند ذلك الحدّ، بل يذهب بعيدًا في استنطاق الأشياء (الدُّمى والأشجار) والحيوانات (الكلاب) كذلك. وعليه، لا يستفيد إدريس ممّا يتيحه أسلوب الواقعيّة الأدبيّة في عرض زوايا متعدّدة من القصّة فحسب، بل يمزج بينه وبين أسلوب «الأنسنة» الأدبيّ؛ أي إضفاء صفات إنسانيّة على الحيوانات والجمادات، فيجعلها تتكلّم وتحزن وتخاف وتفرح وتشتاق وتحبّ أيضًا. يُمثّل ذلك الأسلوب مقاربة لقصص وحكايا الأطفال بأسلوب أعقد قليلًا، احترامًا لاختلاف الآخرين؛ البشر والطبيعة والحيوانات، على حدّ سواء.

تصوير مؤمن ملكاوي.

تتيح تقنية الأصوات المُتعدّدة للكاتب في هذه القصّة فرصةً أكبر للموازنة بين الأحداث اليوميّة البسيطة التي يسردها على لسان الشخصيّات اليافعة، وبين ما يتكفّل الكبار بسرده حول الأحداث السياسيّة والحرب ونزوح سكّان الجنوب إلى بيروت وضاحيتها والبقاع أثناء العدوان الإسرائيلي.

يسعى إدريس إلى التركيز على الصوت النسائيّ بشكل أكبر في هذه القصّة، فيأخذنا إلى عالم مراهقة الفتيات- مقابل عالم الفتيان في القصتيْن السابقتيْن- عبر شخصيّة «وردة الصافي» التي تتهرّب من مشاعرها العاطفيّة تجاه زميلها في المدرسة، وعندما يصحبها والداها الناشطان الحقوقيّان إلى منطقة «الصنائع»[20] لمساعدة أطفال النّازحين واللعب معهم، تتهرّب من الحديث عن نشاطها الإنسانيّ، خجلًا من آراء زميلاتها وزملائها في المدرسة.

كما يُوظّف الكاتب صوت الأمّ «جوسلين» ليوضّح نشاطها الحقوقي والنسويّ، فتروي كيف تعرّفت إلى زوجها «عدنان» في ندوة عن الانتفاضة الفلسطينيّة الأولى عام 1988، وتُفصح عن إعجابها الشديد بأفكار زوجها الثوريّة، إلا أنّها تلاحظ بعد ذلك تناقض أفعاله مع أقواله: «وين أفكارك التقدميّة يا رجّال؟ بتحكي عن المساواة ليل نهار، بس ما بتغسل صحن واحد ولا بتطبخ طبخة واحدة؟!».[21]

يعرّف إدريس الناشئة أيضًا إلى عدّة قضايا أخرى، منها قضيّة العاملات الأجنبيّات في لبنان، فالأب «عدنان» الناشط في حزب «المقاومة المدنيّة ضدّ «إسرائيل»» والمُشتبك مع السياسة حتى «شوشَته» لا يرى داعيًا للتوقّف عن استقدام العاملات، مُتهرّبًا من مسؤولياته في مساعدة زوجته، لكنه يعترف بتناقضه بعد ذلك عندما يتولّى السّرد، مُتذكّرًا ما كتبه في النشرة الحزبيّة: «كتبت أقول: لا قيمة  للفكر بلا تطبيق. الفكرة تنتحر إن هي انفصلت عن التطبيق. المشكلة أنّني اكتشفت أنّني صرت ضحيةً لأفكاري بالذات! فالمساواة التي أنادي بها بين الرجل والمرأة عنت، عمليًّا، أنّ عليّ أن أجلي، وأن أُكنّس، وأن أمسح، وأن أغسل، وأن أكوي، وأن أغير حفّاظات الطفلين وأن أطبخ أيضًا! (..) جوسلين تقول إنني لم أحاول تغيير ذلك الواقع لأنني كنت أستفيد منه».[22]

كما يُقدّم إدريس عبر شخصيّة الابن الأصغر «رامي» مأزقًا أخلاقيًا آخر وهو كيفية شرح الأهل للأفكار السياسيّة المعقّدة، إذ بعد أن يطلب الوالدان منه التخلّي عن دميته لأحد أطفال النازحين، يتدخّل الأب مُنظِّرًا حول مسؤولية الجميع تجاه الشعب، ويبدأ في الحديث عن الحرب الإسرائيلية، لكنّ الأم تقترح على الأب أن يتوقّف عن التنظير ويُترَك الطفل ليقرّر وحده، فيتنازل «رامي» بعد ذلك عن الدمية بملء إرادته.

لعلّ أكثر ما يشدّني إلى أسلوب إدريس القصصيّ هو عدم استخفافه بعقول الناشئة، إذ يحترم قدرتهم على ملاحظة التناقض بين القول والفعل، ولذا يأتي قرار الكشف عن هذه التناقضات والمسائل المعقّدة ومناقشتها أكثر إقناعًا، عوضًا عن التظاهر بالمثاليّة، أو الاكتفاء بالوعظ والإرشاد. ولا يفوتني كذلك أن أُثني على مرونة اللغة التي يُوظّفها إدريس في القصّة ؛ فالمفردات مُتنوّعة، بعضها فصيحٌ جدًا، وبعضها مستخدَم بالعاميّة التي يُمكن ردّها إلى الفصحى، مثل: فَشَر (الادّعاء الكاذب)، ونتّف (نزع)، زَحطَ (تزحلق)، ونقّ (صوت مزعج مثل نقيق الدجاجة) وغيرها.

لكنّ براعة إدريس في السرد وتشبيك الحكايا مع بعضها تتراجع  قليلًا أمام بعض الجمل المُدجّجة بمعلومات كثيرة، فتُثقل السرد وتحمّله بأكثر ممًا يحتمل أحيانًا. أمّا توظيف تعدّدية الأصوات السردية في القصة فأرى أنّه فعّالٌ جدًا، ولكن كان من الأسهل لو عَنون إدريس بداية كلّ فصل باسم الشخصيّة السارِدة، لأنّ معرفة الأصوات بناءً على ما يُسرَد قد يأخذ وقتًا طويلًا، ويمكن أن يُشعر الفتيات والفتيان بشيء من الملل أو التشتّت عند القراءة.

خاتمة

إنّ توظيفَ الواقعيّة الأدبية في أدب الناشئة عمليةٌ مُنهكة، تتطلّب حذرًا وتيقّظًا، فما أسهل الهروب إلى الخيال والفانتازيا! لا أحد ينكر أهمية المغامرات الخياليّة والفانتازيّة في أدب الأطفال والناشئة، لكنّ افتقار المكتبة العربيّة إلى أدب الناشئة الواقعي يستدعي مزيدًا من الابتكار والتجديد.

وفيما ينتقد البعض الكثافة السردية في قصص إدريس، وتحرّره الزائد عن اللزوم في مخاطبة جيل الناشئة، ومغالاته في الاشتغال على التسييس والربط بين القضايا المختلفة، أعتقد أنّ ما أضافه إدريس إلى أدب الناشئة يستحقّ التقدير، خاصةً أساليبه السردية المُبتكرة، واحترامه للخصوصيّة الثقافيّة، وتجنّب تقليد الأدب الدّخيل المُترجَم.

ثمّ لو كان التناسق الأخلاقي والفكريّ جزءًا من الواقع لعكسته القصص بكلّ أريحيّة، ولكن ما العمل إذا كانت الإزدواجيّة المعياريّة سيّدة الموقف؟ هل على الكاتبة أو الكاتب تكميم الأصوات، حتى في الأدب أيضًا؟

الناشئة في لبنان أو حتى في الوطن العربي ليسوا مُغيّبين تمامًا عمّا يجري حولهم، والسياسة والتاريخ جزءان من برامج التعليم المدرسي، فلماذا لا نتيح لهم فرصة التعرّض للجانب الإنساني للحروب عبر الأدب، ونترك لهم حريّة ترتيب الأفكار، بالاعتماد على تجاربهم في القراءة، عوضًا عن المعلومات التلقينيّة في المُقرّرات المدرسيّة؟

في النهاية، لا أعتقد أنّ وظيفة الأدب -سواء أكان أدبًا للصغار أم الكبار- أن يُغيّر الواقع، ولكنّه بمثابة إبرة دقيقة تنكش أكوامًا من القشّ، وتفتح كُوّة صغيرةً في العقول لعلّها تهتدي إلى تقبّل اختلاف الآخرين والتعاطف معهم. وما قدّمه إدريس في قصص الأطفال والناشئة مثالٌ على قدرة المُثقّف على تطويع الخطاب، والتحدّث «بعربيّات عدّة»[23] على حدّ تعبيره، ليكون بذلك أكثر شمولًا وتأثيرًا.

في 25 تشرين الثاني عام 2021، رحل عنّا سماح إدريس. حَزِنَ كثيرون على فراقه ومنهم أطفال مخيّم «شاتيلا» الذين كانوا ينتظرونه كل أسبوع، ليسافر بهم إلى عالمه القصصيّ، وهو «عالمٌ يسعُ الجميع».[24]

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية