غالب هلسا

غالب هلسا: بين العواصم والسجون

تصميم محمد شحادة.

غالب هلسا: بين العواصم والسجون

الثلاثاء 26 كانون الأول 2017

هل يُمكن الحديث عن الرواية الأردنيّة دون ذكر أعمال غالب هلسا؟ ثم هل يُمكن الحديث عن مرحلة انخراط المثقف العربيّ بالعمل السياسيّ والعسكريّ منتصف القرن الماضي دون التعريج على تجربة غالب؟ وأخيرًا، هل يُمكن تتبع حياة غالب هلسا دون الوقوع في حيرة أين هو المتخيّل وأين هو الحقيقيّ في حياته؟
في سبعة وخمسين عامًا، مرّ غالب هلسا على ست دول عربية، وعرف سجون معظمها، وقاتل على جبهات عدّة، وانتظم في أحزاب شيوعية مختلفة، وعاش مع الثورة الفلسطينية قبل أن يرتحل معها.
في هذه المادّة، نتتبّع مسيرته، بين الحواضر والسجون، محاولين عرض تجربة نادرة في تاريخنا المعاصر، لمثقف كتب في ألوان مختلفة؛ رواية ومقالًا ونقدًا، وحارب الظلم حيثما حلّ، غير آبه بحدود قسّمت بلاده.

لا يعرف أحدٌ التاريخ الدقيق لمجيء الكركيّ سلامة الهَلسا مهاجرًا من الكرك إلى قرية ماعين في مادبا، نهايات القرن التاسع عشر أو بدايات القرن العشرين، كما لا يعرف أحدٌ متى واصل الهجرات بين القدس والقرية كتاجر حبوب، لكن الجميع في القرية سيعرف مسيرة مولوده الجديد، والأخير، غالب الذي وُلد في (18/12/1932) وكان أبوه ابن ثمانين عامًا، في حين كانت أمّه تصل عمر الخمسين.

سيعرف أبناء القرية اسم غالب جيدًا، الاسم الذي طار إلى مأدبا فعمّان ومنها إلى لبنان، العراق، مصر، سوريا، تاركًا في كل محطّة إرثًا في الأدب والترجمة والنقد، وتقليدًا عريقًا في مناكفة الأنظمة العربيّة ونقاشات طويلةٍ في سجونها مع المعتقلين، بالإضافة إلى عضوية أربعة أحزاب شيوعية عربية وفصيل فلسطيني (فتح الانتفاضة)، ليموت أخيرًا في ما صادف يوم ولادته (18/12/1989) بدمشق.

درس غالب في مدرسة ماعين الابتدائيّة بقرية ماعين، (تجاوز أربع سنوات دراسية بسنتين لنبوغه) كما تذكر الكثير من المصادر التي تناولت حياته، غير أنَّ شاهدةً على تلك الفترة؛ جارته ورفيقته في الطفولة، كوكب إبراهيم حدّادين، عندها رواية أخرى. تقول خلال حديث معها: «لم يكن هناك مدرسة في القرية، إنما أربع غرف في الدّير القريب تابعة للكنيسة (كنيسة الروم الكاثوليك)، فيها مُدرّستان: مرسة أبو غزالة، وحبوس وهي مدرّسة من السلط. وأستاذ آخر (لا تتذكر اسمه) وكنّا ندرس هناك. (..) وكان غالب وازن الكلام والتصرفات، عشنا في حارة وحدة».

بيت غالب هلسا في قرية ماعين.

لا يبعد البيت الذي التقيناها به عن بيت غالب غير أمتار قليلة. تقول: قرأنا عند أوّل خوري يدخل القرية، واسمه أغناطيوس، ونحن أوّل جيل تعمّد بالكنيسة، جيل 1930- 1933. وهذا كلّ ما تتذكره عن تلك الفترة.

خرج غالب من القرية إلى مادبا، عند شقيقه المحامي حنّا هلسا، بعمر التاسعة للدراسة في مدرسة مادبا لمدة سنة، ولم يعد بعدها إلى القرية. لكنّه استبدل روابط العائلة بروابط أخرى مع القراءة والكتابة: «بدأتُ الكتابة في سنّ العاشرة، كنت كل صباح أكتب أحلامي»، يقول غالب. ثم انتقل إلى عمّان للدراسة في مدرسة المطران (1944-1950) حيث اطلع على الأدب العالميّ بمكتبة المدرسة، وبدأ يقرأ باللغة الإنجليزية. وستشهد سنوات الدراسة في عمّان أولى كتاباته، وعمره 14 عامًا: «كتبت قصة في مباراة للقصة بين الأردن وفلسطين ونالت الجائزة الأولى». ثم سيكتب مقالين في مجلّة المدرسة وعمره 16 عامًا: حوارية قصصية (العدد 9 لعام 1948) وهي حوارية فكرية قصصية مع صديق، و مقالة فكرية في حزيران 1949 عن «الاشتراكيّة الدوليّة الثانية»، وكان نصيرًا للحزب الشيوعي الأردنيّ حينها.

خرج غالب هلسا من الأردن للدراسة في لبنان، بعدما أنهى تعليمه في مدرسة المطران، وكانت أوّل سنة له تحضيريّةً بهدف الالتحاق بالجامعة الأمريكية في بيروت، قسم الصحافة. هناك انتسب إلى الحزب الشيوعي اللبناني عام 1950. واعتقله الأمن في بيروت على إثر نشاطه مع الحزب؛ تعليق منشورات على الجدران ضد زيارة المندوب الأمريكي إلى لبنان روبسون. وأُخذَ عليه تعهد بعدم مغادرة بيروت إلّا بإذن السلطات، لكنه غادرها واعتقله الأمن في طرابلس بسبب مشاركته في مظاهرة في ذكرى رحيل أحد رموز الشيوعيّة، ذهب شقيقه الأكبر عدنان إلى لبنان وأخرجه من السجن وأرجعه معه إلى الأردنّ عام 1951.

تتذكّر كوكب كيف كانت الأخبار تطير إلى القرية عن غالب، وكيف تتحدث النساء هناك بهمس عنه، «سمعنا في القرية إنهم يطارودن غالب، وكانت أمَّه تردّ: «عفية عليه مو مثل عيالكن يتخبوا بالطوابين»».

بحسب كتاب «غالب هلسا الأديب الرافض» لمؤلّفه صالح حمارنة، عمل غالب مدرسًّا فور عودته من لبنان، والتحق بالحزب الشيوعي الأردني عام 1951ومارس نشاطًا سياسيًّا، واعتقل في المحطّة في عمّان 1951.

يروي صالح حمارنة تفاصيل الاعتقال الذي جرى في مجلّة الفجر الجديد: «ذهبت في مساء خريفي من عام 1951 ومعي غالب لزيارة المجلّة وكان في جعبتي مقطوعة أريد نشرها، في العدد المقبل، التقينا مع أخوة آخرين كانوا في زيارة الأستاذ حسن سعود النابلسي (..) ومنهم الشاعر محمد العزة والصيدلي روفائيل زيادين، وفيما نحن نشرب الشاي جاء المكتب أفرادُ شرطة العاصمة وحملوا الجميع في السيارة إلى سجن المحطة (..) وبعد مدة نُقلنا إلى معتقل الجفر».

في سجن الجفر في الجنوب كان الاعتقال لمدة عام، أُفرج عن غالب بسبب صغر سنّه وعاود نشاطه السياسيّ من جديد. ثم عاد إلى مادبا و فرضت عليه الإقامة الجبريّة هناك.

باقتراح من زميله في الدراسة، أديب هلسا، قرّر غالب التوجه إلى بغداد لدراسة الحقوق فيها عام 1953، وبعد شهرين أو ثلاثة تنبّه غالب أنه لم ينجز أوراق إقامته في العراق، توجه إلى السلطات في بغداد ليصوّب أوضاعه، فقبضوا عليه لمدة 24 ساعة وقرروا ترحيله بسبب نشاطه مع التنظيم الطلابي التابع للحزب الشيوعي العراقي، وقذفوه إلى الحدود العراقية الأردنيّة عام 1954. فدخل الأردن، ومن ثم سافر إلى مصر، وهناك ستتغير حياة غالب إلى الأبد حيث سيُمضي فيها نحو 21 عامًا، سيعرف خلالها غالب الروائيّ والقاص.

كتب غالب في القاهرة مجموعته القصصية الأولى «وديع والقديسة ميلادة وآخرون»، كما تلقى في هذه السنة تدريبًا عسكريًّا بهدف المشاركة في مقاومة العدوان الثلاثي على مصر، وتوجه بالفعل إلى الإسماعيليّة.

ثم شهدت حياته على مستوى الإنتاج الأدبيّ تطورات سريعة و كثيرة؛ تحديدًا في السنوات بين 1956 و1961 حيث كان يسكن شقة بحي الدقيّ، الجيزة، شارع التحرير، الطابق الثالث . كتب «زنوج وبدو وفلاحون»1 عام 1957. وكتب فصولًا من رواية الضحك في سنة 1961. لكنّه لم ينشر أيًّا ممّا كتبه، والسبب كما يقول: «لا أكتب شيئًا إلّا وأعتبره فضيحة أخجل من نشرها»، وفي هذه السنوات الخمس تخرج من الجامعة الأمريكيّة بالقاهرة، قسم الصحافة، ثم عمل في وكالة الصين الجديدة (شينخوا)، ثم وكالة ألمانيا الديمقراطية لمدة 16 سنة، كمترجم.

في ليلة رأس السنة 1959 اعتقل غالب مع الأدباء سيد حجاب وعبد الحكيم قاسم وآخرين. وفي الوقت الذي كان بيته في القاهرة يعدّ محجًّا للأدباء والمثقفين، فيجتمعون عنده كل ليلة خميس، كان بيت العائلة في قرية ماعين يُهجر من قبل العائلة، تتذكر كوكب حدادين متى تُرك البيت، ولا تتذكر السنة: هُجر البيت يوم وفاة والدة غالب (فضية)، المرأة «المعدلّة»، والتي ظلّت تقول لنساء القرية كلّما وصلت أخبار عن اعتقال غالب: «غالب زلمة مو مثل عيالكن، يحبسوه ما ينقص منو إشي».

يتذكّر رفيق غالب الكاتب والناقد نزيه أبو نضال الذي التقيناه في بيته بمدينة الفحيص أجواء القاهرة: «تعرّفتُ على غالب بين عامي 1963 و1964، كان يسكن شقة بحيّ «الدقي» وكنّا نجتمع عنده مجموعة من المثقفين والكتّاب، وكانت تسكن عنده صديقة بالإضافة إلى خادمة».

سيدخل اسم غالب هلسا، بعد التخرج، عالم الأدب والثقافة كمنظمٍ ومحاورٍ أساسيّ بين مجموعة الأدباء المصريين في القاهرة، يروي غالب في حواره مع نجمان ياسين لمجلّة الجامعة المستنصريّة أن السلطات المصرية منعت ندوة نجيب محفوظ في مقهى الأوبرا فانضم محفوظ لمجموعة الأدباء الشباب ومنهم غالب. وشهد العام 1966 اكتمال مخطوط رواية الضحك التي نشرت في 1970.

اعتقل غالب بتاريخ الخامس من تشرين الأوّل\أوكتوبر 1966 مع عدد من الأدباء والمفكرين، وخضع للتعذيب 36 يومًا بدون توجيه تهمة، وظلّ في السجن ستة أشهر لاشتراكه في نشاطات المنظمات اليساريّة المصرية.

وفي عام 1968 برز نشاط غالب ضمن مشاريع ثقافية، حيث تبنت المجموعة الشبابيّة عدة مشاريع، منها: سلسلة الأدب الحديث (وهي مجاميع قصصية تصدر عن دار الثقافة الجديدة)، وكان غالب مسؤولًا عنها، (وقد صدرت رواية الخماسين لغالب عن هذه السلسلة عام 1975). فيما قام بعض أعضاء هذه المجموعة بإصدار سلسلة كتاب الطليعة التي أخرجت كتاب «مذكرات شاب قبل ألف عام» لجمال الغيطاني. وتوقف المشروع لعدة أسباب، لذا لجأت هذه المجموعة إلى إصدار مجلّة جاليري 68. كما نُشر لغالب في هذه السنة «وديع والقديسة ميلادة وآخرون»، بسبب «إلحاح أصدقائه».

يروي نزيه أبو نضال تفاصيل اللقاءات القليلة التي جمعت غالب بنجيب محفوظ في مقهى ريش في القاهرة، حيث نادرًا ما كان يَحضر غالب، لكنَّه إن حضر كان يفرض وجوده يقول: «اعتبر محفوظ مجموعة غالب «وديع والقديسة ميلادة وآخرون» أفضل إنتاج أدبي لذلك العام 1968، وحين أصدر غالب روايته الضحك، عام 1971، تحدث محفوظ عنها في أربعة أحاديث صحفية وإذاعيّة».

أمضى غالب في مصر ما مجموعه 21 عامًا، انتهت سنة 1976، ونشر له خلال هذه السنة مجموعة «زنوج وبدو وفلاحون» التي كتبت عام 1957، غير أن الحدث الأبرز كان في شهر تشرين الأوّل\أوكتوبر والذي سيشهد اليوم الأخير لغالب في مصر.

يروي غالب تفاصيل اليوم الأخير له في القاهرة في حوار صحفي أجراه معه كنعان فهد، يقول: انعقدت في أكتوبر/ تشرين الأوّل عام 1976 ندوة عن المخطط الأمريكي في الشرق الأوسط وقد شارك فيها الاتحاد العام لأدباء فلسطين وحوالي عشرين منظمة عربيّة. بين المشاركين في الندوة: خالد محي الدين، وفؤاد مرسي، وإسماعيل صبري، وغيرهم وكنت أنا رئيس الندوة، «استمرت الندوة أسبوعًا وبعد انتهائها قامت السلطات المصرية باعتقالي بسبب اشتراكي في الندوة، وبعد شهر من السجن قامت بترحيلي من مصر إلى العراق».

جاء غالب هلسا إلى العراق ويبدو أن اسمه وصل قبله. فقد أجري معه في أحد الأشهر، من سنة 1977، ثلاث حوارات في ثلاث صحف يوميّة مختلفة، بحسب ماجد السامرائيّ المسؤول عن الملحق الأسبوعي في جريدة الجمهورية العراقية في الفترة بين 1976 و1977، في سياق حديثه عن المقابلة الرابعة التي كان ينوي عملها مع غالب. يقول: «اقترحت عليه (أي غالب) أن نؤجل النشر إلى وقت آخر تجاوزًا للتكرار ولكي لا يفقد كل من الاسم والموضوع صداهما عند القارئ». لم يُنشر الحوار لعدة أسباب، فظلّ طي النسيان إلى أن نشر في جريدة الرأي الأردنيّة.

وخلال هذه الإقامة القصيرة في العراق نُشرت له عدة ترجمات، منها: «فوكنر»2 من تأليف مايكل ميجيت، و«برنارد شو»3 من تأليف أ.م. جبس، ورواية «الحروب الصليبية» لعاموس عوز متضَمّنة في دراسة لغالب بعنوان «نقد الأدب الصهيوني»4، إضافة إلى قصة تهلة لمؤلفها شاموئيل يوسف عجنون5.

في 1976، كان قد كتب ثلث رواية السؤال، لتكتمل وتنشر عام 1979. كما كتب المسودة الأولى لرواية ثلاثة وجوه لبغداد قبل أن يتعرض، سنة 1979، لمضايقات أمنية (هي جزء من مضايقات واعتقالات حزب البعث لأفراد الحزب الشيوعي العراقي) اضطرته لمغادرة بغداد إلى بيروت.

