نادين لبكي في «كفرناحوم»: محبوبة اللبنانيين وعقدة المخلّص

الإثنين 08 تشرين الأول 2018
لقطة من فيلم «كفرناحوم».

«حبيبة قلب اللبنانيين». لقبٌ لم يمنح رسميًّا لنادين لبكي، بعد. ولكن إن أجريتَ استطلاع رأي اليوم، فمن المرجّح أن تخلص إلى نسبة إجماع عالية على محبّة المخرجة، بشكل عابر للانقسامات المعهودة. محبّةٌ تُوّجت باختيار أحدث أفلامها «كفرناحوم» لتمثيل لبنان في الترشيحات الممهّدة لجوائز الأوسكار، عن فئة أفضل فيلم أجنبي.

منذ فوز العمل بجائزة «لجنة التحكيم» في مهرجان «كان» أواخر مايو/أيار الماضي، وأنشودة الافتخار بلبكي تتصاعد وتيرتها، حتى بلغت ذروتها خلال الأيام الماضية، مع تسابق الشخصيّات العامّة من فنانين وإعلاميين وسياسيين للمشاركة بعرض الفيلم الأوّل في بيروت، واندفاعهم لتسطير آيات التأثّر بالعمل، وحلول المخرجة ضيفةً على معظم البرامج الحواريّة الرئيسيّة، وتصدّر الفيلم النقاشات على مواقع التواصل. احتفاء وطني «أوبراليّ» شامل، لم يشهد له البلد مثيلًا منذ رحلة المغامر اللبناني مكسيم شعيا إلى القطب الشمالي (2009). احتفاء بلغ مستوًى تاليًا تشعرين معه أنّ عليكِ أداء التحيّة لملصق الفيلم الرماديّ المزرقّ، قبل دخول صالة السينما.

مشاهدة الفيلم «واجب وطني»، لا مفرّ، وإن كانت الأصداء النقديّة الرزينة حوله منذ عُرض في «كان» غير مشجّعة. في الغارديان مثلَا، يأخذ بيتر برادشو على العمل سذاجة نهايته، بالرغم من «طاقته ونشاطه».

يمنح الفيلم البطولة لناس القاع، وتحديدًا لطفل اسمه زين، من عائلة معدمة، كثيرة الأولاد، وبلا أوراق ثبوتيّة. يتقاطع مصيره مع مصير راحيل، وهي عاملة أثيوبيّة من ضحايا نظام الكفالة، لا تملك أوراقًا رسميّة للبقاء على الأراضي اللبنانيّة، لذلك تعمل وتعيش متخفيّة بهويّة مزوّرة، محاولةً تدبّر معيشة رضيعها يوناس، المولود بلا زواج. يسرد الفيلم قصّة وصول زين إلى سجن الأحداث، ومنه إلى قوس المحكمة، ليرفع دعوى على أبويه بتهمة إنجابه. مقولة الفيلم واضحة، ولا مواربة فيها، وهي مهما حاولنا تجميلها وتحسينها وترتيبها، لن تكون أقلّ فجاجة من التالي: الحقّ أقول لكم، لن تنتهي مآسي العالم، ما لم يتوقّف الفقراء عن التكاثر.

أيديولوجيا الأمومة و«التعتير»

في جريدة النهار، كتب هوفيك حبشيان: «تكفّلت النيّات بجزء كبير من هذا الفيلم وأوصلته إلى حيّز الأمان. أما السينما، فبحثٌ آخر قد يفتح نقاشًا أوسع وأكثر تعقيدًا. مرّة جديدة في السينما اللبنانية، كما عند لبكي، نحن أمام فيلم سياسي بلا بُعد سياسي. بيئة بلا أنثروبولوجيا، مدينة من دون عمق، بشر بلا امتداد، حد أنّ مجمل الفيلم يمنح الانطباع أنّه يعوم في الفضاء».

وفي المدن كتب شفيق طبارة: «يلائم فيلم لبكي، بمثاليته، قوالب جمعيات الأمم المتحدة الجاهزة. ولا يبدو أن المخرجة مهتمة بالقصص التي ترويها في كفرناحوم ولا حتى بالسياق الاجتماعي والمكاني للبلد بقدر اهتمامها بتحريك عواطف المشاهدين. في هذا الفيلم، تتراكم القصص، لكننا نبقى على السطح، لا ندخل في تفاصيلها لأنها كثيرة التشعّب (…) بهذه المقوّمات بات كفرناحوم أشبه بالأفلام الوثائقية التي تستخدم لحملات التوعية عن الفقر في العالم الثالث، بل إنّ هناك نوعًا من نهج وثائقي مزيف، وهذا الاستنتاج تكرّس أكثر بنزوع مخرجة العمل إلى الموعظة».

المشكلة مع أفلامٍ مثل كفرناحوم، أنّكِ تخرجين منها بشيء من الخواء، ورغم كلّ مشهديّات البؤس، لا تحملين معكِ من هموم الشخصيّات شيئًا يذكر

فيلمٌ يعوم في الفضاء، روائي بطابع وثائقي، كإعلان لإحدى حملات الأمم المتحدة عن أطفال العالم الثالث. هذا باختصار، ما يمكن الخروج به من فيلم يمتدّ لساعتين. ساعتان، ولا نجد شيئًا لنضيفه على ما كتب، ولا حتّى مزيدًا من الإشادة بالطفلين في الدورين الرئيسيين. دقائق الشريط الترويجي القليلة، تكفي لنفهم كم أنّ زين ويوناس مهضومان -مع أنّهما فقيران معدمان ومتّسخان، والله!- ولا حاجة لمئة وعشرين دقيقة إضافيّة لتصل الفكرة.

طفلان على قدرٍ عالٍ من الجمال وخفّة الدمّ، يعيشان في الواقع ظروفًا تتقاطع مع قصص الشخصيَّتيْن التي يلعبانها، من فقر وإهمال ومستقبل مجهض. من يمكن أن يقول لا للطفولة وإيديولوجيا الأمومة والتعتير؟ أيّ حقير بلا قلب؟ ما المشكلة مع الأطفال تحديدًا؟ لا مشكلة مع الطفولة المسحوقة، ولا مع نوايا المخرجة الطيّبة، ولا مع خيارها بأن تتطابق رؤيتها للفنّ مع رؤى حملات التوعية حول تحديد النسل، ولا مع اختيارها عنوانًا ملحميًّا بترميز دينيّ لفيلمها، لا يمكن أن يختصر إلا كمّ الادعاء الفكري الذي يحمله. فعنوان الفيلم مأخوذ من اسم قرية فلسطينية ورد ذكرها في الإنجيل، ويستخدم اللفظ في إحالاته الفنيّة والأدبيّة، للإشارة إلى الاضطراب والفوضى.

المشكلة مع أفلامٍ مثل كفرناحوم، أنّكِ تخرجين منها بشيء من الخواء، ورغم كلّ مشهديّات البؤس، لا تحملين معكِ من هموم الشخصيّات شيئًا يذكر. لا تخرجين من الفيلم «أبو الجوائز» إلا بدوار، وبسؤال وحيد يتردّد في رأسك: أيعقل أنّي فوتّت اكتشاف اكسير النجاح في هذا العمل؟ هل أنا بلا إحساس لأنّي لم أبكِ ولم أتأثّر ولم أقف تصفيقًا لربع ساعة متواصلة؟

محبوبة زمن الفيديو كليب

حفلة المحبّة الجامعة تجاه نادين لبكي، ليست ظاهرةً مستجدّة، وإن بلغت مستوىً جديدًا مع فوز كفرناحوم بجائزة في كان. أمرٌ أقلّ من معتاد في ظلّ الهوس اللبناني بالعالميّة كمشروعيّة قصوى للجهد، واعتراف نهائيّ غير قابل للنقاش بجدوى العمل الفنيّ.

بدأت صورة لبكي العامّة كـ«محبوبة اللبانيين» تتشكّل في الثقافة الشعبيّة، منذ بروزها على الساحة من باب إخراج الفيديو كليب قبل 15 عامًا تقريبًا. دخل اسمها إلى كلّ بيت في زمن قنوات ميلودي الجميل، زمن ما قبل يوتيوب، وما قبل فورة الـ«ـستريمنغ». قدّمت فيديوهات ناجحة، وساهمت بصناعة نجوميّة نانسي عجرم في أفلام غنائيّة قصيرة مثل «أخاصمك آه» (2003)، و«آه ونصّ» (2004)، «وإنت ايه» (2005)، وأعادت اختراع كارول سماحة في «حبيب قلبي» (2003)، و«اطلع فيّ هيك» (2004). أرست لبكي نمطًا مغايرًا لما كان سائدًا. أدخلت الاهتمام بالتفاصيل، بالألوان، بالأزياء، بالقصّة، بالشخصيّات، إلى نوعٍ فنّي طغت عليه لسنوات طويلة المؤثّرات البصرية الاعتباطيّة. بدت كمن يحمل «شيئًا حقيقيًّا ما».

حفرت الأعمال الغنائيّة القصيرة مكانةً مستحقّة للبكي في الذاكرة البصريّة، ومنحتها شهرة مهّدت لاكتمال هالة «المحبوبة». كان الفيديو كليب -كفنٍّ ناقص أو غير معترف به أو ثانويّ- متنفسًّا لجيل من المخرجين الجدد المحرومين من الإنتاج السينمائي، أبرزهم لبكي، وجاد شويري، والراحل يحيى سعادة (1975 -2010). حين ذهبت لبكي إلى مهرجان كان للمرّة الأولى بفيلم «سكّر بنات» (2007، عرض في «أسبوعَيْ المخرجين»)، رافقها مزاجٌ تشجيعيّ جارف. كنّا نحكي عنها كأنّها بنت الجيران أو زميلتنا في الجامعة، تحقّق حلمها بعرض أوّل فيلم روائي طويل من إخراجها في أعرق مهرجان سينمائيّ، وإن لم تدخل المسابقة الرسميّة، بعد سنوات من الانتظار والتعب والمحاولة و«بعزقة العمر» في الكليبات والإعلان. وبموازاة شبه الإجماع النقديّ على اعتبار باكورتها «فيديو كليب طويلًا»، يجمع قصصًا متقاطعة ومتفاوتة القسوة لنساء لبنانيّات من أعمار وطبقات مختلفة، لم يبحث أحد عن تحميل التجربة الأولى ما لا تحتمله.

ضيعة الرحابنة الزائفة

في فيلمها الثاني، «وهلأ لوين» (2011)، تحرّرت نادين لبكي من آثار الفيديو كليب، لتُدخِل شغلها السينمائي في أسر الأقاصيص والحكم الشعبيّة والعبر. العمل قصّة قرية متخيّلة هي النسخة الزائفة من ضيعة الرحابنة، حيث النساء متشحات بملابس الحداد، والحرب على الأبواب، والمسلمون والمسيحيّون يحاولون أن يحبّوا بعضهم البعض، مع رشّة حشيشة، من باب ضرورة تحطيم أصغر تابو. جاء عملها الثاني المثقل بالعبر والحِكَم، كنتيجة طبيعيّة للتوقّعات العالية منها. كأنّ هناك من كان يطالبها بتقديم نفسها كمخرجة/مؤلّفة عميقة، كصاحبة فلسفة، كسينمائيّة قادرة على الذهاب أبعد من أطروحة الأفلام الغنائية القصيرة، كفنانة تحمل «هموم الأمّة» وهواجسها.

كلّ ذلك كان مفهومًا في سياق تعاظم صورتها العامّة كحبيبة قلب اللبنانيين التي نحكي عنها هنا. فلا هي مخرجة مثقّفين ويسار ونضالات، أفلامها بسيطة ومتحرّرة من إرث ما يعرف بسينما الحرب؛ ولا هي صانعة أفلام هابطة كتلك النسخ المطوّلة المبتذلة من الدراما التلفزيونيّة المحليّة. يضاف إلى ذلك أنّها أيقونة جمال وموضة ونجمة أغلفة، تشارك في لجان تحكيم ملكة جمال لبنان، لا انحيازات سياسيّة أو فكريّة واضحة لها، وحين تدخل معترك الشأن العام، فمن باب لائحة بيروت مدينتي كممثّلة المجتمع المدني في الانتخابات البلديّة عام 2016. بمعنى أنّنا حين سمعنا رأيها السياسي، كان تنويعًا على الخطاب السياسي الناشطيّ الزائف، أو اللاسياسي في الجوهر، أيّ ضدّ جميع من في السلطة، ولكن مع تجهيل المسؤوليات ونفيها عن الجميع أيضًا، عبر تفادي التعيين والتخصيص.

حسنًا، يبدو أنّ هناك من يعيش معنا في البلد ذاته، ولم يسمع، قبل فيلم كفرناحوم، أنّ هناك أطفالًا من سكّان لبنان، لا يأكلون إلا أكياس الشعير المجفّف

الخطاب اللاسياسي ذاته، يمتدّ إلى شغل لبكي السينمائي، ما يجعلها ممثلّة منطقيّة لوزارة الثقافة وربما سفيرة اليونيسف في المستقبل. فباستثناء تبنّي مقولة حماية براءة الأطفال من مشاكل الكبار، كموضوع رئيسي في فيلميها الطويلين الثاني «وهلأ لوين؟» والثالث كفرناحوم، لا نعرف من مواقف المخرجة من «القضايا والأفكار» شيئًا، تمامًا كجميع الفنانين «اللاسياسيين»، ممن يخشون إعلان موقف قد يؤثّر على حظوظ تواجدهم في دائرة رضا أهل القرار.

عند صدور كفرناحوم في الصالات الأسبوع الماضي، كانت الأرضيّة جاهزة لوضع أيّ نقد يوجّه للعمل، في خانة الحقد والتحامل. كيف لا والعمل لا يمكن أن يستفزّ أحدًا؟ كيف لا وكلّ تفصيل موظّف بدقّة لنصل إلى «الذروة الدراميّة» التي تلخّص عبرة الفيلم، حين يسأل القاضي زين «لماذا تريد مقاضاة أهلك؟»، يردّ «لأنّهم خلّفوني». لا أحد منّا يولد بخياره. مسألة فلسفيّة غير جديدة على الفنّ. لكنّ كفرناحوم يضعها في مكان آخر، مذكّرًا بما فعله بعض الإعلام اللبناني خلال السنوات الأخيرة، حين راح يعدّ أرقام الحوامل من اللاجئات السوريّات.

لا يبحث الفيلم في خيار الإنجاب الوجودي، والذي تواجهه كإنسان سواء كنت فقيرًا أو غنيًّا، مؤهّلًا أو غير مؤهّل. يبحث الفيلم في «أزمة تكاثر الفقراء كالجرذان». لا أحد مسؤول هنا، باستثناء الفقراء أنفسهم، لا الدولة، ولا سياسات تعزيز اللاعدالة الاجتماعيّة، ولا الإفقار الممنهج، ولا هيكليّة المؤسسات الراعية المتهاوية. المأساة هنا منزوعة من سياقها، في فيلم مجوّف، مفرغ من السياسة، رغم ما يحمله من ادعاءات المبالاة، والاهتمام، والتأثّر، وفوق ذلك «الرسالة الهادفة».

لون بيروت وفلاتر إنستغرام

في مقابلة أجرتها مع موقع فايس عربيّة، تقول لبكي: «كنا في فترة التحضير للفيلم عندما قررنا كتابة كل المواضيع التي نريد مناقشتها في السيناريو على لوح كبير: الفقر، اللجوء، العاملات الأجنبيات، البطالة، السجون، زواج القاصرات، الاتجار بالبشر (..) بعدها نظرت إلى اللوح وقلت: هذا كفرناحوم إنه الجحيم». غرفت لبكي مواضيع فيلمها من جحيم الواقع، ولا غرابة في ذلك. الغريب أن تكتب فيلمًا سينمائيًّا، كأنّه مشروع لحملة دعائيّة ذات طابع إنساني، وأن تختار المواضيع والخطوط العريضة أوّلًا، ثمّ «تركّب» السرد والشخصيّات من حولها. لنقل إنّ هذا خيار لبكي الفنّي، وهي حرّة به، بغضّ النظر إن كان مقنعًا أم لا، إن كان نواةً لسينما جيّدة أم لا، إن كان ملهمًا أم لا. الأغرب هي الصدمة في ردود الفعل المحتفية بالفيلم، كأنّنا أمام معطًى مستجدّ، في حين أنّ المواضيع المختارة تكثيف حكائي لنشرات الأخبار اليوميّة، وللبرامج الاجتماعيّة الأسبوعيّة. حسنًا، يبدو أنّ هناك من يعيش معنا في البلد ذاته، ولم يسمع، قبل فيلم كفرناحوم، أنّ هناك أطفالًا من سكّان لبنان، لا يأكلون إلا أكياس الشعير المجفّف، وأن نسب زواج القاصرات في تصاعد مقلق!

تقول لبكي في مقابلاتها المواكبة لانطلاقة الفيلم، إنّها «نزلت» إلى الشارع عند التصوير، وعاشت في المناطق الفقيرة، واختلطت بأطفال البؤس، وباتت تفهم الواقع المرير كما هو عليه من دون تزيين، ولا غرابة في ذلك. الغريب هو المصفاة التي اختارت أن تضعها بين عدستها السينمائيّة، وبين شخصيّات الواقع وأماكنه. معظم لقطات العمل ضيّقة، وتركّز على الوجوه والأقدام. تدور الكاميرا أغلب الوقت في أماكن مغلقة حدّ توليد شعور بالاختناق. لكن من السهل أن نتعرّف على مواقع التصوير الخارجيّة، في أحياء النبعة، وبرج حمود، والدورة، وسوق الأحد، وتحت بعض الجسور المعروفة في ضواحي العاصمة، وفي مدينة الملاهي على المنارة. من يعرف تلك المواقع، أقصد من لم يكتشفها للمرّة عند عرض الفيلم، سيفهم مكمن الغرابة: كأنّ هناك من سحب الألوان كما نراها بالعين المجرّدة، وطرش كافّة لقطات الفيلم، بتلوين مائيّ رماديّ اللون.

لسبب ما، يسود اعتقاد أنّ كلّ ما هو رماديّ وبائس، تمثيل «واقعيّ» للواقع. في حين أنّ ذلك اللون الرماديّ، فاضح بكلّ المقاييس للعين المتعالية المستشرقة.

حين ينعكس الضوء على الجدران والوجوه في أحياء بيروت «السفليّة»، يأخذ تدرّجات عدّة من الوردي الفاتح إلى الأصفر، بحسب ساعات النهار. أمّا المصفاة الرماديّة المزرقّة تلك، فيبدو أنّها لون المكان كما اختارت أنّ تؤوّله عدسة الفيلم. كأنّه فلتر من فلاتر إنستغرام التي يمكن أن تعكس الحالة النفسيّة لمن يلتقط الصورة. وخلف فلتر كفرناحوم، يبدو الهامش، رماديًّا، خانقًا، داكنًا، متسخًا. يجرّد فلتر لبكي فضاء الفيلم من أبعاده المتعدّدة، ليختار بعدًا واحدًا، يخدم الفهم الضيّق وذا اللون الواحد لفكرة المأساة.

المدينة هنا مجسّم كرتوني ضخم، وضعت فيه مجموعة من الجرذان المتناحرة. بيروت التي لا يسمّيها الفيلم بوضوح – باستثناء ذكر بعض أحيائها – ليست عاملًا محوريًّا في لعبة سحق الشخصيّات، كما هي في الواقع. داخل علبة الكرتون تلك، يمكننا التفرّج على الفقراء من فوق، وسط ديكور من زبالة، وتنك، كاوتشوك، وزواريب ضيّقة، وضوضاء، وغبار. إكسسوار خارجي لا علاقة له بمأساة الشخصيّات الرئيسيّة، لا دور له سوى في تظهير اتساخهم.

لا بدّ أن يكون لون البؤس رماديًّا، من خلف عدسة لا تفهم كنهه. لسبب ما، يسود اعتقاد أنّ كلّ ما هو مكفهّر، يرتفع درجةً على سلّم الجديّة والعمق. وأنّ كلّ ما هو رماديّ وبائس، تمثيل «واقعيّ» للواقع. في حين أنّ ذلك اللون الرماديّ، فاضح بكلّ المقاييس للعين المتعالية المستشرقة. أمّا الجانب الآخر من المدينة، أي بيروت خارج كرتونة الجرذان، بيروت غير المتسخة، بيروت غير الرمادية، فلا يظهر في الفيلم على الإطلاق. كأنّ الحدث لا يدور داخل مدينة تتجاور فيها الفوارق الاجتماعيّة بشكل فاقع وفاضح، بل داخل فقاعة من التنك، يُرسل الأطفال الفقراء إليها ليعذّبوا. الأمكنة الوحيدة خارج هذه الدوّامة، كما نراها في الفيلم، هي المحكمة والسجن. طبعًا، فدراما البؤس لا بدّ أن تمرّ على الشاشة بثلاث أماكن فقط: الشارع، المحكمة، السجن. يبدو أنّ التصاق لبكي بموضوعها، لم يكن كافيًا لتتجنّب الاختزال والتنميط.

التمرّغ بوحول الواقع

إن كان «كفرناحوم» توثيقًا ليوميّات «بؤساء بيروت»، فإنّ توثيقه للواقع مجتزأ. يقدّم العمل مفهوم الفقر كحالة تتوارث جينيًّا في العائلات غزيرة الإنجاب. المهاجرة الإثيوبيّة راحيل بدورها، ليست ضحيّة منظومة وقوانين تسهّل الاسترقاق الحديث، بل ضحيّة المهرّب أسبرو ولا أحد سواه، إذ يبتزها بتجريدها من هويتها المزوّرة، مقابل بيع رضيعها يوناس لعائلة ثريّة. أمّا رجال الأمن، والمحامية، والقاضي، وكلّ «الناس من خارج القاع»، فهم الأخيار المنقذون. هم جزء من الحلّ، وليسوا بأيّ شكل جزءًا من المشكلة التي يطرحها العمل.

وإن كان العمل توبةً عن أقصوصة «هلأ لوين» الخياليّة، وعوالم فيلم «كراميل» الورديّة، عبر التمرّغ ببؤس الواقع، فإنّ اختيار الخيال أو الواقع لم يكن يومًا وصفةً جاهزة لصناعة السينما الحقيقيّة القاسية الملهمة. الفرق كلّ الفرق بمقاربة كلّ حالة منهما، وكيفيّة توظيفها ضمن رؤية الفنان للعالم. ويبدو أنّ رؤية لبكي للتلوّث بوحول الحياة، لا تعدو عن كونها تقديم فيلم هو باختصار عظة حول تحديد النسل. ولا نبالغ إن قلنا، أنّ رؤيتها للواقع، تشبه رؤية الناظر باستشراق إلى أبناء جلدته. رؤية تختار مقاربة الفقر بما يتوافق مع الخانات المسبقة الجاذبة للترشيحات والجوائز.

إن كان الفيلم عملًا فلسفيًّا، يطرح مسألة أخلاقيّة الإنجاب في عالم اليوم، فلماذا يسأل السؤال للفقراء حصرًا

وإن كان الفيلم عملًا فلسفيًّا، يطرح مسألة أخلاقيّة الإنجاب في عالم اليوم، فلماذا يسأل السؤال للفقراء حصرًا؟ ما الحجّة التي قد تجعل ميسوري الحال أجدر بالإنجاب، وأحقّ بالتكاثر والحفاظ على ديمومة الجنس البشريّ؟ فإمّا أن تكون فكرة الإنجاب بحدّ ذاتها فعلًا نرجسيًّا وعنيفًا، بغضّ النظر عن طبقة من يتكاثر، أو أنّ عبرة الفيلم، تفقد اتساقها.

وإن كان الفيلم عملًا عن أهميّة المبالاة بأوجاع الآخرين، كفعل سياسيّ، فإنّ مفهوم المبالاة كما يطرحه، يبدو زائفًا، مجرّدًا من الاحتجاج. فأيّ مبالاة تلك التي لا تستفزّ أحدًا في موقع المسؤولية، لا بل تدفع الطبقة الحاكمة لتبنّي الفيلم كممثّل «للدولة»، وكمدعاة للفخر؟

كلّ هذه التكهّنات تجد إجابتها الشافية في أحد مشاهد كفرناحوم الأخيرة. تدخل كاميرا لبكي إلى مركز احتجاز، حيث تُجمّع العاملات المهاجرات في غرف ضيّقة خلف القضبان، وتجلسن بالمئات على الأرض، بانتظار مصيرهنّ. بينهنّ راحيل تبكي، لأنّها لا تعرف شيئًا عن مصير رضيعها. لا نعرف أسماء الأخريات، ولكن نستنتج أنّ قصصهنّ لا تختلف كثيرًا. يصل فريق من الناشطين الخيريين، يحملون ألعابًا، وآلات موسيقيّة، ويقفزون، ويغنون، ويرقصون ببهجة مهرّجي السيرك، أمام القضبان. تتبرّع كبيرة السنّ بينهم لفتح حديث مع الموقوفات، وتعرّف عن نفسها كراهبة، وتقول إنّها ومجموعتها هنا للتواصل معهنّ، والتعرّف على حاجاتهنّ. في الجانب الموازي لرقصة الفرح تلك، وجوه تنظر في الفراغ، ولا تظهر أيّ تفاعل، باستثناء إخفاء العيون خلف الأكفّ. يأخذنا الفيلم بيدنا نحو ردّ الفعل المطلوب والصائب من تلك المشهديّة غير العادلة، ويخبرنا ما علينا أن نحسّ تمامًا: النقمة على سطحيّة ووقاحة المجموعة الإنسانيّة الهاجِزَة، والتي تتعاطى مع السجينات كأنهنّ قِرَدة في قفص. مشهد كفيل بفهم حجم التناقضات في مقولة الفيلم. في جوهره، لا يختلف كفرناحوم كثيرًا عن أداء فرقة الرقص تلك. على مدى ساعتين من الوقت، يجرّد الفيلم أطفالاً ونساءً من إنسانيّتهم، بداعي الدفاع عن الإنسانيّة. يفعل ذلك من دون أيّ هدف واضح، باستثناء إرضاء عقدة المخلّص عند صنّاعه.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية