بعد قرن من التغييرات المتسارعة والعنيفة، يبدو المشهد الكلاسيكي اليوم متداخلًا إلى درجة يصعب معها الحديث عن تيار موحد ومطلق. فالتوجهات تتنوع بين تلك التي تحاول العودة إلى الحالة النفسية لإنسان ما قبل الحداثة، وتلك التي لا تزال تطور على أفكار القرن الماضي، وغيرهما ممن يبحثون في الموسيقى عن تجربة روحية، أو أداة تغيير اجتماعي، أو صوت نقي مجرد من أي معانٍ إضافية نحمّله إياها.
لكن مؤلفي اليوم يتشاركون بالرغم من اختلافاتهم بضعة خطوط عريضة، فجميعهم يتفق أن الإيديولوجيات البراقة لم تعد كافية لتبرير ناتج صوتي غير مقنع كما كانت حال الموسيقى الحداثية، وأن مفاهيم الذاكرة والهوية تعود لتأخذ دورًا مركزيًا؛ فإن كانت موسيقى القرن العشرين تتطلع إلى المستقبل، فموسيقى القرن الحادي والعشرين تكثر من استراق النظر إلى الماضي.
تستحضر القائمة التالية تشكيلة من المواضيع تكاد تكون كوميدية بتناقضها، تتراوح من النواد الليلية والطيور الأسطورية وصولًا إلى أليس في بلاد العجائب وبوب ديلان وآلة بحجم إنسان تحاكي صوت فراشة. كل ذلك يؤكد أن موسيقى العقود الثلاثة الأخيرة لا يمكن أن تكون مثلما كانت قبل 150 سنة، فالقواعد كسرت إلى غير رجعة، وتنوع التيارات التي نتجت من الحطام لا يمكن إلا أن يكون احتفاءًا بتناقضات التجربة الإنسانية المعاصرة ومدى جمالها.
بهزاد رنجبران – السيمرغ (1991)
بعد أن يترك سام ابنه الصغير على سفح الجبل، يرعاه طائر السيمرغ الأسطوري حتى يكبر، ويمنحه من قدرته السحرية ليصبح وسلالته أبطالًا يحاربون الساحرات والشياطين ويقررون مصير بلاد فارس. هذا ما يرويه الشاعر الفردوسي في ملحمة الشاهنامة التي تحكي التاريخ الأسطوري لإيران، وتعتبر ملحمتها الوطنية.
في عمله «الثلاثية الفارسية»، يعالج المؤلف الإيراني بهزاد رنجبران قصصًا مختلفة من الشاهنامة باستخدام أوركسترا سيمفونية، وبأسلوب يوصف بالنيو-رومانسية، أي الرومانسية الجديدة. تبدي موسيقى رنجبران تأثيرات روسية بشكل خاص، ولا تخلو من الدراما القوية التي تكاد تجعل منها موسيقى لفيلم هوليودي ملحمي. لكن ربما ما يميز «السيمرغ» فوق كل شيء هو اصطباغها بالموسيقى الشرقية التي تتغلغل عميقًا خلف الواجهة الرومانسية. ففي منتصف العمل (5:55)، تنشد الأوركسترا أغنية حب من نوع مختلف، وبشاعرية لا يمكن أن تكون إلا سليلة عمر الخيام وحافظ الشيرازي.
توماس آديس – إكستازيو (1997)
تشكل إكستازيو الجزء الثالث من عمل ضخم بعنوان «آزايلا»، الذي يعني بالإنجليزية «مهارب» و«مصحات نفسية» في الوقت نفسه. وتتبع تقليدًا سيمفونيًا قديمًا بأن تكون الحركات الثالثة دائمًا مبنية على رقصة، وبما أننا لم نعد في القرن الثامن عشر، فقد قرر المؤلف البريطاني أن تكون رقصته من موسيقى التِكنو.
يبدو وكأن القطعة تصف ناديًا ليليًا صاخبًا من وجهة نظر شاب تناول المخدرات ليهرب من واقعه، فهي تتجاوز مجرد توزيع كرتوني وتجريدي لإيقاعات التكنو، بل تضيف إليها كومة من الهوامش النفسية والتعليقات، نوع من الأصوات الداخلية في كل منا، التي تستغل أي نفَس بين ضربات الرقص لتعلق بقلبة إيقاعية أو فكرة خارج الزمن. بعد أن تشتعل الرقصة (2:45) يغيب كل شيء عن الوعي وتغرق الموسيقى في حالة نفسية، ثم تتمالك نفسها لتعود إلى الرقص مجددًا (4:20).
لا تزال القطعة اليوم من أكثر مؤلفات آديس نجاحًا وعرضًا، وتتطلب أوركسترا ضخمة وشعبة آلات إيقاعية تتجاوز المألوف من ضمنها علب تنكية وكيس سكاكين وحوض ماء تغطس فيه آلة الجونج المعدنية كي يتغير صوتها تدريجيًا.
كايا سارياهو – سبع فراشات (2000)
تشتهر المؤلفة الفنلندية بموسيقاها «الطيفية»، وهي نتاج عقود من الدراسات العلمية التي أجريت بشكل خاص في مركز الإيركام في باريس وأنتجت مدرسة موسيقية تحاول اكتشاف الظواهر الجديدة وغير المألوفة للأصوات، واستخدامها كمحور لجمالياتها.
العمل مكتوب لتشيللو منفرد، وبدلًا من أن تحكي قصته تسلسلًا من الألحان، تحكي تسلسلًا من المواد الصوتية، أي تشكل تحولات جرْس الآلة المستمرة صلب القصة، فتصنع ملمسًا يتراوح بين الخشونة والنعومة الحريرية، يلمع مثل معدن مصقول أحيانًا، وأحيانًا يتلاشى إلى نور.
التشيللو بالنسبة لساراياهو هو علبة كبيرة من الأصوات التي لا توفر أي جهد في استغلالها، فتصدر أصواتًا تحاكي رفرفة أجنحة الفراشة أو تواتر طيرانها المتخبط معطية بذلك صوتًا لظواهر لا صوت مسموع لها. لكن أعمال سارياهو لا تشكل فقط انتصارًا للتقدم في مجال الدراسات الصوتية، وتفوقًا ذاتيًا للآلات التقليدية، بل أيضًا لذة حقيقية للأذن التي تبحث عن أصوات جديدة من خارج هذا العالم.
أرفو بيرت – الآن تطلق عبدك (2001)
يبقى بيرت المؤلف الأكثر شعبية على هذه القائمة، فبمجرد نجاحه بالخروج من القبضة السوفييتية عام 1980، تحول المؤلف الإستوني إلى ظاهرة خطفت أنفاس العالم. قبل ذلك، أمضى المؤلف الغامض والمتنسّك سنوات من العزلة في بلده الممحي من الخارطة، يدرس موسيقى العصور الوسطى والكنائس الشرقية، واللاهوت المسيحي، مما أضفى على أسلوبه بعدًا صوفيًا وتواضعًا يتناقضان وشهرته المتضخمة.
يعتبر بيرت من أوائل المينيماليين خارج أميركا، ومن رواد ما يسمى بالمينيمالية الروحية. سبب التسمية هو أن بيرت أثبت مدى سهولة أن يتحول الإحساس بالفراغ في المينيمالية إلى أداة تأمل روحي وتواصل مع الإله. ربما أكثر ما يجذب الاهتمام إلى أعمال مثل آلينا ومرآة في مرآة هو نقاءها المطلق، كل نوطة لدى بيرت هي بحر أبدي يغرق كل شيء.
أما ترنيمته اللاتينية هذه، فقد كتبها بيرت لكورال «آكابيلا» أي بدون مرافقة آلية، وهي تبشر مع باقي أعماله بعودة قوية للموسيقى الغنائية الروحية بعد عقود من فتور الاهتمام، ومعها فكرة أن القرن الجديد يحتاج إلى موسيقى على درجة من الإيمان والنقاء لتطهير جراحه المتراكمة.
أونسوك شين – كونشيرتو الكمان (2001)
هنالك عدة أسباب تجعل من هذا العمل من أهم ما كتب للكمان في القرن الواحد والعشرين، وأحد أكثر أعمال المؤلفة الكورية شهرة. فالكونشيرتو يشكل تحديًا تقنيًا لأي عازف كمان، ويجسد حب شين لكل ما هو مسلٍ وساخر، ولصقها للأساليب المختلفة ببعضها، بشرط وحيد: أن يكون الصوت الناتج جيدًا.
يمثل الكونشيرتو رحلة طويلة يقوم بها الكمان المنفرد في ما يشبه الحلم الطويل الذي ترسم الأوركسترا ديكوره وتتحكم في تحولاته المستمرة. الحركة الأولى تذكر بخلق العالم، تفتتح برنين صوتي عميق يشبه جسمًا مائيًا كبيرًا، يدخل عليه الكمان بأصوات متقطعة تتحول تدريجيًا إلى ما يشبه قطرات المطر، وسرعان ما يكتسب الكمان خفة متنامية تسمح له بالطيران بين مئات الأصوات المجهرية في الأوركسترا، والتي تنمو إلى غمامة كبيرة من الألوان.
في الحركة الثانية، يجد العازف نفسه وحيدًا بينما تتوارى الأوركسترا إلى الظلام متحولة إلى صدى لمونولوجه الداخلي، وبعد الحركة الثالثة المتوترة، يدخل العازف والأوركسترا في حوار يستحضر الحركات الثلاثة الأولى وينتهي إلى نفس الرنين الصوتي الذي أنجبه في البداية.
جورج بينجامين – ثلاث منمنمات لكمان منفرد (2001)
يشتهر المؤلف البريطاني بحضور قوي في المشهد الكلاسيكي المعاصر، وبينما قد لا تكون هذه المنمنمات أشهر أعماله، إلا أنها تشكل مثالًا مصغرًا على سعة خيال بينجامين وميله نحو الموسيقى الانطوائية.
يهدي بينجامين كل منمنمة لأحد أصدقاءه، الأولى مبنية على إيقاعات من الموسيقى الهندية، وتأخذ شكل لحن طويل حزين ينتهي بفكرة صغيرة (1:29) تتكرر باستمرار، تقاطعها كل مرة موجة من الأصوات الرنانة فتتقلص مرة بعد مرة لتختفي إلى رنين نهائي. وبعد الضربات المهووسة للمنمنمة الثانية، تبدأ الحركة الأخيرة بنقر خافت على الآلة سرعان ما يدخل عليه لحن سوداوي قصير.
تشبه المنمنمات الثلاث قطعًا خزفية صغيرة بدقتها وعنايتها بالتفاصيل، وبمستواها التقني المتطلب، خصوصًا الحركة الأخيرة التي يرافق العازف فيها نفسه بالنقر على الأوتار بينما يعزف اللحن الأساسي.
جون كوريليانو – السيد تامبورين مان – سبع قصائد لبوب ديلان (2003)
قد تكون موسيقى فيلم الكمان الأحمر من أشهر ما كتبه كوريليانو، إلا أن المؤلف الأميركي نجح في إثبات نفسه خارج هوليود بمجموعة مؤلفات مهمة، من ضمنها مجموعة الأغاني هذه.
يلحن كوريليانو قصائد مكتوبة وملحنة سلفًا من قبل المغني الأميركي بوب ديلان، أحد إيقونات الفن الشعبي في النصف الثاني من القرن العشرين. اختار كوريليانو ألا يسمع أغاني ديلان الأصلية كي يستطيع التعامل مع كلماتها كنصوص حيادية، فهدفه لم يكن إعادة توزيع موسيقى ديلان أو التعليق عليها، بل خلق مساحة موازية تكتسب فيها كلماته أبعادًا جديدة.
وبالفعل، يعطي كوريليانو كلمات ديلان صوتًا جديدًا كليًا يميل إلى السوداوية في الأغنيتين الثالثة والرابعة، ويظهر تأثرًا بالفولكلور الأميركي في الأولى والسابعة. يصب العمل في محاولات بناء هوية أميركية مختلفة، ورغبة المؤلفين الكلاسيكيين المعاصرين في التفاعل مع الثقافة الشعبية، وبطبيعة الحال، الاحتفاء بها.
جوبي تالبوت – أليس في بلاد العجائب (2010)
بعد فترة من التجريب في مجالات الروك والمينيمالية، طور تالبوت أسلوبًا ينسب إلى النيو-رومانسية. فبعد أن كانت الثورة على التاريخ الهدف الأكبر للموسيقى الأوروبية القرن الماضي، يشكل تالبوت مثالًا على جيل جديد من المؤلفين الذين لا يخافون الاعتراف بأنهم ربما يفضلون دفء الموسيقى الرومانسية القديمة على التجديد بهدف التجديد، وإن عنى ذلك بعض التكرار أو الخفة.
حظي هذا الباليه بإنتاج بصري مبهر يعيد إحياء قصة لويس كارول الشهيرة بكل أبعادها الطفولية والغرائبية. أما موسيقى تالبوت، فتشبه خلطة سحرية من موسيقى هوليوود وأفلام الكرتون والموسيقى الحديثة المتشابكة، والأهم، نوع من الشاعرية الدافئة التي تذكر بباليهات القرن التاسع عشر، حيث يتم تطويع الصراع التاريخي بين اللامقامية (التي تبنتها الموسيقى الحديثة) والمقامية التقليدية (التي يعود إليها تالبوت) إلى جزء من حكاية أليس التي تعيش بدورها صراعًا بين الواقع والحلم.
جون آدامز – الإنجيل حسب مريم الأخرى (2013)
اكتسب آدامز سمعة كأحد المؤلفين الذين يرون في الموسيقى أداة نشاط اجتماعي وسياسي، ويستمر اليوم في كونه أحد أهم المؤلفين الأحياء في أميركا والعالم، والذي تتسابق المسارح العالمية إلى عرض أحدث أعماله.
تروي هذه المسرحية الغنائية نسخة معدلة من الرواية الإنجيلية تركز على شخصيات ثانوية مثل مريم المجدلية وأختها مرثا، إلا أنها ليست عملًا دينيًا بمعنى الكلمة، فالقصة تنقل إلى زمن معاصر حافل بالفقر والمخدرات، وتتحول إلى إطار لمعالجة مواضيع مثل انعدام العدالة الإجتماعية، ومفاهيم الحب والإنسانية.
أما موسيقيًا، فيستمر آدامز بالتطوير على الأسلوب المينيمالي الذي ورثه عن سابقيه، والذي يقوم على التكرار والاقتصاد، حيث تكتسب كل قلبة في النبض المستمر ارتدادات جديدة مثل الدوائر على سطح مائي متجانس، وتلعب كلماته القوية على خلق شبكة من الأصداء والمعاني الصوتية واللغوية.
«صول» هي زاوية شهرية تتناول قضايا موسيقية كلاسيكية وحديثة.