كتب غالب هلسا في هذه الفترة جزءًا من رواية سلطانة، بالتحديد قبل الحصار كما يعترف في حوار صحفي: ابتدأت بكتابة أجزاء من هذه الرواية قبل حصار بيروت، وبعد الخروج من بيروت، واستقراري في دمشق، كنت قد انتهيت منها كما أنني اعتمدت على الذاكرة في تدوين أحداث الرواية (..) الشخصيات التي أتحدث عنها ليست حقيقية ولكنها واقعية.

تتذكر كوكب حدادين، هذا الاسم جيدًا حين قرأت الرواية لأوّل مرة، وقالت لمن حولها: «سلطانة هاي بنت جريس عيسى حدادين بماعين». «كانت معلّمة في القرية عنّا، وماتت صغيرة في الخمسين (1950)» تقول كوكب.

واصل غالب نشاطه، وشارك في بعض الندوات الفكريّة، في اتحاد الكتاب الفلسطينيين في لبنان. كما عمل مستشارًا لمجلة «المصير الديمقراطي» وأسهم في تأسيسها، وقدّم برنامجًا في إذاعة الثورة، ومراسلًا لجريدتي «المعركة» و«العودة».

وظلَّ يتحرك أثناء اجتياح بيروت بين مقرّ جريدة المعركة، و خطوط القتال الأماميّة (عند منطقة المتحف النقطة الفاصلة بين دبابات الجيش الإسرائيليّ والمقاومة الفلسطينية)، يذهب ليسجّل مقابلات مع المقاومين. إلى أن خرج مع المقاومة الفلسطينية.

ترجم في هذه الفترة «جماليات المكان»6 لغاستون باشلار، وكتب رواية سلطانة قبل 1982، و«العالم مادة وحركة»7، وقراءات في أعمال يوسف الصايغ ويوسف إدريس وجبرا إبراهيم جبرا8. ونشرَ رواية البكاء على الأطلال9، والجهل في معركة الحضارة (دراسات)10.

غادر غالب هلسا مع مقاتلي الثورة الفلسطينية، التي كان جزءًا منها، على متن سفن أقلتهم إلى عدن عبر البحر مارًا بالقرب من ميناء جدّة. يصف غالب الظروف القاسية التي عرفوها في تلك الرحلة: «أذكر أننا غادرنا بيروت بعد الحصار، على ظهر السفن اليونانية. أنني كنت على ظهر واحدة من السفن المتجهة الى عدن. عندما أصبحت السفينة قرب ميناء جدة، تبين أنه لم يكن لدينا ماء أو طعام يكفيان أكثر من يوم واحد. كان ما يزال أمامنا سفر خمسة أيام على الأقل. اتصل قبطان السفينة بميناء جدة، وطلب شراء كميات طعام وماء تكفي 537 راكبًا. توقع قبطان السفينة ردًا سريعًا ومرحّبًا. فهؤلاء المقاتلون الخمسمائة والسبعة والثلاثون مضى عليهم ثلاثة شهور وهم يقاتلون داخل بيروت في ظروف بالغة الصعوبة. فقد قام الغزاة وحلفائهم الكتائبيون بقطع الماء والكهرباء وإمدادات الطعام عنهم. فعاشوا ظروفا مفجعة. لكن الرد من حاكم جدة أدهش القبطان، (..) قال حاكم جدة إنه لن يزودنا بقطرة ماء واحدة». بعد عدن توجه إلى أثيوبيا ومن ثم إلى برلين، ولا توجد معلومات وافية عن هذه الرحلة .

يروي نزيه أبو نضال: كنت معه منذ البداية في بيروت، بعد الخروج منها، ذهب غالب بعيدًا عندما أصبح عضوًا في فتح الانتفاضة.

– هناك من يقول أن غالب هو من كتب بيان التأسيس لفتح الانتفاضة؟

– أشكّ في هذه الرواية.

أقام غالب هلسا الكثير من الندوات في دمشق، وتنقلّ محاضرًا ومثيرًا للنقاشات السياسيّة والفكريّة أينما حلّ؛ في مقرات الفصائل الفلسطينية، واتحاد الكتاب السوريين، وفي بعض البيوت التي كانت تشهد الحوارات السياسية الساخنة، بالإضافة إلى ندوة حول الأردن في اتحاد النقابات العماليّة.

يقول صديقه أبو نضال إن غالب لاعتقاده أن «الموات الثقافي أسوأ ما يُمكن أن يحدث، كان يصرّ على إحداث جدل ونقاشات في كل مكان يحاضر أو ينقاش فيه».

ويقول إن غالب كان يحتفظ بعلاقات إنسانيّة مع الجميع، يزور أكثر من أن يُزار في بيته قرب حيّ التجارة (عمارة الروس)، ويشارك الجميع في احتفالاتهم.

لكن، سيدخل غالب في بعض العلاقات بهدف الاستفادة من الحوارات التي تجري في جلساتها من أجل كتابة رواية؛ حول هذا الشأن يقول: «الكتابة أحيانًا تكون مبررًا للاستمرار في شيء ما؛ جلسة ما مملة مثلًا أتحملها وأراها بشكل جديد من منطلق استغلالها للكتابة».

.غالب هلسا مع الأصدقاء في دمشق

.غالب هلسا في أحد احتفالات أعياد الميلاد بدمشق

الزواج

لم يتزوج غالب هلسا كما يقول بسبب الخوف، الخوف من اكتشاف أن العلاقة غير صالحة بالإضافة إلى الخوف من الملل. لكن ما يُجمع عليه الكثيرون، ممن عايشوا غالب آخر أيامه في دمشق، هو وجود علاقة حبّ نشأت بينه وبين فتاة سوريّة، سيفتح غالب أحاديث حولها وعن الحب مع أصدقائه.

«حاولنا أنا وأم نضال إقناعه بالزواج، وكان يتحدث عن فتاة يُريد الزواج منها، كان يهرب بعد أن نخبره أن هناك فتاة (أخرى) مناسبة له، ثم يهرب من الفكرة (فكرة الزواج)»، يقول أبو نضال.

يروي عصام حدادين (ابن كوكب حدادين): في تلك الفترة، في إحدى الاجتماعات نام غالب وفي نهاية الاجتماع عندما أفاق قال له:

– ألم تعشق يومًا؟

– ما هذا السؤال؟ ماذا تُريد بالزواج على كبر. ردّ عصام.

كان غالب يسكن في عمارات الروس، (تصحح كوكب «برج الروس»)، ويضيف عصام: «تحسّن بيت غالب من يوم صاحب».

تختم كوكب حديثها لنا: زرت ابني عصام في دمشق حيث كان ممنوع عليه دخول الأردن، وهناك سمعت منه أن غالب يبحث عن فتاة، ويُريد أن يتزوّج. تضحك وتقول أنها أخبرت ابنها عصام: وليه ما أخذني أنا من أوّل؟

في هذه المحطّة الأخيرة من عمر غالب هلسا، كان قد وضع حياته في أعماله الأدبيّة: «إن رواياتي وقصصي كلّها تحمل عناصر حادة من السيرة الذاتية، فلا يوجد عمل قصصي أو روائي لي ليس له أصول في حياتي الخاصة، وأصدقائي يعرفون هذا (..) وعلى هذا أستطيع القول إنني أكثر كتّاب الرواية العربيّة تعبيرًا عن الحياة الخاصة».

يقول أبو نضال: «حدّثني غالب قبل وفاته بأشهر عن مشروع روائيّ قادم بعد [كتاب] «الروائيون»، ستفاجئ الجميع بجرأتها، وستتخطّى كل المحرّمات». لكنَّ أحدًا لم يعثر في بيته بدمشق على مذكرات أو مخطوط رواية.

ويروي أبو نضال تفاصيل الساعات الأخيرة في حياة غالب: «ذهبنا معه إلى المستشفى الأسدي، مساء 17/12/1989، وهناك قال غالب لللطبيب أن يعطيه مهدئات فقط بسبب أنه يعرف أن ما عنده أوجاع في القولون، ولم يعارض الطبيب، لكنه أدخله للاطمئنان أكثر عليه، كنّا نريد الحديث مع أهله قبل بيوم، وقال الطبيب أن لا حاجة (حتّى أنه ضحك) فحالة غالب بسيطة. في اليوم الثاني ذهبنا أنا والدكتور أحمد أبو مطر وزوجته سهيلة أندراوس وزوجتي، زرناه وقالت الممرضة أنه متوفى».

يقول عصام: «بعد يومين غادرنا تجاه الحدود الأردنيّة، لم يكن متاح لنا الدخول للأردن، أوصلناه للحدود، حيث رافق الجثمان 3 جبات عسكريّة لفتح وسيارات أخرى خاصة كانت إحداها تقلّ الفتاة التي أحبّها». ويختم: «كان غالب يحنّ للعودة إلى الأردنّ آخر أيامه».

يروي الكاتب المصري، ياسر عبد اللطيف، ما جرى في العام 1994:

كنتُ في مستهل حياتي العملية. بالكاد تخرجت من الجامعة، وأعمل محرّرًا مساعدًا في مجلة ثقافية. بعد يوم العمل، كنت أقضي ما تبقى من النهار على أحد مقاهي منطقة باب اللوق في وسط القاهرة. وفي مرة، كنت جالسًا في مقهى «زهرة البستان» الشهير، على شرفته الرئيسية التي يسميها الرواد المخضرمون «المنصة»، وكان يجلس بالقرب مني «الملك» وليم إسحق، وهو تشكيلي شيوعي قديم من رعيل «معتقلي الواحات».
وجاء شخص مشدوه لا أذكر من هو على وجه التحديد ليخبر الملك أنّه قد لمح للتو غالب هلسا يعبر شارع طلعت حرب. كانت خمسة أعوام أو ما يزيد قد مرّت على وفاة غالب، لكن الملك لم يندهش، وأومأ موافقًا وقال: «يعملها غالب».

  • الهوامش والمراجع

    الهوامش:

    1- ط1، دار المصير، بيروت 1976.

    2- فوكنر، تأليف: مايكل ميجيت، ترجمة: غالب هلسا، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1976.

    3- برنارد شو، تأليف: أ. م. جبس، ، ترجمة: غالب هلسا، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 1977.

    4- عدد 9، مجلة الأقلام العراقية، 1979.

    5- عدد 9، مجلة الأقلام العراقية، 1979.

    6- ط 1، كتاب الأقلام، دار الجاحظ للنشر، وزارة الثقافة والإعلام.

    7- العالم مادة وحركة، دراسات في الفلسفة العربية والإسلاميّة، ط 1، الكلمة، بيروت، 1980.

    8- عن دار ابن خلدون، بيروت،1981.

    9- عن دار ابن خلدون، بيروت، 1980.

    10- عن دار الحداثة، بيروت، 1982.

    المراجع:

    1- وثائقي «الكتابة على اللحم»، قناة الجزيرة.

    2- كتاب المغترب الأبدي يتحدث، حوارات مع غالب هلسا تحرير وتقديم د.أحمد خريس – أزمنة ط1 2004.

    3- غالب هلسا وببليوغرافيا مصادره الكتابيّة، عطّاس جميل صويص (نزيه أبو نضال) وزارة الثقافة 2002.

    4- مقدمة أعمال غالب هلسا، رابطة الكتاب الأردنيين، بدعم من وزارة الثقافة 2008.

    5- حوار معه أجراه نجمان ياسين لمجلّة الجامعة المستنصريّة التي تصدر عن جامعة الموصل العدد 8 السنة السابعة أيّار 1977.

    6- مجلّة الشراع 21/7/1986.

    7- مجلة الموقف العربي، عدد 148 آب 1983، كتاب حوارات مع غالب هلسا.

    8- عدد 9، مجلة الأقلام العراقية، 1979.

    9- الانتفاضة الفلسطينية الكبرى، عبد الهادي النشاش، الينابيع للطباعة والنشر والتوزيع 1994.

    10- حوار غالية قباني جريدة الوطن ج1 14/2/1984 و ج2 مجلة الكفاح العربي 8/1/1990.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية