ألوان فريد الأطرش وتطوير الموسيقى العربية

الخميس 21 نيسان 2016

بقلم شيرين عبده

المزج بين الموسيقى العربية والموسيقى الأوروبية الكلاسيكية أو الغربية باختلاف أنواعها كان أحد سمات الكثير من المشاريع الموسيقية العربية الهامة، بداية من سيد درويش، وإدخاله قوالب الألحان الأوروبية في أغانيه واستعارته للجمل اللحنية والمقامات وطريقة الغناء المميزة لها، مرورًا بجيل الملحنين المجددين -قياسا إلى عصرهم- كان من بينهم فريد الأطرش.

مرّ فريد الأطرش خلال طفولته بعدة أحداث درامية مثيرة كان لها أثرها الملموس على تكوينه الموسيقي. من بينها أن أمّه الأميرة علياء المنذر السورية كانت نقطة البداية والتأثير الأكبر على تكوينه الموسيقيّ. وسرّ هذا أن الأمراء والأميرات في ذلك العهد كانوا يتعلمون كافة أنواع الفنون ومنها الموسيقى والعزف على الآلات وتحديدا العود، وكانت الأم تتقن الغناء ولجأت له كمصدر رزق حين تعسرت أحوال الأسرة المادية. من هنا، دخل فريد عالم الغناء في الملاهي الليليّة بمصر. كما أثّرت إقامته في لبنان خلال طفولته على وعيه الموسيقيّ، حيث أتى لبنان مع عائلته هاربًا من بطش الاستعمار الفرنسي،  فانطبع الفلكلور اللبناني داخل أذنه ووعيه.

بدأت مسيرة فريد الموسيقية بعدم تمكنه من أداء اختبار معهد الموسيقى الشرقي، وهو الأمر الذي حرمه من تعلم الموسيقى بشكل أكاديمي، فتعلم بعدها العود على يد فريد غصن والقصبجي والسنباطي. ثم استدعاه أحد رواد الموسيقى المصرية مدحت عاصم ليبدأ التعاون الفني، بغناء فريد لألحانه على قالب التانجو (كرهت حبك، من يوم ما حبك فؤادي، ميمي) وقالب الرومبا (مقدرش). ولعل هذه الجرأة في استيراد القوالب الموسيقية غير العربية هي ما أسس الرغبة في التجديد عند فريد لاحقًا، وإن مارسها في إطار مختلف آخر.

بدأ في محطة تالية استخدام الموسيقى الغربية والأوروبية كقالب لتلحين القصائد العربية الفصحى وهو ما اعتبره الكلاسيكيّون ثورة عارمة على التقليدي، ونافسه في ذلك محمد عبد الوهاب، ومن تلك القصائد قصيدة يا زهرة في خيالي، وعدت يا يوم مولدي.

فلسفة فريد الأطرش في التلحين كانت تقوم على أن الألحان هي ترجمة مطابقة للكلمات، متبنيا قضية تخليص الغناء العربي من التطريب التركي والتطويل الممل

فلسفة فريد الأطرش في التلحين كانت تقوم على أن الألحان هي ترجمة مطابقة للكلمات، متبنيا قضية تخليص الغناء العربي من التطريب التركي والتطويل الممل، رغم أن ألحانه للقصائد العربية الفصحى في شكل الأغنية الطويلة ذات المقدمة الموسيقية والجسم والخاتمة لم تخل من هذا التطويل وكانت أقل أعماله نجاحًا جماهيريًا في مقابل أغانيه القصيرة بمختلف اللهجات.

الامتزاج بين الألوان الموسيقية السورية واللبنانية والمصرية لدى فريد ترك أثرًا واضحًا يمكن لأي مستمع أن يلمسه في أغانيه القصيرة. ومزْج فريد الفلكلور الذي ورثه من هذه البلاد في ألحانه وإضافته إليها شخصيته اللحنية المتميزة أنتجا جملًا لحنيّة شديدة الأصالة والمصرية، ولكنها ذات إيقاعات وأثر شامي.

في الأغاني القصيرة، حملت إيقاعات الأطرش في روحها الدبكة وإيقاعات الأغاني الشعبية الشامية الثلاثية الوحدة في قالب رباعي النغمات، مثل (فوق غصنك يا لمونة، وتؤمر عالراس وعالعين، وسنة وسنتين)، في حين حمل بعضها إيقاعات مصرية جدًا. ويمكن القول بأن فريد له أغان أكثر مصريّة من حيث الأصالة واستلهام روح الفلكلور المصري من ملحنين مصريين نافسوه في هذه المنطقة، ومن هذه الأغاني (نورا، يا جميل، جميل جمال، ماقالي وقلتله).

يمكن تلمّس عبقرية فريد في كون الفلكلور في ألحانه صعب الفصل جدًا عن الجمل اللحنية للأغنية، رغم إنه يمكن للمستمع المتمرّس تمييز الجمل اللحنيّة عن جمل الفلكلور في أعمال ملحن قدير كبليغ حمدي.

كما حملت ارتجالاته الصوتية روح الميجانا والعتابا، وهما فنّا الموّال الشاميّان اللذان نشأ فريد على سماعهما من أمه. وفي المقابل، حملت التقاسيم اللحنية على العود الروح المصرية من حيث المقامات والنقلات بين فروعها.

أما عن قضيته المتبناة، وهي المزج بين الموسيقى العربية/الشرقية والموسيقى الأوروبية/الغربية، مع الحفاظ على هوية الأولى، فقد نجح فريد بجدارة في الحفاظ على سطر الغناء النغمي شرقيًا بين المقامات المصرية والشامية، بينما تنوعت الإيقاعات المصاحبة الغربية بين التانجو والرومبا والفالس مثل (وياك، يا زهرة في خيالي)، مع الاحتفاظ بتوزيع النغمات المصاحبة غربيًا عن طريق الأوركسترا المصاحبة.

ما يجمع بين كل هذه المراحل هو أن المستمع لا يزال قادرًا على تمييز أن هذا اللحن لفريد، ويكاد يسمعه مغنيًا إياه.

المحطة التالية في مسيرة فريد شملت تغييرًا لشخصيته الموسيقيّة كلما لحن لمطرب جديد. ففي حين أنه كان يلحن لأخته أسمهان كما يلحن لنفسه، لدرايته بصوتها ولتطابق خلفياتهما الموسيقية، ظهرت شخصية أخرى مع تلحينه لوديع الصافي (على الله تعود)، حيث صرّح الأطرش أنه لحنها طبقًا للخصائص الوديعية للصوت، ومال فيه لاستغلال قدرات صوت وديع الرخيم العريض التعبيرية الفائقة. وظهرت شخصية ثالثة عندما لحن لصباح (يا دلع دلع، أكلك منين يا بطة) ولفايزة أحمد (يا حلاوتك يا جمالك)، إذ قدّم ألحانًا خفيفة مصرية رغم اختلاف جنسية مغنيها، أو طربية مصرية المقامات والنقلات الموسيقية والتوزيع. وفي المحطة التالية بدأ في تلحين الدويتوهات مع شادية وصباح ونور الهدى.

ما يجمع بين كل هذه المراحل هو أن المستمع لا يزال قادرًا على تمييز أن هذا اللحن لفريد، ويكاد يسمعه مغنيًا إياه.

موسيقى فريد لم تكتفي بالمحلية العربية، بل انطلقت عبر الأقطار ليقتبس منها ويغنيها فنانون عالميون مثل إنريكو ماسياس، ومايا كازابيانكا الجزائرية الفرنسية، وفرانك بورسيل الذي اتفق معه على إعادة توزيع أعماله بشكل أوركسترالي لتقديمها للجمهور الأوروبي، في تأكيد لوصول فريد إلى رسالته بحفظ الموسيقى العربية وتحديثها في آن.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية