النكبة بصيغة المستقبل: زيارة إلى معرض كريمة عبّود

النكبة بصيغة المستقبل: زيارة إلى معرض كريمة عبّود

الأحد 10 أيلول 2017

أعيدَ افتتاح معرض كريمة عبّود في دارة الفنون بعمّان، والذي يستمر حتى الرابع والعشرين من هذا الشهر، محتفيًا بالمصوّرة الأولى في فلسطين والمنطقة، وصاحبة الإرث الفوتوجرافي الذي يغطي فترة الانتداب.

سوّقت عبود لنفسها كـ«مصورة شمس وطنية» منذ بداية العشرينيات، حين كان التصوير يتحول تدريجيًا إلى أداة يومية في متناول أبناء الطبقة الوسطى، بعدما كان متركزًا بيد بضعة مختصين عائدين من الغرب، أو مستشرقين أجانب مقيمين في المدن الكبيرة. ومثلما حررت عبود التصوير من طقوسه الاجتماعية المثقلة بالبروتوكولات، حررها هو، بدوره، لتصبح من أوائل النساء المشرقيّات اللواتي قُدن سيارة وتجولن بحُرية في عمق الجغرافيا الفلسطينية، لالتقاط صور لمدن وقرى وهضاب تخيّم عليها سكينة واقعٍ موازٍ لا يتجه نحو النكبة، ولا بد أن كل صورة منها مُحمّلة بساعات من المشي والطرق الترابية.

تتنوع تلك المشاهد بين مرعى جبليّ للأغنام يطل على البحر، أو صورة عائلية أمام معبد جوبيتر في بعلبك، أو نسوة يغزلن الصوف ويحملن المحاصيل، أو يقفن بنوع من التحدي على سطح مشرف على القدس، كمن يقتحم مشهداً من المفترض أن يظل ديكورا فارغا لاستعراض توراتي. وبذلك تشكل صور عبود سردا مضادا للمنتج الفوتوجرافي الاستشراقي، الذي رأى في فلسطين مجرد أرض متحفية مقدّسة، لا يتعدّى فيها الناس -إن وُجدوا- كونَهم موادَّ غرائبيّة للفانتازيا.

ومن خلال الصور الفردية والعائلية، يُبعث أمام أعيننا مجتمعُ ما بين الحربين في ذروة سحره، خصوصاً تلك الصور التي التقطتها عبود في منازل العائلات بعفوية جديدة على المهنة آنذاك، حيث مُنحت، كونها امرأة، امتياز الدخول إلى البيوت وصناعة سرد لفلسطين يُقرأ من الداخل نحو الخارج، ومنحنا نحن لذة استراق النظر على جلسات الشاي والحدائق المغلقة، وعلى مجتمع يبدو أكثر تماسكًا من أي وقت آخر.

يضاف إلى ذلك مجموعة من البورتريهات الأكثر تقليدية، التي تأتي من عالم الاستديو الحالم بالأعمدة الكورنثية المصغّرة للاتكاء، والخلفيات القماشية بمشاهد طبيعية باهتة. يختار كل واحد رموزه الخاصة لترافقه نحو أبدية الحياة الآخرة للصور؛ الطربوش للدلالة على مكانة اجتماعية بدأت بالتراجع، والكتاب في يد شاب برجوازي بشوارب إنجليزية للدلالة على أنه متعلم، النساء يستوين أمام العدسة سواء بأثواب مطرزة أو بملابس الفلابرز وأطواق اللؤلؤ، بينما يتصور الأولاد بملابس تنكرية أو مع أحصنتهم الخشبية الفاخرة؛ ركام من الرموز ربما فقدت القدرة على مخاطبتنا، لكننا لم نفقد القدرة على الانبهار أمامها.

يأتي سحر تلك البورتريهات من الفعل العنيف بعض الشيء لاقتلاعها من حميميّتها البيتيّة، من امتداد للأثاث وورق الجدران ونباتات العائلة، لتُعلّق على الحائط غرضًا مُتحفيّا. وسواء في نظرات رجل كهلٍ يحدق وجها لوجه في عيون الحداثة، التي اقتحمت بيته على شكل عدسة، أو في صورة فتاتين بأيدٍ متشابكة ووضعية أقدام متناظرة كأنهما ستنطلقان في أيّ لحظة برقصة باليه، نقرأ في هدوء نظراتهم الحقيقةَ المريعة لما ستؤول إليه الأمور، «مستقبلاً سابقاً لحدوثه» حسب وصف رولاند بارت، وهو جزء من قسوة الصورة الفوتوجرافية التي «بإعطائنا وضعيةً بالفعل الماضي، تحكي لنا الموت بصيغة المستقبل».

يؤدي بيت البيروتي الذي تعرض فيه الأعمال لعبةً خفية، فهو يعود لنفس الحقبة الزمنية، ويحتضن الصور في بيئة صديقة تتفتّح فيها نوافذ زمنية مؤقتة قد يبدو من خلالها البلاط أو الشباك في صورة ما انعكاسًا للصالة نفسها. كما تُعرض مجموعة من محاولات استديوهات عبّود في تلوين الصور واللعب على تقنيات التحميض، مُنتجةً بذلك أعمالا تجريبية مدهشة لأشجارٍ دخانيّة أو سيدات بألوان صناعية فاقعة.

يأتي المعرض في تناغم مثاليّ مع إحدى متلازمات ما بعد الربيع العربي؛ الحنين الجماعي إلى زمن التنانير الأنيقة والحدود المفتوحة والطبقة الوسطى العابرة للثقافات، وسحر النصف الأول من القرن الماضي والعالم العربي الذي يشتعل حداثة. تتوزع صدمة الزائر بين شخص المصوّرة ومسيرتها الوطنية الثورية والنسويّة، وبين الصور ذاتها التي احتالت على الغرض المتواضع منها، لتتحول إلى لُقىً سحرية تعكس لنا كل ما فقدناه. باختصار، يترك عالم كريمة عبود الزائرَ مع طعم حلوٍ مرّ لن يتخلص منه قبل مرور بعض الوقت، وفي ذهنه مشهد المصورة وهي تتنقل بين الطبقات والحواجز الاجتماعية، كما تتنقّل بين القرى وعبر حدودٍ لم تخلق بعد.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية