ليس من السهل أن تكون أديبًا أردنيًّا.
يعتبر الكاتب الأردني محمد طمليه، لدى العديد من معجبيه، أفضل كاتب أردني على الإطلاق، وهذا الإطلاق يشمل الكتاب الأردنيين أحياءً وأموات. وقد نشر للرجل في حياته العديد من الكتب من بينها أعمال القصصية: جولة العرق، المتحمسون الاوغاد، وغيرها، فيما نشر له من كتب المقالات: إليها بطبيعة الحال، يحدث لي دون سائر الناس، والذي ألّفه بالتعاون مع رسام الكاريكتير عماد حجاج. ورغم هذا الإرث الهام من الأعمال التي امتازت بالجودة العالية، وبالتطور مع الزمن، إلّا أن عدد قرّاء محمد طمليه في غير الجريدة التي كان يكتب فيها عدد قليل جدًا، ولا يعود هذا الأمر لعزوف القرّاء عن كتب محمد طمليه، ولا لارتفاع أسعارها، ولكن لأن هذه الكتب مفقودة من السوق، بشكل شبه تام.
تعتبر منطقة وسط البلد في عمّان المنطقة الأفضل لشراء الكتب، فتعدد المكتبات الكبيرة، وتنوعها ما بين ثقافية ودينية وأكاديمية، يتيح للقارئ أن يجد فيها ضالته، فيكفي أن يصدر كتاب ما في لبنان أو مصر او المغرب، على اعتبارها أكثر الدول نشرًا، حتى يصل إلى الأردن خلال أسابيع. ومع أن هذه ليست مدةً مدهشة، إلّا أنها ليست بالكارثية.
الكارثي بالفعل هو أن القارئ الأردني يمكنه قراءة البرازيلي باولو كويلو، والمصري نجيب محفوظ، والجزائري واسيني الأعرج، واللبناني ربيع جابر، بل ويمكن له القراءة لمن هم دون هؤلاء زخمًا إنتاجيّا وانتشارًا، لكنه لن يتمكن من القراءة لكاتب أردني يدعى محمد طمليه.
ولو كان الأمر مقتصرًا على محمد طمليه، لقلنا أن الأمر مجرد تقصير من أحد الناشرين، لكن الحقيقة أخطر من هذا، إذ أن العثور على كتاب لمؤلف أردني، رغم كثرة المؤلفين المنتسبين لرابطة الكتاب الأردنيين، أمر يتطلب معجزة حقيقية. فباستثناء إبراهيم نصر الله وأيمن العتوم، وآخرين لا يتجاوز عددهم أصابع اليد الواحدة، لا يمكن للقارئ المحلي، ولا للسائح الأجنبي، أن يقرأ لمؤلف أردني. لا يمكن له أن يقرأ لغالب هلسا، ولا لتيسير السبول، ولا لإلياس فركوح، ولا ولمؤنس الرزاز، ولا حتى لسعود قبيلات، والذي كان في فترة سابقة رئيسًا لرابطة الكتاب الأردنيين.
وإن كان القارئ عاجزًا عن العثور على كتاب لأحد هؤلاء الذين من الممكن اعتبارهم أعمدة الكتابة الأدبية في الأردن، وهم من المؤلفين الموصوفين بغزارة الإنتاج، فالعثور على الكتاب الأول لمؤلف شاب، أو لمؤلفة شابة، أمر أصعب ويكاد يكون مستحيلًا. ورغم المبادرات المهمة التي تقوم بها بعض المؤسسات الثقافية، وبعض ذوي الكتّاب الراحلين، من إعادة نشر لأعمالهم السابقة إلّا أن هذا الجهد على أهميته غير كاف، إذ أنه وبمجرد نفاد النسخ التي تم طبعها، تعود المشكلة وتتجدد، ليصبح العثور على عمل الكاتب الأردني رحلة تتطلب مجهودًا شاقًا وواسطات ودعوات.
أما الحجج التي تستعملها دور النشر لتبرير عدم قيامها بإعادة طباعة أعمال هؤلاء الكتاب وغيرهم، فعديدة، من بينها ضعف الإقبال على شراء الكتب في الأردن، والحجة التي يستعملها كل صاحب دكّان في الوطن العربي وهي أن الحال من سيء إلى أسوأ، وأن «السوق واقف». ويكفي للرد على هذه الحجة الوقوف أمام أحد هذه الأكشاك، ورؤية عدد القرّاء الذين يشترون منها. وتكفي كذلك رؤية الأعداد الكبيرة التي ترتاد معارض الكتاب، لنعرف أن الشعب لا زال محافظًا بدرجة ما على عادة القراءة، وأن إحصائيات من قبيل «المواطن العربي يقرأ بضعة دقائق فقط في السنة» لا أساس لها من الصحة.
أما الحجة الأخرى التي تساق لتبرير عدم إعادة نشر الكتب، فهي أن هذه الأعمال لم يعد الجمهور يقبل عليها، وهذه الحجة أردأ من سابقتها وأكثر تهالكًا، إذ أن عزوف القرّاء عن اقتناء بعض كتب هؤلاء المؤلفين يمكن ردّه، ومن دون أدنى تردد، إلى عدم التمكن من العثور عليها، إضافة إلى أسباب أخرى عديدة من بينها تجاهل الكتّاب الأردنيين في المناهج المدرسية، وكذلك تجاهلهم إلى حد كبير في النوادي الثقافية.
ختامًا، يعاني الكاتب الأردني من مشاكل كثيرة: يعاني من تركه وحيدًا في وجه رأس المال، يعاني من ضعف المردود الذي تعود عليه به «مهنة» الكتابة، يعاني من قلّة التقدير التي يلقاها من المجتمع والمحيط، يعاني من انعدام أي تسويق إلّا التسويق الذاتي، يعاني من أمور كثيرة. لكن لعل فكرة أن كل ما عملت لأجله في حياتك، فكرة أن المهنة الشاقة التي بذلت لأجلها عمرك لن يتم تقديرها بعد وفاتك، وأن النصوص التي لأجل كتابتها استهلكت عمرك وعلاقاتك، وربما في بعض الأحيان أمنك وحريتك، لن تكون متوفرة بعد وفاتك أو حتى في حياتك، هي فكرة تجعل من بذل العمر في الكتابة سلوكًا يمكن وصفه بالمازوشية.
أمّا تأثير اختفاء هذه النصوص بعد وفاة المؤلفين فلربما هو أكثر ضررًا، إذ أن هذه النصوص من المفترض بها أن تعلّم الأبناء بما كان يفكر به الآباء وبما عاشوه، وأن تحافظ على الذاكرة من تزييف النصوص الرسمية، وأن تعرّي الأخطاء التي حصلت، وأن ترينا الأسباب التي لأجلها وصلنا إلى ما وصلنا إليه.