يتشارك معظم المؤلفين على هذه القائمة مجموعة ميزات، منها التوثيق والنشر شبه المنعدم لأعمالهم، وندرة التسجيلات الاحترافية. كما يجمعهم أن موسيقاهم تعيش على هامش الوعي العربي أو خارجه كليًا، وذلك لعدة أسباب منها طبيعة البيئة التي عاشوا فيها، حيث كان من الفترض بالموسيقى أن تبدو إما «شرقية» أو على الأقل ملتزمة بشكل ما أو بشيء ما متفق عليه جماعيًا، أي متناسبة مع الرواية الكبيرة المطروحة حول الشرق. أما الموسيقى الكلاسيكية التي ظلت تعامل كنوع من الرفاهية المستوردة والعابرة، فقد رمت بأتباعها إلى خانة بديلة من تاريخ العالم العربي، والتي ربما أصبحنا جاهزين اليوم للعودة إليها.
في النهاية، لا يمكننا تجنب الحقيقة الحزينة بأن معظم هؤلاء المؤلفين ظلوا وراء الركب العالمي لعصرهم، لكن هذا لا يمكن، بأي شكل، أن يقلل من مساهماتهم الجبارة، التي أسست لأجيال من الموسيقيين العرب، وتمت في أوقات صعبة وجدوا فيها أنفسهم مضطّرين لأن يكونوا عازفين ومربين وإداريين وقادة أوركسترا في الوقت نفسه، إضافة إلى كتابة موسيقى كلاسيكية عربية من الصفر.
سلفادور عرنيطة (1914-1985)
كغالبية الأجيال الأولى للمؤلفين الكلاسيكيين العرب، ابتدأ المؤلف الفلسطيني مسيرته في كوادر تبشيريّة، وكاستمرار لتقليد مقدسيّ مارس الموسيقى الكلاسيكية بشكل شبه حصري لأغراض دينية. لكنه سرعان ما انتقل من عازف أورغن في كنيسة القيامة إلى طالب في أكاديمية سانتا تشيشيليا في روما، حيث درس في الثلاثينيات تحت إشراف ألفريدو كازيلا، أحد ألمع المؤلفين الإيطاليين مطلع القرن الماضي.
لدى عودته، كان المشهد يتغير بشكل متسارع، فالمهاجرون الجدد، الذين جاء بعضهم من أكثر أجواء أوروبا الموسيقية تقدمًا، أصبحوا يحتكرون الموسيقى الكلاسيكية في فلسطين، والتي بدأت تتخذ طابعًا صهيونيًا إقصائيًا، مما وضع الموسيقيين الكلاسيكيين العرب القلائل أمام أزمة فكرية وأخلاقية تتعلق بهوية الموسيقى الكلاسيكية بين إرث إنساني للجميع، وأداة غربية للهيمنة الاستعمارية.
وهكذا رمت النكبة بعرنيطة خارج وطنه. عمل بعدها في الجامعة الأميركية في بيروت، ومع أوركسترات عربية وعالمية في القاهرة وبيتسبورج وتانجلود، قبل أن يقضي أيامه الأخيرة في عمّان. أما عرنيطة المؤلف، فقد تبنى أسلوبًا أكثر محافظة من أسلوب أستاذه، مفضلًا القوالب الموسيقية الصارمة، ولغة أقرب إلى الرومانسية الألمانية القديمة. منتميًا إلى جيل إشكالي بعلاقته مع إرثه الشرقي، حيث تبدو أعماله إما غربية بالكامل، أو تحاول لصق ألحان شرقية على هارموني غربي مدرسي على الطريقة الاستشراقية للقرن التاسع عشر.
تشكل الحركة البطيئة من سيمفونيته الأولى لعام 1952 مثالًا على النوع الأول، وتظهر حرفية في نسج الأصوات المختلفة، وهارموني مثير للإعجاب بنضجه مقارنة بأبناء جيله من المؤلفين العرب. كما تلمّح الحركة إلى وعي عرنيطة بالتجارب الطليعية التي غزت أوروبا أثناء شبابه، حيث تبدو بعض ألحانه وكأنها على حافة اللامقامية* قبل أن تعود فجأة إلى المقام المخصص لها، وإلى شاعرية دافئة تذكر ببرامس.
حليم الضبع (1921- )
يشكل حليم الضبع حالة فريدة جدًا على هذه القائمة لانتماءه إلى إحدى أكثر التيارات التجريبية تميزًا في القرن العشرين. فمنذ شبابه، كانت القاهرة مسقط رأسه تعيش عصرها الذهبي كالقطب الأول للحداثة في العالم العربي، ومعها عاش المؤلف الشاب بيئة غنية اختلطت فيها موسيقى سيد درويش وعبد الوهاب بتسجيلات شونبرج وفاريز، وتزامن فيها انتشار الراديو مع استقطاب القاهرة لبعض من أبرز الشخصيات الموسيقية لعصرها، مثل الهنجاري بيلا بارتوك الذي التقى به الضبع، على الأغلب، في المؤتمر الأول للموسيقى العربية عام 1932.
عام 1944 سجل الضبع مقتطفات صوتية من «الزار»، وهو طقس شعبي مصري يستخدم الموسيقى والرقص لطرد الجن والشياطين، ومن ثم عالج المادة الصوتية لصياغة فضاء موسيقي غريب في تجربة غير مسبوقة على الإطلاق. عُرض عمل تعابير الزار في إحدى الفعاليات الثقافية في القاهرة ليصبح أول تجربة في مجال ما سمي لاحقًا بالموسيقى الخرسانية**، التي تقوم على التسجيلات المسبقة كمادة أولية للمعالجة بدل الألحان التقليدية.
بحدود أواسط القرن، كان المؤرخون قد بدأوا بالاحتفاء بالفرنسي بيير شيفر كمؤسس للموسيقى الخرسانية، متجاهلين تجارب الضبع التي سبقته بسنوات، ربما لأنه تأخر في وضع أسس نظرية واضحة لأعماله، وربما لأن تجاربه تمت في وقت كان فيه الأوروبيون يحتكرون الطليعية والتقدمية في مجالات الفن. أما الضبع، فقد انتقل إلى الولايات المتحدة عام 1950 ليصبح سريعًا جزءًا من المشهد في نيويورك وجامعة كولومبيا، حيث تعاون مع غيره من الطليعيين الأميركيين مثل جون كيج. أما أعماله، فامتازت بتأثره العميق بالموسيقى المحلية، وبخيال واسع يبحث عن الجديد في الصوت كما في القصص المميزة لأعماله، يشهد على ذلك شريطه ليلى والشاعر، المستوحى من قصة ليلى العامرية وقيس بن الملوح الشهيرة.
توفيق سكر (1922- )
ولد الموسيقي اللبناني في طرابلس، وبدأ دراسته في بيروت على يد مجموعة من الفرنسيين الذين أسسوا للحركة الموسيقية اللبنانية. أصبح في عام 1952 من أوائل المؤلفين العرب الذين تخرجوا من المعهد العالي في باريس. بعد عودته إلى بيروت، وجد سكر نفسه أمام حركة موسيقية أكاديمية بحاجة لدواعم وطنية والكثير من التطوير، فخاض مسيرة تربوية متعبة ومتعددة الأوجه على رأس الكونسرفتوار الوطني للموسيقى.
تعمق سكر في الموسيقى الشرقية والترانيم المارونية بقدر تعمقه بالعلوم الكلاسيكية من هارموني وتوزيع وبوليفونية (أي تعدد الألحان). ومنذ بداية مسيرته كما في موسيقى فيلم إلى أين، كان سكر من القلائل الذين حاولوا إدخال أرباع الأصوات التي تميّز الموسيقى الشرقية في قطع متعددة الأصوات على الطريقة الكلاسيكية، مما عرّضه إلى الكثير من الهجوم. لكن بعض هذه الأعمال مثل متتاليته اللبنانية لرباعي وتري أبقت ربع الصوت ضمن ذات القوالب الفولكلورية، وبدت أقرب للدراسة النظرية، أو كتركيب لهارموني غربي أكاديمي على ألحان عربية بحتة، مما ساهم في الحد من انتشارها بعكس النماذج المتزامنة التي ظهرت في شرق أوروبا.
تغطي تجارب سكر طيفًا واسعًا من الأساليب الموسيقية، فعمله الفريد أقصاق سيما يشكّل مثلًا حالة تاريخية نادرة من الأعمال العربية اللامقامية، ويمزج بين إيقاعات الأقصاق المستخدمة في الموسيقى الشرقية وبين التعبيرية المظلمة لمؤلفي مدرسة فيينا الثانية. النتيجة غير المألوفة تشهد على جرأة سكر والمدى الذي ذهب إليه للتوفيق بين التراثين الشرقي والكلاسيكي.
صلحي الوادي (1934-2007)
تمتلك حياة صلحي الوادي ما يكفي من المقومات لجعلها ملحمة حقيقية، فالمؤلف المولود في بغداد لأب عراقي وأم أردنية عاش شبابه في الإسكندرية ومعظم حياته في دمشق، حيث نجح في تأسيس المعهدين العربي والعالي، والأوركسترا السيمفونية السورية عام 1991، والمشاركة في تأسيس دار الأوبرا عام 1990. وفي دمشق عام 2002، كانت الطريقة الصادمة التي أسدل بها الستار على مسيرته مريعة وأيقونية معًا، حين توقفت الأوركسترا الوطنية في إحدى حفلاتها عن عزف الحركة الثانية لكونشيرتو بيتهوفن الثالثة للبيانو عندما هوى الوادي على المسرح نتيجة نزيف دماغي. قضى أعضاء الأوركسترا ليلتهم في المستشفى بملابس الحفل ينتظرون مصير قائدهم، الذي قضى آخر سنواته بعيدًا عن الأنظار في شلل شبه كامل.
ترك الوادي مجموعة أعمال لموسيقى الحجرة وأخرى أوركسترالية ومسرحية وسينمائية، لكن الصعوبة النسبية لهذه الأعمال والهالة العاطفية التي يحاط بها كأب روحي للحركة الموسيقية السورية تؤديان بشكل أوتوماتيكي إلى تحجيره في أيقونة مفرغة من نتاجه الفني، والذي يتم إما تجاهله أو تقديسه بشكل أعمى.
تعود أعمال الوادي المبكرة إلى فترة دراسته في الأكاديمية الملكية في لندن، وتقدم كما في قطع البيانو نموذجًا جديدًا لإدخال الموسيقى الشرقية في إطار عصرها، مذكرة بأعمال المؤلف الهنجاري بارتوك، الذي سيتأثر الوادي بمنهجيته طيلة حياته. أما اليوم، فيبدو سماع موسيقى الوادي في سياق عصرها مهمة صعبة وضرورية معًا، خصوصًا مع الأحداث الدامية التي أثقلت المنطقة منذ السبعينيات، والقطيعة بين وطنيه سوريا والعراق عام 1979، والتي يمكن أن تكون جميعها وراء السوداوية التي تخيم على أعماله اللاحقة. يشكل ثلاثي البيانو مثالًا على تلك المرحلة، فالعمل المهدى إلى ديميتري شوستاكوفيتش عشية وفاته عام 1975 يحاكي بحركته الثانية سخرية المؤلف الروسي السوداء والعنيفة، بينما تطمح الحركة الثالثة نحو تصريح إنساني جريح، وتجعل من العمل شهادة مؤثرة عن اليأس العام الذي صبغ المنطقة العربية طيلة الحرب الباردة.
ضياء سكري (1938-2010)
يتابع ضياء سكري إرث عائلةٍ حلبيةٍ اشتهرت بالموسيقى، فبعد دراسته في المعهد الموسيقي لمدينته، درس التأليف في المعهد العالي في باريس، وتحديدًا في صف أوليفيه ميسيان أحد أهم مؤلفي أوروبا في القرن العشرين. نُشرت غالبية أعماله وسُجلت في فرنسا، لكن القليل منها وجد طريق العودة إلى الشرق، عادة السهل والبسيط.
تجرأ سكري على مقاربة مواضيع معقدة غير مطروقة من قبل، كما في عمله الإلكترو-أكوستيكي «انس ما تعلمته» (1976) القائم على قراءات لنصوص صوفية من العصور الوسطى، أو عمله «سقط الزند» (1967) المستوحى من ديوان أبو العلاء المعري، والذي امتدحه أستاذه ميسيان لنجاحه في الاستيحاء من الإيقاعات والمقامات العربية في سياق جديد تمامًا. كما ترك سكري إرثًا مهمًا من القطع التربوية التي تمتد من قطع بسيطة للأطفال إلى تمارين تدريبية لا تزال تستخدم في المعاهد العليا لفرنسا وبلجيكا.
يشكل سكري نموذجًا موازيًا لتجربة الوادي، فبينما أعاد الوادي تأويل الموسيقى الشرقية ضمن بنى كلاسيكية صارمة وتجريدية مستوحاة من النموذج السوفييتي والشرق أوروبي، عالج سكري نفس الموسيقى في إطار المدرسة الفرنسية التي تهتم بغنى الهارموني والرنين الصوتي للآلات. يظهر ذلك في مقطوعته ليلة القدر (1975) المكتوبة للبيانو ببراعة عالية، فبعد أن يظهر اللحن الرئيسي ويمر بمجموعة تحولات، يبدأ المقطع المتوسط (2:30) حيث يستخدم سكري تقنيات التنويط الحديثة لكتابة ارتجالات شرقية معقدة تبدو مزيجًا متجانسًا تمامًا بين وصلة على العود وقطعة لمؤلف فرنسي مثل رافيل، وفي النهاية يعود اللحن الرئيسي بعد أن فقد ألقه واكتسب بدلًا منه هالة شبحية باردة (6:00).
*اللامقامية هي أسلوب موسيقي يتجنب الكتابة بمقام معين، وقد ظهر بدايات القرن الماضي وانتشر على يد مدرسة فيينا الثانية ومؤسسها آرنولد شونبيرج.
** تطورت الموسيقى الخرسانية لاحقًا إلى الموسيقى الإلكترو-أكوستيكية، التي عاشت عصرها الذهبي أواسط القرن الماضي.