(على مدى الأشهر القادمة، تنشر حبر وبالتعاون مع جريدة أخبار الأدب المصرية، مجموعة من المقابلات التي أجراها القاص هشام البستاني مع باقة من كتّاب القصة القصيرة في العالم العربي، لقراءة الحوار الأول)
ولد محمد خضيّر في البصرة، جنوب العراق، عام 1942، ودَرَس في مدارسها، ودرّس فيها بعد أن تخرّج من دار المعلّمين عام 1961، وبقي ملازمًا لمدينته حتى في أصعب لحظات الحروب والنوائب المختلفة التي عصفت بها، لا يغادرها إلا لُمامًا، فانطبعت به وانطبع بها، وكتب عنها نصّين مطوّلين يتقاطع فيهما السرد التاريخي، بالقصّة، بالتّداعي الشعري، هما «بصرياثا» (1993) و«أحلام باصورا» (2016)، محاولًا إعادة إنتاجها تاريخيًّا تارةً، وحُلُميًّا تارةً أخرى، وتخيّليًّا تارة ثالثة. يُعتبر خضيّر، بنزعاته التجديديّة والتجريبيّة، وتعدّد وتنوّع أساليبه الكتابيّة، واحدًا من أبرز القصّاصين العرب المعاصرين، وأكثرهم هدوءًا وصمتًا وتقشّفًا في حضوره الإعلامي، وإن كان حاضرًا بقوّة تأثيره الكبير في أجيال لاحقة من الكتّاب العرب السائرين على ذات النهج الجادّ في مقاربة الكتابة كممارسة فنيّة عميقة مفتوحة على الإمكانات الإبداعيّة المختلفة، دون اعتبار لسؤال «التّجنيس» الذي لطالما خرقه خضيّر في كتاباته كممارسة، وفي تنظيره (يفضّل خضيّر كلمة: نظراته) للكتابة. لخضيّر أربع مجموعات قصصيّة شكلت علامات فارقة حين صدورها، وما تزال، هي: المملكة السوداء (1972)، في درجة 45 مئوي (1978)، رؤيا خريف (1995)، حدائق الوجوه (2009). حاز محمّد خضيّر على جائزة سلطان العويس لعام 2004، وجائزة القلم الذهبي من اتحاد الأدباء والكتاب في العراق عام 2008.
هشام البستاني: أنت معروف في العالم العربيّ، عند كتّاب القصّة ومريديها، واحدًا من علامات القصّ العربيّ المعاصر، لكن لجمهور أوسع، وبعيدًا عن التعريفات التقليديّة أو بالإضافة إليها: من هو محمّد خضيّر، وكيف صار كاتبًا؟
محمد خضيّر: أنا قاص عراقي أصدر أربع مجموعات قصصية أساسية وعددًا من الكتب غير المصنَّفة، وقد بلغتُ ثلاثة أرباع المئوية التي ستنتهي عندها غايتي من الكتابة. لم أغيّر موقع سكني، وقد استنفدتُ معظم مخزوني من عملي في التعليم بمدارس ريفية، ولن أقوى على اجتياز الجدران بخفة ولا خوض صراعٍ جديدٍ مع قوى ما وراء الجدران في السنين القليلة القادمة. وكانت عقيدتي في التأليف ترتكز على الحصة المقدرة لي من الكتب لا أتجاوزها شرهاً وطمعاً في المزيد. ربما بقي كتابان أو ثلاثة في انتظاري قبل الارتطام بآخر جدار عال. استعدتُ في آخر كتبي أحلام المدينة التي ولدتُ فيها وحبستُ رؤيتي الحياتية داخلها، ولا أظنني سأجرب السفر بعيداً عنها. كما أنني لن أكرر تجاربي الواقعية الأولى، ورؤاي الجامحة المتوسطة، وأنا اقترب من كتابة آخر العقود. إن كتابتي تراقب نفسها بشدة. وبكلمتين فإني أدخل مرحلة الناموس بعد أن غادرت مرحلة الكاووس1. وبعبارة تلتف حول نفسها كسمكة حنكليس وقعتْ في شبكة صيد، أنظرُ إلى نظرية الأجناس الأدبية على أنها الوهم الكبير الذي صارعتُ للإفلات منه منذ نصف قرن. وكانت التجارب الشكلية التي شغلتْ جيلي القصصي منذ ستينيات القرن الماضي قد خلّفت جبلاً من الرماد كانت حصتي منه ليست قليلة. هذا ميراثي الذي أتبرم منه، ولم يتبقّ ما يستحق الحديث عن نفسي.
لك تنظيراتك الخاصّة عن القصّة، مكانتها كجنس أدبيّ، وآفاق تطوّرها. كيف تُعرِّف القصّة اليوم، وكيف تغيّرت بالمقارنة بنماذجها الكلاسيكيّة، وكيف تجد علاقتها مع الأنواع الأدبيّة والفنون الأخرى؟
أفضّل أن تقول «نظراتي» بدلاً من «تنظيراتي». لم تكن «نظراتي» اشتغالاً نظريًا بحتًا، معزولاً عن تجربة الاستغراق في كتابتي القصصية. كثيرًا ما أشبّه ملاحظاتي النظرية بالتفاعلات الجانبية التي تنتج عن التفاعل الرئيس: كتابة القصص. وعندما تتغير هذه الكتابة بسرعة كبيرة، تغدو النظريات غير ذات قيمة، أو أنها بطيئة ومعوقة. فالنظريات تتلكأ كثيرًا على طاولات النقاد وتتكدس، في حين أن الكتّاب يودون تنظيف هذه الطاولات ليكتبوا عليها من غير عائق أو رقابة خارجية. كنت فقط أراقب كتابتي وهي تسبق النظرية، وتنبني بإيحاء قوي من داخلها. وإذا كانت قصصي قد اجتازت مراحلَ قديمة، ونماذجَ رسمت النظريةُ حدودَها الصارمة، فلأنها كانت تفكر في بنائها بعيدًا عن المراسيم والأوامر الجامدة. فلكل كاتب نصيب خاص من النظرية العامة، يتمثل في الرؤية وزاوية النظر الخاصة، أي تلاؤم التقليد مع ضرورة التغير التي يمثلها نصٌّ حرّ في زمنه وطريقته. وبدلاً من البحث عن الحدّ الفارق بين الأجناس الأدبية، يصبح النص السردي فارقًا بحدّ ذاته بين عدد من النصوص التي تشبهه لا تلك التي تختلف عنه حسب النظرية. وبهذا الانغماس العضوي لا يفكر كاتبُ النص إلا بحقه الشخصي من إرث نظرية عامة كنظرية الأجناس الأدبية.
كنتَ أشرتَ في كتابك «الحكاية الجديدة» -وإن بشكل مختصر- إلى علاقة القصة القصيرة بفيزياء الكمّ، وهذه إشارة جديرة بالإشادة إن علمنا أن عالَم فيزياء الكمّ هو «عالم الإمكانات والاحتمالات»، وهو ذاته عالم القصّة القصيرة. حدّثنا أكثر عن رؤيتك لهذه العلاقة العابرة للعوالم (إن جاز التعبير)، وعن الكيفيّة التي تعبُر فيها فيزياء الكمّ إلى نصوصك القصصيّة.
نشرتُ بحوث «الحكاية الجديدة» ملحقةً بمجموعة قصصي «رؤيا خريف» وصدرتا معًا في العام 1995. وكانت نصوص هذه المجموعة تجارب في الذهنيّ واللا مرئي، وبحوثًا تختبر قابلية الشكل القصصي القصير على التمدد والانفصال عن الواقعي والتاريخي، فاستعنتُ بمصطلحات فيزياء الكم لفحص تصرفات النصّ «الميكروي» الذي يفلت من التحديد والحتمية في مفاهيم النظرية الأدبية التقليدية. نما الكتابان، القصصي والنظري، معًا، ثم صدرا في وقت واحد. وكان هذا التزامن فريدًا من نوعه، بين تجارب القصة العربية. كانت نظريتي في هذه التجربة تتلخص في أنّ القصة القصيرة هي: أقصر برهان وأبسطه على عظمة الوجود وتركيبه المعقد (الذرة الصغيرة أصل الكون الكبير). ولأجل إثبات هذا البرهان «الكمّي» أدخلتُ معارف واقتباسات قديمة وحديثة في بناء النص: الفلسفة القديمة والموسيقى إلى جانب علم الصغائر، أي البراهين التي توسع زاوية النظر للكائنات والمرئيات الواقعية وتضبط تصرفاتها الغريبة. كما لو أن القصة جسيم لا يُضبط إلا على وجهين: المرئي وغير المرئي، الواقعي والخيالي.
أنت من القلائل الذين يكتبون قصصًا تشبه قصص الخيال العلميّ، أو أن أحداثها تقع في المستقبل البعيد، مثل قصّة «طفل مقبرة العجلات»، كيف وصلت إلى هذا النوع من الكتابة، ولم هو نادر الوجود في عالم الأدب العربيّ؟
أُعجِبتُ منذ وقت غير قصير بقصص الخيال العلمي الغربية كما كتبها أساتذة هذا النوع (كلارك وبرادبري وأسيموف) واعتقدتُ أنها الوجه الثاني لقصص الغرائب والخيال المكتوبة بأقلام أدغار آلان بو وكبلنج وبورخس التي أُغرِمت بقراءتها في مرحلة من كتابتي. ثم حاولت أن أجمع بين النوعين في تركيب واحد، فأنتجت قصصًا ضمتها مجموعتي «رؤيا خريف». إلا أن التحول الذي حدث في اهتمامي بقصص الخيال العلمي حققته لاحقًا حين كتبت قصة «طفل مقبرة العجلات» من مجموعة «حدائق الوجوه» الصادرة العام 2009 حيث تشكل اتجاهي القصصي الأخير الذي يبحث عن الغريب وغير المألوف في الواقعي والاعتيادي المألوف. وفي هذا النوع لا يتطلب «التغريب الواقعي» شكلاً اصطناعيًا معززًا بمخترعات العلم والتكنلوجيا بقدر ما يتطلب الاستدلال على بؤر التوتر والغرابة غير الملحوظة في الواقع المعيش. وكان فقر الرؤية الواقعية وارتفاع رصيد الميثولوجيا واتساع الغرائبية السحرية في التأليف القصصي المعاصر أسبابًا رئيسة في اختراع هذا النوع. كانت غرائبية العلم أقرب إلى التصديق من قصص الرعب والأشباح في النوع القصصي التقليدي. إلا أن محاكاة غرائبية الواقع قد تعوضنا عن قوة الحادثة العلمية البحتة. وكان كتابي الأخير (أحلام باصورا) مثالاً على قدرة سرد الأحلام في تحقيق هذا الاستبدال الغرائبي. أما عجز الكتاب العرب عن تحقيق هذا المزج بين العلم والواقع، فسببه ارتباط المخيلة العربية بتراث ضخم من قصص الميثولوجيا البدائية، وعجزها عن تكييف طرق العلم التطبيقي لممكنات السرد الواقعي.
الكليشيه الرائج عن الترجمة هي أنها «جسر للعبور بين الثقافات»، وشكل من أشكال ترويج «التفاهم» بين الشّعوب. كثيرون اليوم يعيدون التفكير بهذه التعريفات، ويقدّمون الترجمة باعتبارها مساحة للاشتباك والتشاكُل، أو مساحة لتوسيع الحضور الفاعل لثقافة مهمّشة، على الأقل إن كانت حركة الترجمة من هذه الأخيرة باتجاه الثقافات «المركزيّة»؛ ما هو انطباعك عن الترجمة؟ ما هو دورها؟ وكيف تقيّم حركة الترجمة من العربيّة إلى اللّغات الأخرى، وبالعكس؟
تعجز الترجمة في نقل النغمات المتباينة والتمايزات المتصاغرة، على مستويي اللغة والثيمة، بقدر ما تتسع النصوص وتتغاير في خصائصها الذاتية. ويسود اعتقاد بأن اتجاهات الكتابة ما بعد الحداثية تضع صعوبات حقيقية تحول دون نقل النصوص وتكييفها في لغات وأفهام غير متجانسة. كانت رواية (يولسيس) لجويس تحديًا حقيقيًا لمترجمي العربية مثلاً. غير أن نصوصًا معاصرة أقل تعقيدًا من رواية جويس، تطرح إشكالات تعبيرية غير قابلة «للتشاكل والاشتباك». وتصبح ترجمة أعمال «هامشية» مكتوبة بألسنة «الزنوج واليهود والأقليات الأخرى» متعذرة الاتصال بأفهام الغالبية من قراء «المركزيات الثقافية». وما دام المترجمون العرب يحرصون على أمانة النص، أو خرقه اعتباطيًا، فقد يتأخر نصٌّ معاصر، خارق التعبير، أو دون مستوى التعبير، عن الوصول إلى تخومنا زمنًا طويلاً، كما تأخرت رواية (الطبل الصفيح) حتى نهاية القرن الماضي. كانت هذه الرواية مثل غيرها من الروايات «الملعونة» ترتطم بصلابة الذائقة اللغوية العربية مثلما يرتطم نصٌّ «هامشيّ» لسيلين وسوينكا وكارول أوتس وفيليب روث ويلينك وهيرتا موللر. ولكن هل يستطيع نصّ ثريّ بلغته وصورهِ لحيدر حيدر وسليم بركات وجليل القيسي الانتقال بسهولة إلى لغة أخرى مقابلة؟ وما الشيء المخيف في هذه الاستحالات الترجمية؟
الزمن زمن الرواية؛ هذا واضح من أرقام المبيعات وحماس الناشرين. قراءتي الخاصّة التي قدّمتها مرارًا لتفسير هذه الظاهرة تنطلق من أن الرواية هي أسهل الأجناس الأدبيّة من حيث التلقّي، بحكم التمهل في بنائها وتقديمها لمجمل التفاصيل المتعلّقة بالشخصيات والمكان، وتفصيل العلاقات بين كل عناصرها وخطوط قصصها الرئيسية والفرعية؛ وهي لا تحتاج من القارئ –بالمجمل- لبذل «جهد» في قراءتها، بعكس الشعر والقصة، لذا فهي أنسب لتكون سلعة للاستهلاك العام، وتتسق مع عصر يقدّم «التسلية» كأساس من أساسات الحياة، وربما محورها الأول، باعتباره أحد الرّوافع الكبرى للاستهلاك. كيف تنظر أنت إلى «زمن الرواية»، والتحوّلات التي تطرأ اليوم على أنماط استهلاكها وتلقّيها؟
أخالفك في هذا الرأي. إن قولنا بأن زمننا «زمن الرواية» هو شبيه بقولنا إن الشعر «ديوان العرب». وهو تزمين افتراضي لا غير. وباستبدال بسيط بين مجالي الرواية والشعر تصبح الرواية «ديوان العرب» ولا يحدث فرق ملحوظ في التركيب اللغوي. غير أن الاستبدال يعكس فهمًا خطيرًا في تكريس أوهام زمنٍ تتغير فيه مفاهيم الجنس الأدبي والدواوين الشعرية. هُجِر الديوان منذ صدور -كتاب- أدونيس الشعري، وتنتظر الرواية أن تتخطى زمنها المئوي منذ صدور روايات صنع الله إبراهيم. إلا أن هناك من يدافع بقوة عن زمن الرواية، استنادًا إلى نظرية الأجناس، إحدى محددات الديوان السردي وأخطر أوهامه. إن الشكل الروائي العربي غريب تمامًا عن نظريته الأصلية التي فرعته من سرديات شفاهية. أما الشكل الروائي الغربي فقد أدرك نهاية نظريته فأخذ يبتكر ما قد يدلّ على أصوله كما استقاها من العرب، وأهم ملامح هذا الشكل: التجزئة واللا حتمية السببية للأحداث والمصادفة والارتجال الشفاهي. وهذا التجنيس ما لا يريد المنظرون العرب وضعه في حساب «الديوان» بل يتجاهلون زمنه الحقيقي.
عالم الجوائز الكبرى ومظاهر البذخ المحيطة بها، والنجوميّة التي ترافقت معها، وتهافت الكثير من الكتّاب خلف مواسم الجوائز، وتحوّل كثير منهم من الشعر والقصة إلى الرواية (حيث أن أغلب هذه الجوائز مخصص للرواية)، صرت أرى فيه نوعًا جديدًا مبتكرًا من الرّقابة (باعتبار الرّقابة نوعًا من التوجيه الخارجي أو الدّاخلي للكاتب أو القارئ)، يضاف إلى الرّقابات التقليديّة المعروفة (السّلطة، والسّوق، والمجتمع). كيف تقيّم تأثير الجوائز والمال والنجوميّة على الكاتب والكتابة اليوم؟
الجوائز، كما هي دور النشر، والمؤتمرات، مثلها مثل نظريات الأجناس، من لوازم «الديوان» السردي الاحتفالية والتزمينية. والحقيقة أن الرقابة بكل أنواعها صارت تخدم جوائز الرواية وديوانها (سلطتها وسوقها) منذ أن خرقت ليلى بعلبكي قوانين هذا الديوان أول مرة قبل نصف قرن. ومنذ أن فاتت الجائزةُ هذه الكاتبة، بل لعلها كانت تريد حقًا الخروج على زمنية الرواية، زمن جوائزها وسلطتها الزائفة، بتمردها الوجودي الفعلي، لم يفكر الروائيون إلا في اتباع تعاليم ديوانها الذي أصبح مهجورًا. لا أعتقد بجدية جوائز العرب، لكن الغربيين قد يقعون في هذا الفخ أيضا مع اختلاف المنافع. زمن الرواية اليوم قد يقاس بمن يقبل الجائزة أو يرفضها (رفضَها باسترناك وكامو وصنع الله إبراهيم). ولكن هل فكر هؤلاء بالطريقة الصحيحة خارج مؤسسة الرواية؟ لا أعتقد ذلك. فالمؤسسة الروائية واحدة في كل مكان، ما دامت نظريات الديوان الروائي توجه العمل، بوعي مقصود، لكتابة الرواية. والنظريات كالمواثيق في سوق المنافع المتبادلة. وما الجوائز إلا مظاهر مؤقتة ومناسبات دورية.
بالنسبة لي، ولكتّاب قصة آخرين، أجد الكثير من نقاط الالتقاء بين القصة والشعر، وأجد نفسي أحيانًا أكتب نصًّا يمكن تصنيفه في الجنسين، شيء يشبه الكتابة التخوميّة، أو الكتابة «العابرة للأنواع». لديك شيء مثل هذا في كتابك «بصرياثا» الذي يجمع التأملات بأدب المكان بالقصة باللمحات الشعريّة والتأمّلات والتاريخ. كيف تجد العلاقة بين القصة والشعر؟ وما هي رؤيتك للكتابة العابرة للأنواع؟
لم أفكر بهذا الالتقاء بين النوعين الأدبيين تفكيرًا آليًا. كنت أفكر بالدرجة الرئيسة في إظهار صورة يوتوبية لمدينة البصرة من نسخة «ديستوبية» أو «هيتروبية»2 صنعها زمنُ الرواية. وقد يُحسَب الشعر هنا تزويقًا ظاهريًا على نسخة آفلة من المدينة، أو استدعاءً بعيدَ الأصداء لنسخةٍ صماء، أو صيحةً مكتومة تخلّفت عن موت الرواية. ولقد جنّسَ النقدُ بصرياثا روايةً وهي ليست برواية. وقد يحسبها آخرون من جنس «ضد الرواية» وهي ليست كهذه. وهي ليست كتابًا عابرًا للأنواع، مع أن التسمية أخفّ تجنيسًا. إنّها كل ذلك وليست كذلك. كان هذا الكتاب فاتحة لنوع من التأليف السردي الذي يجمع بين هيتروبيا الزمن الروائي ويوتوبيا الصورة التاريخية. وكان كل وجه يقابل الآخر في حوار منفرد. وكل ذلك استوجب سردًا شعريًا يخفّف من حدة التناقض بين المدينة وصورتها. وسرعان ما استدعت باصورا أحلامها لتؤكد ذلك التقابل. وليس سرد الأحلام سوى حلّ آخر لتقريب الوجهين. لكنه زاد في شدة التناقض بين الحقيقة وقناعها. وليس السرد إلا كحفلة تنكرية كما قلتُ في مناسبة أخرى.
السؤال الأخير، والصعب، والتقليديّ، الذي لا بدّ منه: لماذا يكتب محمّد خضيّر؟ وهل يكتب لأحد، أي: لمن يكتب؟ وما هو دور المتلقّي في فعل الكتابة لدى الكاتب (إن كان له ثمّة دور)؟
أكتب لأنني أكتب كما قد يقول معظم الكتاب. أهناك جواب أكثر إقناعا؟ هل أكتب لأحدٍ وظفني في ديوانه كما فعل الخلفاء والحكام من قبل؟ هل أتمرد على أحد كما قد يزعم منبوذو الديوان؟ لا أعتقد بكل هذه المزاعم. وإلا أصبحتُ كاتبًا ذا رسالة. هل هي حفلة أتنكّر فيها خلف سبعة أقنعة كما حاولتُ أن أبرهن في كتابي (حدائق الوجوه)؟ ربما. هذا هو أقرب الأجوبة للقبول. لي في الأقل. أما المتلقون، المعلومون أو المجهولون، فليسوا سوى متنزهين ينتقلون من حديقة إلى أخرى حتى يستقروا في «خان العالم» كما يقول جلال الدين الرومي. أطمح في هذا اللقاء أن يقبلني القارئ واحدًا من بُستانيّي العالم، يجرب قناعًا بعد قناع ينزعه قبل الانتقال إلى كوخ العالم المنتبذ في أقصى الحدائق.
-
الهوامش
1- الكاووس تعني اللانظام أو الفوضى.
2- الهيتيروتوبيا: الصورة المشوّهة أو غير الطبيعيّة، بالمعنى الطبّي التشريحيّ، أما بالمقاربة الفلسفيّة التي قدّمها فوكو والمختصة بالأماكن، فهي المساحة «الأخرى»، المتناقضة، المتحوّلة، المكثّفة، العوالم «المختلفة» التي تتشكل داخل العالم المعروف وتعكسه بصورة مشوّهة، مثلًا: المواخير، السجون، إلخ.