(تنشر حبر تباعًا مراجعات للروايات الست التي وصلت القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر)، والتي سيعلن عن الفائز بها في ٢٦ نيسان).
يحتار قُراء الأدب أحيانًا في تحديد الخط الفاصل بين الخيال والحقيقة. ننسى أحيانًا أن حياتنا اليومية – خصوصًا في العقد الأخير – تفرض ذلك بصورة مباشرة، ويصعب تمييز حقيقة الصور التي تنقلها وسائل الإعلام في كثير من الأحيان. فَرَضَ التاريخ السياسي الحديث للعرب قسوته وغرائبيته على الرواية العربية المعاصرة، وطَرَدَ مفهوم المُتَخيّل كأداة أدبية، واكتفى بنقل الواقع كما هو، مما جعل الأدب أشبه بوسيلة توثيقٍ وتفريغٍ لسير الكاتب أو الكاتبة الشخصية، دون أيِّ اعتبارٍ للأدب نفسه في مُمكِناته الجمالية وقدرته على احتمال التجديد والتجريب، ودون اعتبار للقارئ الذي جُرّد من قدرته على الفصل بين الواقع وبين الحدث المتخيل الذي يعكس الواقع.
يَفرض الراوي نفسه من خلال شخصياته الرئيسية في عمله الروائي كمرجع ثابت لقصّ التاريخ، جاعلًا من كُتّاب الرواية مُوثقين رسميين لسجلاّت الكآبة الوجودية العربية. لا شيء يحدث، وكلّ شيءٍ يحدث في الآن ذاته؛ مرحلة مرضٍ وتعفنٍ وتلف، مع وجود مقاومة ضئيلة متمثلة إما بالرغبة البدائية بالتشبث بالحياة، أو رغبة مشفوعة بالتشبث بأملِ واقعٍ أفضل.
تدخل الشخصيات وتخرج، ورواية شهلا هكذا؛ تَقرأ وتَنجذب وتستمتع ثم تحتار وتمل وتُنهي الرواية محاولًا الإمساك بما تبقى منها.
في الرواية الثالثة للكاتبة السورية-الأردنية شهلا العجيلي «سماء قريبة من بيتنا»، الصادرة عن منشورات الاختلاف وضفاف عام 2015، والمرشحة لجائزة البوكر للعام 2016، شخصياتٌ مترابطة متعددة في بقعٍ جغرافية متقاربة، تسرد شهلا سيرهم الذاتية في حقبات مختلفة من الزمن عبر فصولٍ وأجزاء.
فصولٌ قصيرة تحوم حول شخصيتها الرئيسية التي تعيش الزمن الحالي: جُمان بدران، أكاديمية سورية مقيمة في عمّان تحمل دكتوراة في الأنثروبولوجيا الثقافية ومهتمة بالجغرافيا، تشكّل مُنطلقًا يحكي تاريخ عائلتها المتشابك مع تاريخ المنطقة السياسي؛ من سوريا إلى فلسطين والعراق والأردن، تمر على تاريخ الاستعمار في المنطقة والحروب الحديثة واحتلال فلسطين والعراق وصولاً إلى الثورة السورية ووضعها المأساوي الراهن والهجرة إلى الأردن.
تحاول شهلا رواية هذا كلّه في 350 صفحة، معتمدةً على شخصياتها الثانوية في سردٍ تفصيليٍ لتاريخ نشأتهم ووجودهم وتشردهم الجغرافي، يصب في تطوير شخصيتها الرئيسية جُمان، التي تُصاب بالسرطان لاحقًا، ليتكشّف لنا التشبيه المباشر: بقعٌ جغرافيةٌ مُختلفة من العالم نهشتها الحروب والمآسي سواءٌ عبر التاريخ أو في الوقت الراهن، وحربٌ شخصيةٌ أخرى متمثلةٌ بمعركة جُمان على السرطان في جسدها.
تَبْرع شهلا في سرد تاريخ شخصياتها وتفاصيلها؛ كيف نشأوا وعاشوا وانتقلوا من مكان إلى آخر تحت تأثير الحروب والتحوّلات التي تبعتها، هذا ما تفعله على امتداد فصول الرواية العشرة، لكن هذا سردٌ تفصيلي فقط ولا شيء يحدث. الرواية مُرهقة دون نتيجة؛ لا تملك الشخصيات الأخرى زخم الحدث ولا التاريخ، بل وُضعوا كشواهد تظهر وتختفي على أحداثٍ تاريخيةٍ تُمثل توسعًا في سرد تاريخ بطلة الرواية الرئيسية جُمان، التي أخذت حربها مع السرطان حوالي نصف الرواية، كفرد يعيش وضع المنطقة الراهن في ظلِّ ظرفٍ راهن، دون أيِّ شيءٍ آخر.
كلاسيكية السرد، وهي شيء لا يستوجب الذم، أبرزت كلاسيكية اللغة المُستخدمة أيضًا. هناك الكثير من السرد -الكثير المُرهق- أشبه بمن يُقلّب قنوات التلفاز على وثائقياتٍ مُخّتلفة عن حروب العالم العربي ومآسيه الحاضرة والماضية، دون أن يستقر على أيٍ منها.
تنتهي الرواية وتكتشف أن لا شيء مهمٌ من هذا كلّه، لا شيء يَعّلقُ في الذاكرة؛ لا اللغة ولا الأحداث التي كُتب عنها وقرأنا عنها روائيًا مرارًا وتكرارًا، لا يوجد فيها ما هو استثنائي أو جديد، ولا استثمار كافٍ في أيٍ من الشخصيات يعطيها أهميةً خارج سياق جُمان التي لا تستطيع شخصيتها حمل ثِقل زخم الرواية.
تدخل الشخصيات وتخرج، ورواية شهلا هكذا؛ تَقرأ وتَنجذب وتستمتع ثم تحتار وتمل ثم تنهي الرواية محاولًا الإمساك بما تبقى منها. هذا على الأقل ما فعلته بي، ولا أدري ما فعلته بلجنة تحكيم البوكر. «سماء قريبة من بيتنا» مشروع ملحمي طموح للغاية لو اعتُني به أكثر، لكن ليس في 350 صفحة من القطع المتوسط والخط الكبير.