ترجمة دعاء علي
قبل أيام رحل رئيس كوبا السابق وقائد ثورتها وأحد رموزها، فيديل كاسترو، عن عمر 90 سنة. مثّل الرجل للكثيرين حول العالم رمزًا للصمود أمام الجهد الأمريكي الحثيث لإسقاط ثورة بلاده، بفرض الحصار عليها والتحالف مع مناهضيها ومحاولة اغتياله نفسه مرات عدة. كما كان رمزًا للتضامن بين شعوب دول الجنوب الساعية للتحرر، سواء بالمؤازرة السياسية، أم بالمساعدات الإنسانية.
لكن إلى جانب إرثه السياسي الأبرز، لكاسترو جانب ثقافي أقل شهرة، عكسته صداقاته مع عدد من كتّاب وفناني ومثقفي أمريكا اللاتينية والعالم. ومن بين هؤلاء صديقه الروائي الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز.
في شباط من 1983، نشرت مجلة بلاي بوي الأمريكية -التي يحوي أرشيفها مقالات ومقابلات صحفية هامة، على نحو قد لا يتوقعه كثيرون- مقابلة طويلة مع ماركيز، قبل أشهر من فوزه بجائزة نوبل للآداب. وفي هذه المقابلة، يتحدث ماركيز عن الصداقة التي جمعته بـكاسترو، وعن سعة ثقافة الأخيرة وقراءاته النهمة. أدناه ترجمة لهذا الجزء من الحوار.
بلاي بوي: لنتحدث عن إحدى أشهر علاقاتك؛ علاقتك بفيديل كاسترو. إنها صداقة مقربة، أليس كذلك؟
غابرييل غارسيا ماركيز: إننا صديقان جيدان. صداقتنا صداقة فكرية. قد لا يكون ذلك معروفًا بشدة، لكن فيديل رجل مثقف للغاية. حين نكون سوية نتحدث كثيرًا عن الأدب. فيديل قارئ مذهل. في الحقيقة، صداقتنا بدأت فعليًا بعد أن قرأ «مئة عام من العزلة»، التي أحبها كثيرًا.
سبق لكاسترو أن قال “غابرييل غارسيا ماركيز هو أقوى رجل في أمريكا اللاتينية”. إن كان هذا الاقتباس دقيقًا، فما الذي تظن أنه قصده؟
لا تبدو هذه جملة قد يقولها فيديل، لكن إن فعل، فبالتأكيد قد كان يقصدني ككاتب، لا كرجل سياسة.
هل تقصد أنك لا تتحدث معه في السياسة؟
حسنًا، من الصعب ألا أفعل. لكننا حقيقةً لا نتحدث عن السياسة بالقدر الذي تتخيله. يصعب على الكثير من الناس أن يصدقوا أن علاقتي بفيديل مبنية بشكل كامل تقريبًا على اهتمامنا المشترك بالأدب. قلة من أحاديثنا تتطرق لمصير العالم. في الغالب، نتحدث عن الكتب الجيدة التي قرأناها.
كلما أذهب إلى كوبا، آخذ معي دومًا دستة من الكتب لفيديل. عادة، أتركهم مع أحد مساعديه حين أصل البلاد، ثم أنصرف إلى شؤوني. وبعد بضعة أسابيع، حين نتمكن أخيرًا من الحديث، يكون فيديل قد قرأ كل شيء ويكون هناك ألف شيء لنتحدث فيه. أذكر مرة أنني تركت له نسخة من كتاب برام ستوكر، “دراكولا”، هو كتاب مذهل تمامًا لكن المثقفين يعتبرونه بلا قيمة. أخذت هذا الكتاب لفيديل في إحدى الليالي، قرابة الساعة الثانية فجرًا. دائمًا يستطيع المرء رؤية فيديل في تلك الساعة الغريبة. هكذا هي حياته. في تلك الليلة، كانت لديه عدة وثائق حكومية عليه أن يقرأها ويفكر بها. تحدثنا لقرابة ساعة، ثم التقينا مجددًا ظهر اليوم التالي. قال لي “غابرييل، لقد دمرتني! هذا الكتاب؛ لم أستطع أن أنام دقيقة واحدة”. كان قد قرأ “دراكولا” بين الرابعة والحادية عشرة صباحًا. هذا جانب في شخصيته لا يعرفه كثيرون، وبسبب ذلك فقد تطورت صداقتنا. وعلى عكس ما يقال عنا، فنحن لم نتآمر يومًا بشأن مواضيع سياسية. فيديل يؤمن أن مهمة الكتّاب هي الكتابة، لا التآمر.
لكن الناس يظنون أنك بالفعل، كما تقول، تتآمر مع كاسترو، أليس كذلك؟
هناك من يظن ذلك داخل الحكومة في كولومبيا، بلدي. لكن دعني أحدثك بصدق عن علاقتي بـفيديل، فقد يكون هذا المكان المناسب لتبديد سوء الفهم بشأنها. وسأبدأ بقصة أعتقد أنها نموذجية.
في ١٩٧٦ و١٩٧٧، ذهبت لأنغولا لإعداد سلسلة من المقالات التي نشرت في الواشنطن بوست. في طريق عودتي من أنغولا، توقفت في كوبا. حسنًا، في هافانا، طلب مني مراسلون من رويترز ووكالة الأنباء الفرنسية إجراء مقابلة. أخبرتهم أن لدي طائرة إلى المكسيك في السابعة مساءً، لكنهم قالوا إنهم سيكونون في الفندق في الرابعة. في الثالثة والنصف، جاء فيديل بشكل مفاجئ ليتحدث إلي. لذا، حين وصل المراسلون، أخبرهم العاملون في الفندق أنني لن أستطيع رؤيتهم لأنني مع فيديل.
حدثت فيديل عن انطباعاتي عن أنغولا لعشرة دقائق، ثم لا أدري لمَ – ربما لأننا كنا نناقش نقص الغذاء في أنغولا- سألني إن لم آكل جيدًا هناك. “لم يكن الأمر سيئًا بالنسبة لي”، قلت. “استطعت العثور على علبة كافيار بطريقة ما وأسعدني ذلك كثيرًا”. لذا، سألني فيديل إن كنت أحب الكافيار، فقلت “كثيرًا”. قال لي إن ذلك كان مجرد تكلف ثقافي فكري وإنه لم يكن يرى أن الكافيار طبق فريد إلى هذا الحد. حسنًا، من موضوع إلى آخر، ظللنا نتحدث عن الطعام لساعات – القريدس، والسمك، ووصفات طهي السمك. كان الرجل يعرف كل ما يمكن معرفته عن المأكولات البحرية. وعندما حان موعد رحيلي قال لي: “سآخذك إلى المطار”. في المطار، جلست مع فيديل في ردهة الـVIP وتحدثنا أكثر عن السمك، فيما كانت الطائرة قد تاخرت.
ردهة VIP في هافانا؟ لا يبدو الأمر اشتراكيًا جدًا.
بلى، إنه اشتراكي فعلًا. في الحقيقة، هناك ردهتان للـVIP. على كل حال، لحق بنا المراسلون إلى المطار وعلى ما يبدو قالوا لبعضهم “إذا كان غابرييل غارسيا ماركيز قد وصل للتو من أنغولا وفيديل أخذه إلى المطار، فلا بد أنهما يخوضان نقاشًا هامًا للغاية!”. لذا، حين غادرت، جاء الصحفيون إلى بوابة الطائرة وقالوا “لا تغادر قبل أن تخبرنا: عمّاذا كنت تتحدث مع فيديل لساعات؟”، فقلت: “أفضل ألا أجيب. لو فعلت، لما صدقتموني”.
اقرأ/ي أيضا:
كيف يمكنك الحفاظ على علاقة شخصية مع شخص ككاسترو؟
الأمر صعب، كما هو واضح، لأنها صداقة ذات قيود كثيرة. لدى فيديل أصدقاء شخصيون قلائل، وهذا طبيعي نظرًا لموقعه وسلطته. سأله أحدهم مرة، أمامي، إن كان يشعر بوحدة السلطة، فقال لا. لكنني لطالما تساءلت إن كان رجال السلطة يشعرون بالوحدة التي يعيشون فيها.
إحدى الشائعات عنك تقول إنك تعطي كاسترو النسخة الأولى من رواياتك، حتى قبل أن تسلمها للناشر. هل هذا صحيح؟
حسنًا، بالنسبة لكتابي الأخير، «قصة موت معلن»، فنعم، أرسلت له المخطوطة.
هل أعجبه؟
فيديل؟ نعم! السبب الذي دفعني لعرضه عليه هو أنه قارئ جيد جدًا ذو قدرة مدهشة على التركيز، وأيضًا لأنه متأنٍ جدًا. في كثير من الكتب التي يقرأها، سريعًا ما يجد تناقضات بين صفحة وأخرى. “قصة موت معلن” مبنية بدقة بناء الساعة. لو كان هناك أي خطأ في العمل، أي تناقض، لكان ذلك مشكلة فادحة. لذا، عالمًا بنباهة عين فيديل، فقد أريته المخطوطة آملًا أن يلتقط أي تناقض.
إذن، أنت تستخدم رئيس كوبا كمصدر إلهام أدبي؟
لا، بل كقارئ أول جيد.