البحث عن الحقيقة في متاهة «كان غدًا»

الثلاثاء 30 أيار 2017
تصوير ناديا أحمد

أصدرت دار الساقي بداية هذا العام رواية هلال شومان الأخيرة «كان غدًا». ليكون بهذا قد أصدر أربع روايات، هي على الترتيب: ما رواه النوم (دار ملامح – 2008)، نابوليتانا (دار الآداب ومحترف نجوى بركات – 2011)، ليمبو بيروت (دار التنوير – 2013).

تحكي «كان غدًا» أكثر من قصّة. قصص تتوازى وتتقاطع داخل جسد الرواية. تبدأ الرواية بانفصال «خالد» عن «سهى»، ومع تقدّم الأحداث، واستحالة عودة الاثنين لبعضهما، يتعرّف «خالد» على «ريم» صديقة «سهى» لتنشأ بينهما علاقة لا تتأطّر بإطارٍ ما على طول الرواية. وبين «خالد» و«سهى»، نتعرّف على صديقيهما المتزوّجين «لينا» و«روجيه». بالمقابل، نقرأ على امتداد الرواية، قصّة «ضرغام الصليبي»، جار «خالد» الذي يقصّ عليه قصّة اختفاء زوجته «جانيت الخوري»، ليتكفّل «خالد»، مستغلًا عمله بالصحافة، بمحاولة البحث عن «جانيت». وبين هاتين القصتين، عمد هلال شومان إلى كتابة قصاصات من كلّ حدب وصوب: مقدّمات نشرات إخبارية، برامج إذاعيّة، حوارات مُتلفزة، مقالات وأعمدة صحافيّة، رسائل واتساب، تنبؤات عرّافين، مقابلات، أخبار وفيّات، وغيرها الكثير. قصاصات تكسر تدفّق السرد، لتتحدث عن أشياء لا يمكن ربطها على الدوام مع سياق الأحداث، لكنّه يوردها على أيّة حال. كأنّه توماس وولف في فيلم Genius وهو يتحدّث عن روايته الجديدة: «إنّها عن أمريكا، كلّ أمريكا. إنّي أحاول القبض على كلّ شيء: كلّ مدينة، قرية، حجر، ورقة شجر، رجل، طفل، مزرعة، زهرة، نهر…إلخ».

تبدو رواية هلال شومان الجديدة كمتاهة، متاهة تنتظم فيها عددٌ هائلٌ من التفاصيل، التقنيات المستخدمة، الأزمنة الكثيرة، القصص المتداخلة والمفكّكة، وحتّى يمكنك أن تعثر على رواياته السابقة داخلها. كلّ شيء محكومٌ بأن يرتبط في وقت تتساءل إن كان يجب أن يكون فيه كذلك. تشتمّ رائحة «ليبمو بيروت» في مشهدة الحدث ذاته من وجهة نظر أكثر من شخصيّة، أو في الموت الموجود في خلفيّة الرواية ولا يقرب شخصيّاتها (إلى حين). ورائحة «نابوليتانا» في استخدام المواقع الغامضة («موكب الموت المدهش» في كان غدًا، و«مدونة جهاد» في نابوليتانا). لكن كلّ التفاصيل تنتظم داخل الرواية لتظهر لنا، بطريقة غريبة، كأنّها وحدة واحدة، كما لو أنّها لوحة لجاكسون بولوك: مضبوطة وناشزة في نفس اللحظة، لكنّها تخطف الأنفاس، ولا يمكن أن تخطئها عين الرائي/القارئ.

ربّما يتساءل من يقرأ الرواية: ماذا لو حذفنا كلّ تلك القصاصات، وأبقينا على قصّتي «خالد  وريم  وسهى»، وقصّة «ضرغام  وجانيت»؟ أو بدقّة أكبر: أين الرواية في «كان غدًا»؟ نجد في قصاصة معنونة بـ«صحيفة الكنبة: مقابلة»، وهي مقابلة مع مخرج سينمائيّ لا علاقة وثيقة له بالرواية إذ ينتهي دوره مع انتهاء القصاصة، التالي: «كنتُ أكيدًا أن النقل الكرونولوجي المعهود سيضعف القصّة، لا بل قد يسطحها ويجعلها مجرّد قصّة عادية أخرى. كنت أود أن أراها مبهمة، وأن أعرفها في الوقت نفسه. (…). عليّ تمزيق البنية القصصيّة وجعلها أشلاءً. عليّ تشظيتها بمشوشات تدخل القصة وترحل. تبدو في غير مكانها لوهلة، ثم تبدو في مكانها الطبيعي مع تتابع القصّة»1.

يُعلّق الروائي اللبناني حسن داوود في مقاله عن الرواية على هذا المقطع بالتالي: «لكنني، مصدّقا ما استخلصته من أن ما ورد على لسان السينمائي هو ما يحاول الروائي إسناده إلى روايته، رحت أتساءل كيف أنه كشف لنا ما كان ينبغي أن يظلّ خافيا، حيث بمجرّد أن نضع للخفاء تعريفا وقاعدة، نكون نفضحه». يبدو لي أنّه هنا تكمن لعبة هلال شومان، التي قامت عليها الرواية بأكملها. تحاول الرواية فيما أرى، أن تنقّب عن الحقيقة؛ حقيقة ما يجري في لبنان. بل وأكثر، تحاول، حين يعييها البحث، أن تخلق حقيقتها الخاصّة بها، حقيقة لا تتأتّى إلّا بالفضيحة، كأنّه بحاجة إلى تعرية صورة في ذهنه راكمت فوقها السلطة أوساخًا كثيرة، فبدأ أول ما بدأ (المقابلة موجودة ص40)، معطيًا الشرعيّة لنصّه، بتعرية طريقة كتابته. يغامر هلال شومان في فضح طريقته بالكتابة (قد نشير إلى جانبٍ من السخرية في الفعل، ففي نهاية الأمر، ما نجهد لاكتشافه، قاله لنا في بداية الرواية) في محاولة للإشارة إلى الصورة الأكبر، وكيف يجب أن يتعامل المرء معها «يندر أن يضطرّ الكاتب إلى فضح حقيقة كلّ ما فعل ويفكّر به، من أجل ضرورة أخرى غير الصورة، إلا إذا كان مظلومًا من سلطة واضحة. الكتابة حين تأخذ شكلًا فضائحيًا، تكون فيها الحقيقة غالبًا مقصودة لكن لا لذاتها، بل من أجل الصورة. كأنّ الكاتب يخدع القارئ ويحتال عليه بالحقيقة»2.

عودة للسؤال: هل يمكن محو كلّ القصاصات من الرواية؟ برأيي هذا السؤال لا معنى له، فهذه القصاصات، أكثر من كونها موجودة لأن الكاتب أراد لها ذلك، فهي تعمل مجتمعة على عرض خطابٍ مهمّ ومؤثر. خطاب ميتافيزيقي في أغلبه، يروّج لحوادث موتٍ غريبة يتواتر حدوثها في لبنان عامّة، بيروت خاصّة. ولا يتوقّف هذا الخطاب عن تثبيت هذه الصورة في أذهان الناس، بل إنّه خطاب مُسيّس يلقي الذنب على اللاجئين القادمين «من خلف الحدود»، مؤسّسًا لثنائيّة: اللبناني الجيّد – اللاجئ الشرير. المدهش في كلّ هذا أنّه ربّما يكون الشيء الوحيد الذي يجمع اللبنانيّون حولَهُ، وإن لم يتّفق الجميع مع فحواه. فنحن نسمع ونقرأ نفس الكلام في: راديو «ضرغام»، صحف «خالد»، تلفاز شقّة «سهى»، راديو وكلام «أبو بيتر» (سائق تاكسي يتكرر ظهوره في الرواية)، وأماكن أخرى كثيرة؛ إنّه في كلّ مكان، كأنّ هلال شومان يؤشر إلى الهُويّة التي تنظم اللبنانيّين أسفل مظلتها: الموت والخراب. والأسوأ، إنّ الضحايا يسلبون حقّهم في معرفة سبب موتهم، الكل يموت بلا سبب كما يؤشّر موقع «موكب الموت المدهش» الذي انتشر صيته في كلّ لبنان داخل الرواية. وهكذا فإنّ حذف القصاصات ستعمل على إخلال توازن الرواية، وعلى طريقة أورهان باموق، فإنّ الحذف سينقل هلال شومان من خانة «الروائي الحسّاس» الذي يدرس كلّ تفصيلة ويعاود النظر في الشكل الذي خرجت عليه روايته، إلى خانة «الروائي الساذج» الذي لا يفكّر كثيرًا في خياراته، ويعتمد على الموهبة وحدها ضابطًا للكتابة والمنتج النهائي.

يستعمل هلال شومان في كلّ هذا لغة تتخفّف من البلاغة، وهذا أمرٌ تكرّرت ملاحظتي إياه في رواياته السابقة. لغته تسرد أكثر ممّا تصف، لا تتأخّر لحظة حضور المعنى فيها عن لحظة حضور اللفظ «كلّما ابتعد النظر، تصير الأرض وباطنها سواء. تضمر التفاصيل حتّى تختفي تمامًا، أو تكاد»3. ما أثارني حقيقة ليس هذا الأمر تحديدًا، بل مقالٌ قديم للكاتب بعنوان: كيف تكتب رواية معادية للاقتباس؟ في هذا المقال يوضّح شومان رفضه أن يتمّ الاقتباس من رواياته: «وكلّما اقتبس أحد من روايات سابقة لي، عزمت أكثر ووثقت أكثر بضرورة كتابة تلك الرواية الخالصة، المتحررة من الجملة المكتَشفة الجميلة، يومًا ما». ثمّة هنا محاولة للبحث عن أمرٍ حقيقيّ، عن لغة خالصة لا يمكن لأحدٍ أن يدّعيها لنفسه، ولعلّ هذه الرغبة تعدّ امتدادًا لمحاولة الرواية فضح خطاب السلطة، بلغةٍ عارية بدورها من البلاغة. فالبلاغة قد تكون في هذه الحالة، وسيلةً للرياء والممالأة، أي أداة سلطويّة خالصة.

إن قال سعيد عقل إنّ «أجمل التاريخ كان غدًا» فإنّ هلال شومان لا ينزلق ليقول مثله كان غدًا جميلًا، فلو اعتبرنا أنّ الحالة المقابلة للخراب والموت الذي يعمّ بيروت، هي البحث عن شيء حقيقي فيها، أيّ شيء؛ صخرة الروشة مثلًا. فإنّ الرواية لا تنزلق أبدًا للوهم، فصخرة الروشة «هي المعلم الطبيعي الوحيد. لكنّ المفارقة في أنّها تقع في البحر، منفصلة عن داخل المدينة، تنظر إليها»4. بيروت مدينة ملأى بالقمامة والموت، لذا بدأت الرواية بموتٍ مجازيّ: انتهاء زواج «خالد» و«سهى». وحين انتهت، انتهت بموتٍ حقيقيّ حين مات «روجيه» في لندن وعاد ليُدفنَ في بيروت، بلا سببٍ للوفاة أيضًا. كلّ شيءٍ في بيروت يؤول إلى فراغ موحش، لا يقدّم الإجابات، فقط يستهلك الأسئلة ويبصقها.

مشكلة الرواية الوحيدة في نظري كانت في تسرّع ختم الرواية. ثمّة إمكانيّة لإطالة أمد الأحداث دون الانصراف إلى الثرثرة والمطّ. كلّ الأحداث جرت ببطء يلائمها، عدا الخاتمة، كانت سريعة، وتترك فراغًا، أو كما قال الكاتب على لسان «ضرغام»  «شيء ما في النهاية يبدو ناتئًا. أم إنني أشعر بذلك النتوء لأنّي راوي الحكاية؟ من ينهي القصص؟ من يرويها أم من يقرأها ويستمع إليها؟»5.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1- ص40 من «كان غدًا».
2- ص153 – إرادة الكتابة – بلقيس الكركي.
3- ص112 من «كان غدًا».
4- ص140 من «كان غدًا».
5- ص352 من «كان غدًا».

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية