هاناه غادسبي: تخريب الكوميديا للتحرّر من العار الجوانيّ

الأربعاء 26 أيلول 2018
هاناه غادسبي خلال عرض «نانيت» الذي عرضته «نتفليكس».

عرضٌ تخريبيّ ومقوِّض بامتياز. ليس فقط لأسس الكوميديا كما نعرفها، بل أيضًا لمساحات الحكي المتاحة للنساء، وحدود الغضب المرسومة لهنّ. هذه باختصار أسباب الضجّة المحيطة بعرض «نانيت» للأسترالية هاناه غادسبي المعروض على «نتفليكس» منذ يونيو/حزيران الماضي. العمل سجاليّ على مستويات عدّة، لكنّ الوصف الأدقّ له، جاء على لسان الممثلة البريطانية إيما طومسون، إذ قالت لغادسبي: «إنّه عرضٌ بروميثيوسيّ [نسبة إلى أسطورة بروميثيوس]. كأنّك تنتزعين كبدك من مكانه كلّ ليلة على المسرح».

تقول الأسطورة، إنّ بروميثيوس سرق نار الآلهة اليونانيّة، ليمنحها للبشر، فكانت عقوبته أن يقيّد إلى صخرة. وفي كلّ يوم، يبتعث إليه زيوس صقرًا ليفتح جذعه، ويقتات على كبده. ينمو الكبد من جديد خلال الليل، وفي اليوم التالي، يعود الصقر ليلتهمه، ويتكرّر الفعل إلى المالانهاية.

ما تفعله غادسبي في «نانيت»، لا يقلّ شجاعة عن سرقة النار من الآلهة، إذ أنّها تقدّم عرضًا كوميديًّا مضادًا للكوميديا (Anti-Comedy)، كاسرةً احتكار الرجال لنوعٍ فنّي «اخترعه الذكور للذكور، وغالبًا ما تحاول النساء مقارعة أسس النوع الفنيّ الذي يخضن مضماره»، كما تقول في مقابلة أجرتها مع صحيفة الـ«غارديان».

تسرق غادسبي الكوميديا من الرجال، وعلى المسرح، تتلقّى عقوبتها، إذ تعرّي نفسها بالكامل، كاشفةً طبقات من العار الجوّاني المتراكم. تحكي عن نشأتها كمراهقة مثليّة في جزيرة تاسمانيا التابعة لأستراليا، تحكي عن العنف الذي تعرّضت له بسبب اختلاف هويتها الجندريّة عن السائد المقبول. تكشف هشاشتها، تحتضن نقاط ضعفها، وحساسيّتها، وقابليّتها للجرح، ومرضها النفسي، فقط لتكشف لنا مدى صلابتها. تؤدّي فعل عصيان على نفسها أوّلًا، وعلى قوالب أذعنت لأن تكنّى بها. وفي طريقها، تؤدّي فعل عصيان أكبر على تاريخ الفنّ، وعلى رهاب المثليّة، وعلى الوصمة المرتبطة بالاضطرابات النفسيّة. هو فعل عصيان وتخريب، لكنّه أقرب ما يكون إلى فعل الترميم لذات غادسبي، ولكلّ من يتماهى معها، ومع انسحاقها في الهامش.

امرأة «غلط»

تقول غادسبي في العرض: «أعتقد أنّه عليّ اعتزال الكوميديا. أعرف أنّ هذا ليس المكان المثالي لإعلانٍ مماثل، في منتصف عرض كوميدي. ولكنّي كنت أسائل الكوميديا بأكملها خلال العام الماضي (…) حين انطلقت في المجال، قبل عقد من الزمن تقريبًا، كان بيل كوسبي الكوميديّ المفضّل عندي. بنيت مهنتي بأكملها على فكاهة الانتقاص من الذات. أتعلمون ماذا يعني الانتقاص من الذات بالنسبة لشخص على الهامش أساسًا؟ إنّه ليس تواضعًا. إنّه إذلال. كان عليّ أن أقلّل من قيمة نفسي كي أحكي، كي أستجدي الإذن للكلام. وبكل بساطة لم أعد أريد فعل ذلك بعد الآن، لا بحقّ نفسي، ولا بحقّ أيّ أحد يتماهى معي».

قد يضيّع فعل العصيان معناه، إن لم يكن مضادًا لسلطة ذات معالم محدّدة. وعرض «نانيت» في أساسه، تمرّد على منظومة أبويّة، فهمت هاناه غادسبي مكانتها فيها منذ الطفولة. فهي امرأة «غلط»، لأنّ شكلها لا يتناسب مع معايير الأنوثة التقليديّة. هي «غير صحيحة» لأنّها مثليّة، و«كارهة للرجال»، أي امرأة حاقدة ومتمرّدة، كضدّ للمرأة المسالمة الباسمة الصحيحة. تختلف غادسبي، في كلّ تفاصيل حياتها وهويّتها، عن المرأة الصحيحة الوحيدة الممكنة، أي المرأة المطيعة المشتهاة.

لكي يتاح للمرأة الكلام، لكي تنسب إلى خانة «خفّة الظلّ»، لكي تؤخذ على محمل الجدّ، عليها أن تتبع تقنيات الانتقاص من الذات.

في العرض، تقول غادسبي «الأبويّة ليست ديكتاتوريّة، على الأقلّ أعطت كلّ فتاة صغيرة خيارين لما يمكن أن تصبح عليه حين تكبر، إمّا عذراء أو عاهرة». أيّ امرأة خارج هاتين الخانتين هي امرأة غلط. وبقدر ما تبدو تجربة غادسبي ذاتيّة وخاصّة، بقدر ما هي عامّة، انطلاقًا من هذه الثنائية التي يمكن لأيّ فتاة، في أيّ مكان في العالم، أن تفهمها تمامًا، وأن تعيش وفق شروطها وقيودها حياةً بأكملها. النساء وأجسادهنّ وأفكارهنّ هنّ في الغالب موضوع للفكاهة، ولسن (إلا نادرًا) من يمتلكن حقّ الكلام الساخر، أو الخادش، أو العالي النبرة. لكي يتاح للمرأة الكلام، لكي تنسب إلى خانة «خفّة الظلّ»، لكي تؤخذ على محمل الجدّ، عليها أن تتبع تقنيات الانتقاص من الذات نفسها التي تشير إليها غادبسي.

على جزيرتها المحافظة في الجهة السفلى من قارة أوقيانيا -الأرض الأمّ أو موطن المثليين كما كانت تتخيّل حين كانت طفلة- تعلّمت غادسبي أن تحوّل رهاب المثليّة وكراهية النساء إلى صوت جوّاني في الرأس يحاصرها، يعذبها، ويؤنبها. شبّت في محيط كاره للمثليين، وعاشت طيلة حياتها كما تخبرنا، في محاولة للاعتذار عن «ذلك الوضع»، أو تبريره، بالرغم من أنّها أعلنت مثليّتها في بداية عشريناتها. في سنّ الأربعين، تقف على المسرح لتعترف أنّها، وإن تصالحت ذهنيًّا مع هويتها الجنسيّة، إلا أنّها في قرارة نفسها، في طبقات لا وعيها العميقة، في قلبها، ما زالت تشعر بأنّها مغطّسة بالعار. «لأنّك حين تزرع في ذهن طفلة، بذرة العار وكراهيّة الذات، فإنّها لن تطوّر الشبكات العصبيّة اللازمة لتحبّ نفسها»، تقول.

ندوب الانتقاص من الذات

في نقاش حول العرض خاضته مجموعة من محرّري مجلّة «وايرد»، تقول إحداهنّ: «ما لفتني في العرض قبل أيّ شيء آخر، أنّي لم أسمع في السابق أحدًا، يتطرّق للطبقات النفسيّة الكامنة خلف فكاهة الانتقاص من الذات. لاحظت أنّي كنتُ أتبع تقينات كسر التوتّر ذاتها، من دون أن أفكّر بالتبعات».

قد تبدو تجربة مثليّة من أستراليا، حيث بات مسموحًا زواج المثليين، غريبةً عن يوميّات العار التي تعيشها نساء أخريات، مثليّات كنّ أو غيريّات، في بلدان أخرى. لكنّ ثقافة الانتقاص من الذات، وآليات زراعة العار في اللاوعي، وتغطيس النساء بكراهيّة أجسادهنّ منذ الطفولة، لا تختلف كثيرًا، في السياق العربيّ مثلًا، خصوصًا إن كنّ مثل هاناه نساءً غير صحيحات. قد يشتدّ التعيير والتمييز على المخالفات جندريًّا بشكل أعنف من غيرهنّ، لكنّه يطال الأخريات أيضًا: من يمتلكن رأيًا مستقلًّا، غير صحيحات، من يشذذن عن الأدوار المرسومة لهنّ اجتماعيًّا كزوجات وأمهات وبنات مطيعات، غير صحيحات، من لا تنطبق عليهنّ معايير الجمال الشهواني كما ترسمها مخيّلة الرجال حصرًا، غير صحيحات، من يمتلكن حريّة التصرّف بأجسادهنّ من دون أمر رجال العائلة، غير صحيحات، من يتعرّضن للتحرّش أو الاغتصاب أو الانتهاك مذنبات حتمًا، وغير صحيحات، من ترفضن المسارات المفروضة لهنّ في المهنة، أو الدراسة، المتمردات، العاصيات، المعترضات، مذنبات، وغير مؤدبات، وغير صحيحات، وكلّ النسويّات طبعًا غير صحيحات.

غضب هاناه غادسبي الخاص، هو في جوهره غضبٌ عام، وعالميّ. كلّ ما تفعله في عرضها إفهامنا، أنّ العطب الذي لم تشفَ منه، هو عطبنا أيضًا.

كلّ امرأة، خارج ثنائيّة «العذراء والعاهرة»، هي حالة «غير صحيحة». حتى داخل هذه الثنائيّة، ستفهم أيّ فتاة عربيّة -صغيرة كانت أم كبيرة- أنّ مهمّتها كامرأة صحيحة، تنحصر بأن تكون كائنًا جنسيًّا، ورحمًا حاضنًا لذريّة الرجل، في سنّ مبكرة جدًّا. ولكن مع أخذ العلم بأنّها كائنٌ جنسيّ «مقبول وصحيح»، لا يحقّ له أن يتحرّك وينمو «على مزاجه»، بل فقط وفقًا لحدود ما ترسمه السلطة الأبويّة.

الانتقاص من الذات، وتحويل كراهيّة النساء إلى صوت وقناعة لا واعية جوانيّة، وتغطيس النفس بالعار، والاغتراب عن الأجساد والخوف منها ونفيها، والنظر إلى النفس ومخاطبتها بصوت الأنا الأعلى المذكرة، ومقاربة الجسم كعورة، ككائن ناقص مؤنثّ دوني، كلّها ندوب، تعرف كلّ امرأة مكان أثرها على جلدها. غضب هاناه غادسبي الخاص، هو في جوهره غضبٌ عام، وعالميّ. كلّ ما تفعله في عرضها إفهامنا، أنّ العطب الذي لم تشفَ منه، هو عطبنا أيضًا، وهو ليس عطبًا ذا منشأ ذاتيّ، بل عطبٌ يُفرض علينا أصلًا منذ أن نولد بجنس «غير صحيح».

ضحك وبكاء في حقبة «أنا أيضًا»

«وجدت النكات في التاريخ منذ زمن طويل، قبل أن تصبح النساء خفيفات دمّ»، تقول غادسبي في العرض. استرداد الحقّ بخفّة الدمّ من الرجال، من أبرز ثيمات العرض. وبعكس المتوقّع، لا تحاول غادسبي إضحاك المتفرّجين، بل تبكيهم أيضًا. عوضًا عن الاكتفاء بالنكات المتوقّعة من كوميديّة مثليّة -كأن تسخر من نصائح جدتها عن حياتها العاطفية، أو تسرد غباء شجارها مع شاب رآها تغازل حبيبته فلم يضربها لأنها امرأة- تستكمل غادسبي القصّة، وتحكي عن جذور خجلها المقيم من إخبار جدتها بحقيقة ميولها، وعن عودة ذلك الشاب ليبرحها ضربًا بعدما فهم أنّها «امرأة لوطيّة».

تخاطب الرجال الموجودين في القاعة، لتخبرهم أنّ هناك روايات متعدّدة للعالم، وليست كلّها مطابقة للعالم كما يعرفونه، ويفهمونه، ويحكمونه. ولإيصال فكرتها بوضوح، تأخذنا في جولة شيّقة ومقتضبة في تاريخ الفنّ، حيث كانت النساء «شيئًا» ثابتًا في معروضات المتاحف، عاريات غالبًا، وغافيات في الغابة، وبأجساد لا تشبه فيزيولوجيًّا تركيبة الجسد البشريّ، بل هي أقرب إلى قطع أثاث رخوة.

بقيت وجهة نظر النساء للواقع ممحوّة من الفنّ التشكيلي، حتى مع صعود التيّارات الفنيّة الطليعيّة، وأبرزها التكعيبيّة. فوسط وصلة غضب شديدة على بيكاسو وذكوريّته السامّة المعلنة، وتغنّيه بضرورة إحراق كلّ امرأة ينفصل عنها لمحو أثر ماضيها من حياته، تذكّر غادسبي أنّ لوحات أب الفنّ التشكيلي الحديث، وإن عمدت في الشكل إلى جمع كافّة زوايا الرؤيا فوق سطح اللوحة، إلّا أنّ أيًّا من تلك الزوايا، لم تكن بعيون امرأة.

يظهر جليًّا أنّ عرض «نانيت» هو الابن الشرعي لحقبة «#أنا_أيضًا»، حيث بات «الرجال البيض الغيريّون مجرّد خانة فرعيّة، وليس النموذج المحايد للجنس البشري»، كما تقول غادسبي. في حديثها مع الغارديان تقول إنّها ستعود عن قرارها باعتزال العروض الكوميديّة، في حال وجدت عروض لويس سي كاي من يشاهدها مجدّدًا. «إن ذهب الجمهور إلى عروضه، عندها سأفهم أنّ مهمّتي لم تنجز بعد»، تقول. فهل تخوض غادسبي حربًا سياسيّة على المتحرّشين، وتحديدًا من هم في مواقع شهرة ونفوذ وسلطة؟ هل تستغلّ حملة «صيد الساحرات»، كما وُصفت حركة «أنا أيضًا» من قبل مناهضيها، لتختتم مسيرتها الكوميديّة بعرضٍ مدوٍّ؟ هل تريد خلع لويس سي كاي وأمثاله عن عرش الكوميديا انتقامًا، وإنهاء حقبة احتكارهم للحقّ بالسخريّة؟ هل يعني ذلك أنّ «نانيت» ليس عرضًا كوميديًّا، بل «بروباغندا لأجندة نسويّة»، كما يقول منتقدوه؟

النكتة للتطهّر من التروما

هذه ليست كوميديا. يُرمى هذا التقييم في حالتين. في الحالة الأولى، كحجّة رقابيّة، حين تزعج النكتة إحدى منظومات السلطة السياسيّة أو الدينيّة، كأنّ الكوميديا الوحيدة «المقبولة» هي تلك المتآلفة مع سرديات القمع الموحّدة. في الحالة الأخرى، عندما تدخل الصوابيّة السياسيّة (Political correctness) كعامل أساسيّ في ورشة كتابة النكتة. وهذه مسألة باتت أكثر إلحاحًا منذ اتهام اثنين من أكبر نجوم الكوميديا بتهم اغتصاب وتحرّش جنسي، وهما بيل كوسبي الذي يحاكم بتهمة تخدير واغتصاب عشرات النساء على امتداد عقود، ولويس سي كاي المتهم بالاستمناء وعرض عضوه الذكريّ أمام بعض زميلاته.

في هذا السياق، قوبل عرض «نانيت» بالحيرة. فالنكتة التي تستدعي الضحك كما نفهمها تقليديًّا، هامشيّة فيه. في المقابل، تفرد غادسبي مساحة كبرى من عرضها للاحتجاج. فمن جهة، ينجح العرض بسرقة الضحك والقهقهة والتصفيق، حيث تتعمّد الكوميديّة كتابة «نكات جيّدة» كما تسمّيها. ومن جهة أخرى، تقدّم كوميديا ذهنيّة متينة، محوّلة الستاند آب إلى صفّ في تاريخ الفنّ، وجلسة علاج نفسيّ، ومانيفستو نسويّ، وسيرة ذاتية مخضّبة بالتروما. كلّ ذلك في مونولوج مسبوك، تراجع فيه غادسبي عروضها الكوميدية القديمة، وعلاقتها بوالدتها، وكليشيه الفنان المجنون المعذّب، من خلال تشريح لرحلة فان غوخ مع العلاج النفسيّ، وتأثير ذلك على أعماله الشهيرة.

تقول غادسبي: «يشعر الناس بطمأنينة أكبر حين يؤدّي الرجال كوميديا غاضبة. هم ملوك النوع. حين أؤديها أنا، أكون بنظرهم مثلية بائسة، مفسدة للبهجات. وحين يقوم رجال بالأمر ذاته، يصيرون أبطال حريّة التعبير». ما تفعله في عرضها، أنّها تجرّد حجّة «هذه ليست كوميديا» من جدواها. فهي تعصي منظومة قامعة وتخرّب نوعًا فنيًّا من إنتاج هذه المنظومة. كما أنّها تنزع عمّا يسمّى «الصوابيّة السياسيّة» صفة المهادنة والملل، لتجعل منها فعل تخريب لإرث طويل من نكات الاغتصاب، والتحرّش، والنكات العنصريّة، والطبقيّة، والذكوريّة.

إن كانت «الصوابيّة السياسيّة» حجّة لوضع الأصوات البديلة في الكوميديا في خانة الجهد المتواضع، فإنّ غادسبي تأخذها إلى مسار آخر. تجعل منها أداةً للتطهّر من العار الجوّاني، والتروما، وفعلًا سياسيًّا، يعطي المهمّشات والمهمّشين الحقّ بأن يضعوا معاييرهم الخاصّة لما يمكن أن تكون عليه النكات الجيدة والنكات السيئة.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية