قراءات في التراث النسوي العربي

تصوير خالد البشير

قراءات في التراث النسوي العربي

الثلاثاء 07 تشرين الثاني 2017

لعل من أشد الفداحات التي ترتكبها النظم التعليمية العربية تغييبها التام لتاريخ وتراث النساء، وللتاريخ والتراث من منظور النساء. فإلى جانب فشلها الذريع في تخريج أجيال قادرة على التفكير النقدي والسؤال والبحث، وتعمّدها -على ما يبدو- التجهيلَ ووأد المواهب، فهي تجتهد في إسكات الأصوات المختلفة أو الروايات المناوئة لما يسمى «المقرر». و«المقرر» هذا قرره أولئك الذين يملكون قوة فرضوها لتعزيز سلطتهم، لذا فلا أذيع سرًا حين أقول أنه صُمم بنفس ذكوري لتعزيز السلطة الأبوية كيفما تجلت؛ سياسيًا أو اجتماعيًا أو دينيًا.

هناك تاريخ كامل من الأصوات النسائية والنسوية التي كتبت وجادلت ونظمت من أجل تحقيق المساواة الاجتماعية، لكنه تاريخ لم ندرسه، وهي أصوات لا نعرف أسماء صاحباتها. والمفارقة هنا أن الاسم النسوي الوحيد الذي قد يدرّس في المناهج التعليمية العربية هو اسم رجل. فباسم قاسم أمين، وبكتابه تحرير المرأة، تختزل مئات السنين من الفكر والنضال النسوي في تلك المناهج التي تضنّ على تِلكنّ النسوة حتى بذكر أسمائهن.

من هنا، وللتكفير الشخصي عن جهلي السابق بذلك التراث النسوي، أقترح عليكم الكتب التالية لقراءتها:

النسائيات، ملك حفني ناصف، 1909.

كانت ملك حفني ناصف نسوية ناقدة تدعم حقوق النساء، لكنها تنظر إلى الصورة الأعم وتُوازِن بين ما هو في صالح النساء والمجتمع وما هو ممكن التحقيق على أرض الواقع. ولأنها كتبت في فترة زمنية امتازت بدعوات كثيرة من مثقفي مصر ومنظريها لنزع الحجاب والتماهي مع النموذج الأوروبي لتحقيق تقدم ما، فقد دعت في كتابها «النسائيات» إلى التريّث في مسألة نزع الحجاب التي دعا إليها قاسم أمين وآخرون، ولكنها لم تعارض التخلي عن الحجاب بحد ذاته. فكتبت: «خروجنا بغير حجاب لا يضر في نفسه إذا كانت أخلاقنا وأخلاق رجالنا على غاية الكمال. (..) ورأيي أن الوقت لم يأن لرفع الحجاب؛ فعلموا المرأة تعليمًا حقًا وربوها تربية صحيحة وأصلحوا أخلاقكم بحيث يصير مجموع الأمة مهذبًا، ثم اتركوا لها شأنها تختار ما يوافق مصلحتها ومصلحة الأمة».

وفي تصنيف ملك حفني ناصف كنسوية ناقدة دليل على شمولية النسوية كحركة فكرية وسياسية لمختلف الأطياف والتوجهات، حيث عارضت التيار السائد حينها. ولعل أهم إنجازاتها هو مواجهتها لهذا التيار باتزان، فهي لم تدعُ إلى التحجيب ولا إلى التخلي عن الحجاب، إنما أرادت التدرج في الانفتاح بما يناسب مجتمعها في تلك الفترة.

وركزت إلى جانب هذا على قضايا رأت فيها حاجة ملحّة، كتعليم المرأة ومعارضة تعدد الزوجات، كما كتبت ما يمكن وصفه بأول نقد نسوي عربي لاستخدام مستحضرات التجميل: «الوجه المدهون يُضيع كثيرًا من معاني الجمال؛ فإن تأثّرات النفس وطبائعها تنعكس على مرآة الوجه فتكسبه أثرهما فيما لا يمكن وصفه في العينين وفي الفم وفي الابتسام وفي أسارير الوجه الصغيرة وفي الجلد نفسه أيضًا، ولكن الطلاء يظهر الوجه كأنه ليس فيه حياة، ويغطي جلده المملوء معنى وينزع بصاحبته إلى تصنّع الحركات والسكنات، والتصنّع يذهب بهجة الجمال».

السفور والحجاب، نظيرة زين الدين، 1928.

تُعدّ نظيرة زين الدين من أوليَاتِ النساء اللواتي تناولن قضية المرأة في الإسلام في العصر الحديث، كما درست القرآن والحديث وخالفت في كتاباتها التفسير السائد لحقوق وواجبات المرأة.

وترى زين الدين في الإسلام دينًا يقوم على حرية الاعتقاد والمساواة، ولكن أفسدته تدخلات المفسرين والفقهاء، حيث ميزت في كتابها «السفور والحجاب» بين النص الديني والتفاسير المختلفة التي رأت فيها تمييزا ضد المرأة، وجادلت بأن اختلاف الرأي بين المفسرين والفقهاء مدعاة للنساء لأن يتفقّهن في الدين كي يستطعن تفسير النصوص الدينية بأنفسهن.

ولعل من أهم ميزات كتاباتها أن لغتها مباشرة ولا تخلو من الحدّة والسخرية، فهي ترد بصراحة على معارضيها وتسمّيهم بأسمائهم، وتسخر من الواقع المفروض على النساء بلا تورية ولا أدب مصطنع، لكنها تفعل هذا كله بلغة موسّدة بمعرفتها الدينية ومنطقها العقلاني.

تقول، مثلًا، عن الحجاب: «إذا كان في الحجاب وياللأسف إشارة إلى عجز المرأة عن صون نفسها بدونه، ففيه إشارة أخرى إلى أن الرجل، مهما علا أدبه، ومع أنه قوام، خائنٌ، سارق للأعراض، لا يجوز أن يؤمن شره (..). يا سيدي الرجل القوام، أصحيح أن هرب المرأة منك أو مجابهتها إياك بسدل النقاب على وجهها وتحويلها ظهرها إليك، عمل مثبت علو قدرك، كما تظن هي وتقول، وتزعم أنت وتقول، أم أن ذلك مهانة فاضحة؟ أهذا هو أدب النفس وحشمتها وحياؤها؟ إذا كان هذا حقًا، فينبغي لأنفس الرجال أن لا تتجرد عن هذه الصفات النفسية، فليلبسوا النقب، وليجابهوا بعضهم بعضًا، وليجابهوا النساء بسدلها كما تفعل النساء».

ما وراء الحجاب: الجنس كهندسة اجتماعية، فاطمة المرنيسي، 1973.

بنَت فاطمة المرنيسي هذا الكتاب على قراءة تحليلية معمقة لجنسانية المرأة في النظام الإسلامي والتي وظّفتها لتفسير بعض الممارسات الموجودة في المجتمعات الإسلامية مثل الحجاب وتعدد الزوجات وفصل النساء عن الرجال.

ترى المرنيسي أن الإسلام ينظر للجنس على أنه طاقة خام، لا إيجابية ولا سلبية، يمكن تسخيرها لمنفعة الإنسان والكون من خلال الزواج والتكاثر، ويمكن أيضًا توجيهها باتجاه الفتن والفوضى الاجتماعية. ولأن الجنس طاقة محايدة فهو لا يحمل دلالات سلبية بحد ذاته، وهو بذلك لا يحمل تبعات الذنب والعار والحرج التي يحملها في حضارات أخرى.

وتكشف المرنيسي هنا عن نظريتين متناقضتين تحكمان الحياة الجنسية في المجتمعات الإسلامية، فهناك النظرية العلنية: وهي الاعتقاد السائد بأن حياة الرجل الجنسية فعّالة وحياة المرأة سلبية. وهناك النظرية الضمنية: وهي التي ترى المرأة قادرة وفعالة جنسيًا وبذلك تشكل خطرًا على الرجل. إذًا فجنسانية المرأة في الإسلام نشطة وعدوانية لأنها تحمل طاقة هدامة قد تكوّن خطرًا على النظام الاجتماعي إن لم تُضبط. ولذا تقوم النظم الاجتماعية الإسلامية بتكريس ممارسات عدة ترمي إلى عزل المرأة لحماية الرجل من الفتنة، والفتنة هنا هي الفوضى الجنسية.

تقول المرنيسي عن المرأة المسلمة: « فطبيعة عدوانيتها جنسية أساسًا، وتتوفر فيها جاذبية قاهرة تهزم إرادة الرجل المتمنعة، وتحيل دوره إلى دور سلبي خاضع لا خيار له، ولا يملك إلا أن ينقاد لجاذبيتها، ومن هنا الجمع بين المرأة والفتنة، أي بينها وبين القوى المضادة للمجتمع ونظامه».

تتجسد أصالة طرح المرنيسي في هذه الفكرة تمامًا، فهي قد قلبت المفاهيم السائدة عن النظام الاجتماعي الإسلامي وجنسانية أفراده رأسًا على عقب، فلم يعد مُقنعًا القول بأن المرأة مخلوق ضعيف ينبغي حمايته من خطر الرجال الجنسي، بل هي في الواقع مخلوق جنسي ذو سلطة هدّامة تهدد النظم الاجتماعية كاملة، وما الممارسات التي تحكم هذه المجتمعات إلا وسائل لحماية الرجال لا النساءمن هذا الخطر.

أحلام بالحرية، عائشة عودة، 2004.

كتب المحرر في افتتاحية كتاب «أحلام بالحرية» أن هذا «كتاب عن الصبايا، عن النساء الرائدات، اللواتي كسرن الخوف والمحرم وانخرطن في الصراع الوطني، الذي كان أيضًا صراعًا ضد التقاليد البالية»، وهذا وصف دقيق للكتاب، ولقصة عائشة عودة التي سردت تجربتها كامرأة نسوية في مجتمع محافظ، وكمناضلة فلسطينية وأسيرة في سجون الاحتلال «الإسرائيلي».

تنجح عودة في هذا الكتاب برواية هذه التجربة بتقاطعاتها المختلفة حيث توضح، من خلال سردها لحلقات متتابعة من سيرة نضالها، كيف تتعاون قيم المجتمع الأبوي مع الاحتلال على تهميش المرأة الفلسطينية وعزلها عن قضية التحرير بتركيز قيم الشرف العائلي في جسدها ومن ثم استغلال ذلك لحرمانها من حقها في النضال. فعودة، وغيرها من المناضلات الفلسطينيات، علقْنَ بين القيم الاجتماعية التي تحتم على المرأة الحفاظ على شرفها كرمز للطهارة الجنسية والسمعة العائلية والوطن (حيث حين يضيع الوطن تتمسك المجتمعات بشرف نسائها كرمز وحيد متبقٍّ للوطنواستغلال القيم ذاتها من قبل الاحتلال الإسرائيلي إذ ينكّل بالأسرى والأسيرات بشتى أنواع التعذيب والإذلال الجنسي لردع الفلسطينيين والفلسطينيات عن المقاومة.

إذًا فهذا كتاب يوثق قصة النضال الفلسطيني من منظور نسوي ومن تجربة شخصية خاضتها عائشة، كما الكثيرات من نساء فلسطين، وعلاوة على كونه مُنتجًا أدبيًا يستحق القراءة لإنجازه الجمالي، فهو أيضا وثيقة سياسية ونسوية بامتياز، فعودة تكتب هنا بلغة صريحة وتصف التعذيب الجنسي الذي تعرضت له على يد سجّانيها، عام 1969، بلا مداراة. هي تصدمنا لأن ما حصل لها صادم، وهي تريدنا أن نكون معها في تلك الزنزانة وأن نشهد تعذيبها كي ندرك معناه فيما هو أبعد من الجسد، في ما يعنيه كل ذلك نفسيًا واجتماعيًا وسياسيًا.

ومن خلال فعل الكتابة الصريحة تقوم عودة بالفعل الثوري مجددًا وتستحضر دور الكتابة في تحريرها من ثقل التجربة والتاريخ والعيب، فتُعلن: «وأعود للكتابة ربما للتأكيد أن تحويل التجربة العملية إلى وعي هو الأهم في التجربة ذاتها. لأنه زُبدتها، ولأنه النسغ الذي يمنعها من الذبول والموت، ولأنه (وهذا هو الأهم) لا يسمح للآخر بالاستمرار في السيطرة على رواية التاريخ وتصنيعه بما يتناسب مع أيديولوجيته العنصرية. (..) ولأقول أيضًا أن الرجال ليسوا أفضل من النساء، وأن النساء لسن أقل من الرجال. وأن الوطن والمستقبل والحرية مسؤولية الجميع. وأن الصمود مُجدٍ».

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية