محمد المخزنجي: نحن كائنات مغرورة، ولن ينقذنا إلّا أن نتواضع

الأحد 25 تشرين الثاني 2018

 تنشر حبر، بالتعاون مع جريدة أخبار الأدب المصرية، مجموعة من المقابلات التي أجراها القاص هشام البستاني مع عدد من كتّاب القصة القصيرة في العالم العربي. الحوار الأول، الحوار الثاني، الحوار الثالث، الحوار الرابع.

إن كان ثمّة كتابة شفّافة وأثيريّة، بمعنى أنّها تخترق وتتجاوز وعي القارئ وعمليّاته الذهنيّة، لتشتغل وتترك انطباعاتها على مشاعره وإحساساته، وتفعل فيها بما يخلّف أثرًا لا يُفهَم، لكنّه يُحسّ، نكون قد وصلنا إلى قصص محمّد المخزنجي؛ قصصٌ اشتقّت لنفسها، وعبر منجز عريض ومتمكّن «حساسيّة جديدة» لم تُطرق سابقًا، وتحاول استنطاق الكُنه، أو اللّبّ المعنويّ العميق، للكائنات، والأشياء، وتفاعلاتها، ومفاعيلها. وقصص المخزنجي تُشبهه شخصيًّا: مطبوعةٌ بالهدوء، والتمهّل، والتأمّل العميق، لا يكاد صوتها يُسمع رغم الصّخب الذي تُعالجه، مبتسمةٌ رغم الشّجن الذي تحمله، ومدفوعةٌ دومًا بكلمة السرّ الأساسيّة التي يقدّرها، ويقدّسها: الدّهشة.

ولد المخزنجي عام 1950 في مدينة المنصورة، على الحدّ الذي تندمج فيه أطراف المدينة بالرّيف الذي يليها، فصادق الحيوانات والنّباتات والطّبيعة وتعلّم لغتها، وجاور منزله مقابر يرتادها ويُدفن فيها أناسٌ من كلّ الملل والنّحل، فعاين عالمًا كوزموبوليتانيًّا فريدًا (كما سيقول لنا أدناه)، كوزموبوليتانيّة أخذت سمتًا كوكبيًّا، كونيًّا، عابرًا لعالم الإنسان والمدينة، لتشمل الموجودات والطّبيعة. درس المخزنجي الطبّ في مصر، وتخصّص في الأمراض النفسيّة والعصبيّة في أوكرانيا حيث شهد كارثة تشرنوبل، ثمّ شهد انهيار الاتحاد السوفيتيّ نفسه، وروى الحادثتين، بطريقته، في كتاب قصصيّ نادر من نوعه. ترك الطبّ ليتفرّغ للأدب والكتابة، وعمل محرّرًا علميًّا في مجلّة «العربي»، ثمّ مستشارًا لتحريرها، وهو موقع مكّنه من زيارة بقاعٍ عديدة، وغريبة، من إفريقيا، وآسيا، وغيرها، تركت آثارها واضحة في كتبه وكتاباته. لفتت مجموعته الأولى انتباه نجيب محفوظ الذي قال فيها: «قصص قصيرة جدًّا ولكّنها ممتازة، بحيث أنّها تُكتب في أضيق حيّز، لكن كلّ قصّة لها معنىً مترامٍ واسع، وهي تدلّ على مقدرة فنيّة فذّة»، تجلّت، حتى الآن، في أحد عشر كتابًا قصصيًّا، إضافة إلى كتابات في أدب الرحلات والطب والبيئة. حاز المخزنجي على جائزة أفضل كتاب قصصي صدر في مصر عام 1992، وجائزة ساويرس لكبار الكتاب في القصة عام 2005.

هشام البستاني: من الطبّ والاختصاص في الأمراض النفسيّة والعصبيّة، إلى التفرّغ للكتابة، سرتَ في طرق وعرة، وذهبت في رحلات كثيرة إلى بقاع غريبة، وعاينت أناسًا «مختلفين»، وتجارب، قسّمتها في كتابك «البُستان» (1992) إلى فيزيقيّات وسيكولوجيّات وباراسيكولوجيّات، وفوق هذا تجربة اعتقال مبكّرة لا تتحدّث عنها كثيرًا إلّا في قصصك. رحلة طويلة وثريّة شكّلتك عبر أزمان، وأبعاد، وجغرافيّات متنوّعة، فمن هو محمد المخزنجي اليوم؟ كيف يعرّف نفسه بعد هذه الرّحلة؟

محمد المخزنجي: أظنني الآن الشّخص الذي شكّلته الرّحلة كلّها، الرّحلة التي كانت. وأتذكّر أنّني في المدرسة، والكليّة فيما بعد، وحتى في أيّ محفل أُدعى إليه، كنت أختار أن أكون في الصفوف الأخيرة بجوار نافذة أو باب، لأهرب بشطحات خيالي أو أهرب من المكان عندما يستبدّ بي الضّجر. في المدرسة الابتدائيّة، في صفّ من الصّفوف الأولى، كان المدرّس -عندما يوجه لي السّؤال عمّا كان يتكلّم فيه- لا يجد لديّ إجابة، رغم معرفته أنّني من الشطّار، فقد كنتُ شاردًا عنه أتأمّل الحقول وراء سور المدرسة، أو قطّة تمشي على السّور، أو أيّ شيء آخر، ولهذا حوّلوني إلى الوحدة الطبيّة المدرسيّة لفحص سمعي، على اعتبار أن سمعي به مشكل، بينما كان المشكل أنّني لا أكون أبدًا داخل الفصل، داخل أربعة جدران.

هذا التسلّل خارج المكان المغلق، أو العالم المغلق، ظلّ حاكمًا لتصرّفاتي، ودافعًا لي للتنقّل والتّغيير، بحثًا عن جديد مدهش. لم تكن تلك التنقّلات، والرّغبة الغالبة للشّطح نحو آفاق جديدة، أو أحلام لا تنتهي، مكرّسة للكتابة، بل كانت طابعًا شخصيًّا، فأنا مؤمن أنّ الكتابة، أيّ كتابة، لا تساوي الحياة. الحياة عالم هائل التّرامي والتّلاوين، ومن ذلك أنّني عندما تخرّجت من كليّة الطبّ، اخترتُ أن أعمل طبيبًا في الحجر الصحيّ في قناة السّويس، ثمّ في ميناء الإسكندريّة. كنت أحلم بعالم البحر، وكان ذلك العمل به قليل من الطبّ وكثيرٌ من البحر، وكانت أحبُّ المناوبات عندي تلك التي تقتضي الذّهاب بلانش الحجر الصحيّ لفحص سفينة على بعد عشرات الكيلومترات في عرض البحر تطلبُ إذنًا بدخول الميناء، ثمّ عندما تصعد -في محيطٍ من الموج الهادر- من اللّانش السّريع، الصّغير، المتأرجح، إلى سفينة ضخمة تبحر ببطء، وتعايش عالم البحّارة المسافرين. كان كلّ هذا يثير شغفي، يروي بعض احتياج كياني العطشان دائمًا للدّهشة، وكنتُ ألاحظ مشية البحّارة المخضرمين المميّزة على البرّ عندما ترسو سفنهم في الميناء، مشيةً كمشيةِ الطّفل تحاول التّوازن على أرضٍ ثابتةٍ بعد أن ألفوا المشي المتوازن على سطح سفينة تشقّ البحر وتتمايل.

أظنُّ أنّني الآن بحارٌ عاد عودةً وداعيّةً من إبحارٍ طويلٍ ليستقرّ على البرّ، ويأتنس بالعودة العاديّة لكائنٍ عاديٍّ إلى بيته القديم، وأهله؛ وما الكتابة إلا عادة يصعب هجرانها، لكن دون أيّ ادّعاءات لطموحات كبيرة فيها، ولا سعي لأيّ كسب منها، ولا ندم على أيّ خسران لما فاتني منها؛ بحارٌ يتأقلم على المشي فوق أرضٍ غير عائمة.

سيرتك الذاتيّة المطبوعة على الغلاف الخلفيّ لكثير من كتبك تصرّ على أنّك «هجرت» الطبّ النفسيّ إلى الصحافة الثقافيّة والعمل الأدبيّ. ثمّة عنف مضمر في إعلان هذا الهجر، وكأنّه قطع كامل وانتقال كليّ من مرحلة لمرحلة، مع أن قصصك تشهد بالاتصال الكامل بين الأمرين. هل ثمة سبب لإعلان هذه القطيعة بهذه الطريقة؟ ثمّ، وباستتباع منطقيّ مباشر، كيف تسلّل الطب النفسيّ إلى قصصك، وما تأثيره على كتابتك، خصوصًا وأن كثيرًا من شخصيّاتها هم ممّن قد نطلق عليهم -جُزافًا- وصف «المرضى النّفسيّين»، أمّا رواتها فهم من الأطبّاء؟

الطبّ أيضًا كان رحلة استكشافيّة لعالمٍ حلمتُ بارتياده منذ الصّغر، ثم عندما أوغلتُ فيه خشيتُ أن أتورّط في دوامته. الطبُّ بحرٌ عدتُ منه بذكرياتٍ مدهشةٍ عن جزرٍ إنسانيّة فريدة، ولعلّ تعبير الهجر يعكس طبيعة الطفل الذي لم يحبّ أبدًا أن يكون بين أربعة جدران، ماديّة أو معنويّة. ثمّ هناك جانب أخلاقيّ أخافني، فالطبّ مهنة رسوليّة، مهنة تتطلّب أن تكون لها بكلّ كيانك حتى تؤدّيها بالشّرف الذي تستحقّه، وكانت ندّاهة الكتابة تهدّد هذا الشّرف، فكان الهجر حتميًّا، أو هجر الكتابة. وأتذكّر عندما ذهبتُ إلى نجيب محفوظ لأشكره على ثنائه على كتابي الأوّل: «الآتي»، دون أن أهديه الكتاب (وكان ثناؤه تصريحًا منشورًا في مجلة «عالم الكتاب»، وهو أمرٌ نادر الحدوث عند نجيب محفوظ)، ذهبت إليه في جريدة الأهرام، وكان وحده في الجزء المسمّى «مجلس الحكماء»، وهو مكان به عدّة مكاتب كان توفيق الحكيم يشارك نجيب محفوظ في أحدها، لكنّ الحكيم لم يكن موجودًا، وسألني نجيب محفوظ: «عامل أيه في الجمع بين الطبّ والأدب»، أجبته: «عامل زيّ جوز الاتنين، لو راح لواحدة التّانية تخاصمُه»، فجلجلت ضحكته، وبدلًا من أن تكون زيارته لشكره مجرّد بضع دقائق، استمرّت ساعتين. الخُلاصة: كان حتميًّا أن أُخلص لواحدة، فاخترت الكتابة.

كثيرًا ما يُقال لي: أنت طبيب أسنان، وتكتب الأدب، ما علاقة هذا بذاك؟ وأُخاطر دومًا بتعزيز ذلك «الفصل ثمّ الرّبط» بالإيحاء بعلاقةٍ سريّة ما (على العكس من قناعتي): تشيخوف طبيب، يوسف إدريس طبيب، مع أن الكتابة تجربة إنسانيّة عامّة لا علاقة لها بالتخصّص والدّراسة، فكليّات الأدب لا تُخرّج الأدباء، وكذلك كليّات الطبّ، فهي تُخرّج المُمارسين، الفنّيين، لا «الحُكماء». الحكمة هي المعرفة معجونة بالإحساس والهضم والخبرة وبناء العلاقات. بالتأكيد أنّك تواجه (أو كنت تواجه) تعليقات من هذا النوع، فما هي رؤيتك لهذه العلاقة، إن كان ثمّة علاقة؟ ما الذي يجعل الأديب أديبًا؟ وهل من لحظة محدّدة عاينتها، انتقلت فيها إلى إنسانيّة الكتابة والحكمة، من محدوديّة التخصّص إلى كليّة الرؤية؟

هذا سؤال في وقته، فالكليّة التي تخرّجت منها (كليّة طب المنصورة) ستحتفل باليوبيل الذهبيّ لها بعد أسابيع، وقد اختاروني متحدّثًا، في هذا الاحتفال، إلى الخرّيجين، وهو في رأيي أعظم تكريمٍ أناله من هذه الكليّة «الأم»، ويفوق أقصى قيمة لأيّ تكريم. إنها الكليّة الأمّ، ليست في إرضاعي المعرفة الطبيّة فقط، بل التي غذّت كيانيّ الأدبيّ، فالمعرفة الطبيّة كانت كنزًا من القصص، وقد نهلتُ من هذا الكنز كثيرًا، ولا أزال في كل ما كتبته (سواء في الأدب، أو الصّحافة) مدينًا لهذا الكنز، وإن كان ثمّة تميّز في ما كتبته وأكتبه، فهو إدخال المعرفة العلميّة ذات النسيج الدراميّ، في تشكيل الكتابة، وهو أمر مختلف عمّا يُسمّى «أدب الخيال العلمي»، بل هو شيء قد أسمّيه: أدب الواقع العلميّ، واقعٌ يلامس الخيال عند صيّاد قصص مجبول على الدّهشة. الطبّ سحرٌ علميّ موجودٌ بقوّة في كتابتي، وأحبّ أن أُسمّي مُدهِشاتِهِ: «العلميّة السحريّة»، فالعلم (والطبّ علم) ينطوي على سحريّة مُدهشة، فقط تنتظر من يستخرجها، وأعتقد أنّني لامستُ كثيرًا حدود استخراجها.

سأبحث معك تأثيرات العلوم على كتابتك في سؤالين. هذا السؤال يختصّ بالفيزياء الحديثة، ومقولاتها عن الأكوان المتعدّدة والتواريخ المختلفة للحدث الواحد، والتي تتمثّل في قصّة «تلك الحياة الفاتنة» (من مجموعة «أوتار الماء»، 2002)، حين نعاين مصيرين مختلفين لقطّة مدهوسة واحدة، أو في قصّة «المختفي مرّتين» (من نفس المجموعة)، حين نعاين شيئًا شبيهًا مُعزّزًا بإمكانيّات السفّر عبر الزمّن. وهناك أيضًا اهتمامك بالتزامنيّات أو التوافقيّات الغامضة، والأشياء التي تظهر وتختفي هكذا دون مقدّمات، وهي مقولات تقع في مركز «الحدث الكمّي» كما يُنظر إليه في فيزياء الكمّ. ما هو تأثير الفيزياء على كتابتك؟ وهل قدّم لك هذا العلم أدوات (وليس فقط منظورات) للكتابة؟

الآن سأقسم لك بالله العظيم، وبرحمة أبي، أنّني كتبت هذه القصّة دون أن أعرف أُحجية «قطّة شرودنجر» التي تنتمي إلى نظريّة عدم اليقين لهايزنبرج ضمن العالم الكموميّ! كنتُ أعرف نظريّة هايزنبرج، وصغتُ هذا المصير المزدوج للكائن الحيّ في القصّة بشطح المخيّلة، وبالتّأكيد كان فضاءُ نظريّة الكمّ الخارق في وعيي، أو لا وعيي. لقد ذهلتُ عندما قرأتُ عن مسألة قطّة شردونجر التي في الصندوق المغلق واحتمال أن تكون ميّتة أو لا تكون، ذهلتُ وخفتُ من نفسي، من هذا التجلّي اللّاإرادي في كائن بشريّ تصادف أن أكونه في هذه الوقفة. نحن كياناتٌ أكبر ممّا فينا من لحم ودم. نحن نجهل حدودنا، التي هي أوسع ممّا نظنّ، بكثير.

عِلْمان آخران يشكّلان علامة مرجعيّة عندك هما البيولوجيا، وعلم الحيوان (zoology). كُنّا تحدّثنا في واحدٍ من لقاءاتنا عن الكيفيّة التي تُستخدم فيها الحيوانات وصِفاتها في سياق مجازات وتشبيهات باطلة وفاسدة، لعدم معرفة الكاتب بحقيقة سلوك حيوان معيّن، أو الرّكون لفهم عامّ خاطئ عن هذا السّلوك، مما يعني أن سطحيّة التشبيه تكشف سطحيّة الكاتب نفسه وانعدام جديّته. سيكون مفيدًا هنا أن تخبرنا عن هذا الجانب، هل تبحث في عالم سلوك الحيوان؟ من أين جاءك هذا الاهتمام؟

أعتقد أنّني كائن باحثٌ عن الدّهشة، ولن أملّ من تكرار ذلك، فالدّهشةُ ليست فقط أوّل الحكمة، بل هي مُفجّرة الشّغف، وكطفلٍ لطالما كان يُدهشني عالم الحيوان، إذ كان بيتنا في طرف مدينة المنصورة، تظاهره حقول قرية (صارت الآن ضاحية)، ومحيطٌ من مقابر لكلّ الطّوائف والملل من سكّان هذه المدينة التي كانت كوزموبوليتانيّة بالفعل، ولهذا كنتُ مُعايشًا لخبرة التعرّف على حشرات، وثعالب، وقنافذ، وذئاب، وحمير، وأحصنة، ودواجن، وطيور مختلفة، وكنت أنسحر بالسّلوك الفطريّ لهذه الكائنات. من هنا بدأ شغفي بعالم الحيوان كمعرفة علميّة لسلوكها، واكتشفتُ أن عرض هذه المعرفة، دون إنطاق الحيوان أو أنسنته (كما حدث كثيرًا في الأدب القديم، وحتى الحديث الموجّه للأطفال)، أمرٌ سحري بذاته، ثم كان تعمّقي في دراسة علم سلوك الحيوان (ethology) امتدادًا لهذا الشّغف وبه. هُم أممٌ أمثالنا -كما يقرّر المفهوم الدينيّ-، لهذا لم أتعامل مع الحيوان ككائن أدنى، بل كشريك، كأخ في الحياة، وهو أخ ساحر، وأكثر نقاوة من البشر الذين لوّثتهم مطامعهم كثيرًا.

في كتاباتك تعاطف كبير مع الطّبيعة في مواجهة عنف وعسف الإنسان، وهو تعاطف أشاركك فيه وأشتغل عليه في كتاباتي القصصيّة أيضًا. التأثير عليّ في هذا الجانب واضح ومفهوم ويشتقّ نفسه من حركات البيئيّين وحقوق الحيوان ومناهضة الزّراعة الصناعيّة، وهي كلّها تيّارات معاصرة وجديدة نسبيًّا، ومتأخّرة التّأثير على عالمنا العربيّ. كيف وصلت أنت إلى هذه الحساسيّة في وقت مبكّر، وقبل أن تحضر تأثيرات مثل هذه التيّارات في العالم الناطق بالعربيّة؟

هنا أيضًا ستجد نشأتي في مدينة المنصورة، فقد كانت مدينة جميلة جدًّا وعذبة، وكان الدكتور هيكل (صاحبُ رواية «زينب» الرّائدة) يسميها: «باريس الشّرق»؛ مدينة يشقّها النيل فتتمدّد على طول شاطئه بكامل بهاء حدائقها ومقاهيها الأنيسة، وكانت لي رحلة يوميّة بالزوارق الصّغيرة (أو «الفلايك») في النّيل، أستأجر «فْلُوكَة» وأُبحر في النّهر، وأرنو إلى جمال شجر، وحدائق، وعمائر، الكورنيش. وعندما قرأتُ أنّ صاحب ملحمة «الدّون الهادئ» الروائيّة، التي قرأتها كاملة في المرحلة الثانويّة، كان يقرأ ويكتب وهو في زورق ساهٍ على سطح الماء، حلمتُ بأن يكون لي زورقي الخاص، فلوكتي في النيل. وعندما حصلتُ على جائزة أدبيّة تتضمّن مبلغًا ماليًّا، سعيتُ فعلًا أن أكرّس المبلغ لشراء فلوكه، لكن سلطات الشّرطة النهريّة لم توافق! دائمًا يذهبون بظنونهم إلى الافتراض الأسوأ. الطبيعة البكر، أو الفطريّة، أو التي يصون بكارتها وفطريّتها البشر، سحرٌ جميلٌ أيضًا، ومدهش، نهلتُ منه مُبكّرًا.

عدّة قصص (خصوصًا في كتابك «حيوانات أيامنا»، 2006) تبرز فيها الحيوانات كنقطة انطلاق لاستكشاف عالم الإنسان، لجهة دراسة نوازعه الدّاخليّة، وعسفه وظلمه، لكن يظلّ الإنسان (بشكل أو بآخر) هو مركز الكتابة، هو هاجس الكتابة، منطلقها ومنتهاها على نحوٍ ما. هل ترى أنّك ما زلت من أصحاب النظرة التي تضع الإنسان في مركز الكون؟ ألم يحن الوقت -برأيك- لأن ننتقل إلى منظور ما بعد إنسانيّ -إن صحّ القول- يتعامل مع الإنسان والحيوانات وموجودات الكون الحيّة وغير الحيّة على قدم المساواة؟

الإنسان ليس في مركز الكون أبدًا، هو أحد مكوّناته، وهو كائنٌ مُشرَّف بإمكاناتٍ غير متاحة لغيره من الكائنات، ويفترض أن يحترم نفسه، ويحترم الوجود، بهذا التّشريف. لكنّه استخدم هبات تشريفه بشكل عدوانيّ، أنانيّ، إجراميّ، «سيكوباتيّ»، بطول التاريخ وعرضه. اقترف أكثر من جريمة كبرى لحرق الحياة في هذا الكوكب، وأتصوّر أنّه سيُشعل الحريق النهائيّ -أو شبه النهائيّ- فيه. وبهذا الجنوح، يتدهور الإنسان إلى ما دون الكائنات التي نسمّيها «حيوانات». هذه رسالتي، وقناعتي، ويقيني، فيما كتبته من دراما يتواجه، أو يتجاور، فيها الإنسان والحيوان.

في «لحظات غرق جزيرة الحوت» (1996) تقتبس عن ديفيد لورج مقطعًا يتعلّق بما تُسمّيه «رواية الحقائق القصصيّة»: الوقائع مضافًا إليها المُتخيّل، (fact + fiction، faction)، شيء يشبه الـ(Docudrama) في عالم الأفلام. سيأخذنا هذا مباشرة إلى قضيّتين: الأولى، أن كلّ مُتخيّل (مهما كان ذا طابع تهويميّ أو تجريديّ) له جذر في الواقع، يستند إلى الواقع، ولا يمكن التعبير عنه، أو تفسيره، أو تأويله، إلا بأشياء الواقع؛ أما الثانية، فتتعلّق بأن كلّ عمليّة كتابة (حتى ولو كانت توثيقيّة) هي إعادة إنتاج، إنتقاء، تأويل، إسقاط، استحضارٌ للماضي أو الذّاكرة في سياقات لها علاقة بلحظة الكتابة اللّاحقة عليها، بهذا المعنى تصبح كلّ كتابة هي كتابة مُتخيّلة. كيف ترى أنت هذه العلاقة الملتبسة/المتداخلة بين الواقع والمُتخيّل؟ هل ثمّة حدود واضحة بين الاثنين؟ وكيف تستخدم الوقائع في كتابتك؟

لدى الصّينين حكمة تقول عن المعجزات: «ليست معجزات، بل قوانين لم تُكتشف»، ورأيي أنّ المُتخيّل، أو ما نتوهّم أنّه مُتخيّل، ولو كنّا نصل إليه بعد تعمّق في البحث والشوق والشّغف، هو واقعٌ لم نتعرّف عليه بعد، وأتذكّر مقولة مُزلزلة لكارل جوستاف يونج يقرّر فيها: «نحن لا نتخيّل، نحن نرى»، وتصبح هذه المقولة أكثر حضورًا في واقع يتجاوز بغرائبه الخيال، لكنّها غرائب مؤلمة الآن. ومن ثمّ لا أفصل بين ما يُسمى: «واقع»، وما يُسمى: «خيال». ويكفي أن أذكر حقيقة أنّنا لو استعرنا من بعض الحيوانات أنماط من حواسّها الفائقة، في الشمّ مثلًا -كالكلاب-، أو في سماع ما دون الصّوت -مثل الأفيال-، فأيّ سحر خياليّ سنرى؟ وعلى فكرة، هناك حالات من التغيّرات العضويّة النفسيّة عند البشر تحدث لها هذه التجليّات المُذهلة، تصوّر!

أثناء زمالتي الأدبيّة في مركز بيلاجّيو في إيطاليا التابع لمؤسسة روكفلر الأميركيّة، تعرّفت إلى الكاتب والطبيب ومؤرّخ الطب والباحث الأكاديميّ الأميركيّ هاوَرد ماركِل، وهو شخصيّة موسوعيّة في الطبّ والفنّ والأدب والثّقافة، وأثناء نقاشاتنا المتعدّدة معًا ومع بقيّة الزملاء من الحاصلين على زمالة الإقامة الأدبيّة، كان لهوارد موقفٌ حادٌّ جدًا ضدّ استخدام التاريخ والوقائع التاريخيّة في الكتابة المُتخيّلة، أو تخييل التاريخ، وباعتباره مؤرّخًا، كان يرى أن المُتخيّل التاريخيّ يفسد الرواية التاريخيّة الحقيقيّة، التي -بالنسبة لي- هي رواية ضمن عدّة روايات، قد تكون رواية الأقوى أو المنتصر، وقد تكون «كذبة مُتّفقًا عليها» بحسب الاقتباس الشهير المنسوب لنابليون، بينما قد يُشكّل المُتخيّل فرصة لأصوات صودرت مساحتها في القول. لكن -طبعًا- لا يُمكن أن نغفل وجاهة اعتراض هاوَرد إن انطلقنا من معايير البحث العلميّ. استنادًا إلى إجابتك السّابقة، وإلى اشتغالك الواسع في الكتابة التسجيليّة والمتخيّلة وما بينهما، إلى أيّ الرأيين تميل؟

أميلُ تمامًا إلى رأي هذا الرّجل الرّائع، وأحسدك على معرفته والتعرّف على رأيه النافذ ذاك. المُدهش موجودٌ في الواقع، والبحثُ عن عمق الواقعيّ في التّاريخ يمكن أن يُنتج ما يفوق الخيال أو التّخييل، المهمّ هو اصطياده من بين أو تحت أمواج السّطح. أعماقُ التاريخ -كأعماق البحار والمحيطات- تتطلّب غوّاصين أشدّاء للوقوع على موجودات تتجاوز بغراباتها ما نعرفه من واقع. لقد تمّ تلويث مفهوم «الواقعيّة» بافتعال التّجديد، لهذا أحترم جدًّا فرسان الواقعيّة السحريّة اللاتينيّة، فهم غوّاصون رائعون ذهبوا إلى أعماق الواقع، فاستخرجوا منه كنوز السّحر. لهذا أصدّق تمامًا العملاق جابرييل جارثيا ماركيز، عندما صرّح بأنه مستعد لإثبات واقعيّة كل ما يبدو خيالًا في رواياته.

كتابك «مساحة صغيرة للدّهشة» (2015) هو «تجربة في المقال القصصي». «لحظات غرق جزيرة الحوت» هو كتاب في «رواية الحقائق القصصيّة». «سفر» (1990) هو «متتالية قصصيّة»، أما «البستان» (1992) و«رشق السكّين» (1984) فـ«كتب قصصيّة». وأخيرًا: ومع أنّها بحثٌ في الحدث لا في تطوّر الشخصيّات (أي هي قصّة بحسب رؤيتي)، إلا أنّك صنّفت «بيانو فاطمة» (2018) على أنها «نوفيلّا»، أما «البحث عن حيوان رمزي جديد للبلاد» الملحقة بها فـ«تكريسة». كأنّك تبحث عن شكل، أو لأكون أكثر دقّة: تبحث في الشّكل، وأقصد هنا: الشكل الفنيّ للقصّة. يقول رَسّل بانكس عن القصّة «أنّها ما تزال في طور الاختراع»، هل توافق على هذه المقولة؟ وهل تمارس القصّة كلّ مرّة باعتبارها اختراعًا أو اكتشافًا جديدين تستدعي هذه التوصيفات المختلفة؟

بالتّأكيد، القصّة الجيّدة اختراع، وقد قال ذلك يوسف إدريس أيضًا، ولا أعتقد أنه اطّلع على مقولة رسّل بانكس، فالقصّة، خاصّة الموجزة، هي اختراعٌ لأنّها مُؤسَّسة على ثيمة، تفنينة، ومتى ما وجدت هذه الثّيمة أو التّفنينة، يصبح بناء القصّة يسيرًا وتلقائيًّا، والثّيمة ابتكار، اختراع. نعم، القصص الجيّدة اختراعات.

دائمًا ما تعترض على وصف القصّة بـ«القصيرة»، وبتأثير من حديثٍ معكَ في عمّان أوائل عام 2015 حَضَرَتْ فيه (إلى جوار نخبة من الكتّاب) القاصّة بسمة النسور مديرة ملتقى عمّان للقصّة القصيرة في حينه، تم تغيير اسم الملتقى منذ ذلك الحديث ليصبح «ملتقى عمّان للقصّة»، ونقطة. اليوم تنهال علينا الأسماء الفرعيّة من كلّ حدبٍ وصوب: القصّة القصيرة، القصّة القصيرة جدًّا، القصّة الومضة، القصّة التوقيعة، القصّة القصيدة، الأقصوصة، وغيرها؛ وبعض هذه التّفريعات تأخذ سمت التّنظيم الحزبيّ، أو مجموعة المُريدين المتعصّبين. لعلّك تُعلمنا عن رأيك فيما يتعلّق بوصف القصّة بمختلف أشكالها باعتبارها «قصّة» وكفى، وفي ذات السياق، إن كان ثمّة تعريف للقصّة لديك.

يا أخي، عمالقة الكلاسيكيّات العالميّة كانوا يسمّون رواياتهم قصصًا. دوستويفسكي يتكلّم عن رواياته بتعبير: «هذه القصّة»، فكلّها أشكال إبداعيّة تنتمي إلى مملكة القصّ، رحاب الحكي، ولا أعرف لماذا ترجموا ذلك إلى: «سرد»، هو حكي، وأن يكون طويلًا أو قصيرًا لا يهمّ، المهمّ أن يكون حكيًا جذّابًا ، والجاذبية هذه لا تنبع من مُدهشات الحكاية فقط، بل من تقنيّات حكيها. المريب، والمقزّز، أن التّسويق والتّرويج للرّواية بشكل خيلائيّ، كان القصد منه هو قتل فتنة الإيجاز في القصّ، وهي فتنة لا يقدر عليها إلا فنّانو صاغة الذّهب. الإيجاز هو الموهبة، وأظنّ أن هذا المعنى ذهب إليه تشيخوف العظيم؛ وبالمناسبة، تشيخوف كان روائيًّا عظيمًا في قالب الرّواية الموجزة أو النوفيلّا، لنُراجع أعماله (التي قرأتها جميعًا)، معظمها نوفيلّات. من يقول لي أنّ «عنبر 6» أو «الفلّاحون» أو «الرّاهب الأسود» ليست نوفيلّات، ونوفيلّات مذهلة التّكثيف والسّحر؟ لهذا كله أجدني -على غير طبيعتي- أتشاجر مع أدعياء تفوّق شكل أدبيّ على آخر. الجودة ينبغي أن تكون المعيار في الحكم على أيّ شكل سرديّ أو حكائيّ، طال أو قصر، أسهب أو أوجز.

يُسكت عن كثير من الأمور في قصصك وتُترك للقارئ، وهو أمر ملفت ويبدأ من أولى كتبك القصصيّة: «الآتي» (1983)، وكأن العنوانّ يصف سياق القصص، بأنّ القصّة هي ما سيأتي بعد الكتابة، ما سيُضاف من حياة جديدة للنصّ بعد قراءته، الأمر الذي سيأخذنا مباشرةً إلى العلاقة الملتبسة دومًا مع القارئ. ما شكل العلاقة التي يجب أن تنشأ بين الأديب والقارئ؟ تحضرني هنا إجابة أحمد بوزفور لسؤال شبيه قال فيه إنّه يكتب لقارئ محدّد في رأسه ويخشاه، وقد يكون هذا القارئ العجيب كناية عن ضميره النقديّ الحاضر باستمرار. هل يحضر القارئ معك أثناء الكتابة؟ هل تكتب لقارئ محدّد؟

لم أضبط نفسي متعمدًّا الكتابة إلى قارئ معيّن. حال أذهب إلى الكتابة، كلّ ما يكون مسيطرًا عليّ هو احتشادي لكتابة شيء أستشعر أنّه مدهش. ممكنٌ أن أنجح، وممكنٌ أن أخفق، أما القارئ المعيّن، فهو شخص (رجلًا كان، أو امرأة) تحب أن يقرأ ما كتبته، على اعتبار أنّ كل كتابة إبداعيّة تنطوي على رسالة ما، والرّسالة في الإبداع لا تكون متعمّدة أو قصديّة، لعلها لا إراديّة أو لا واعية. عند الكتابة للصّحافة، الأمر مختلف، وفيها أنت تتخيّل من سيقرأ -أو يقرأون- هذه الكتابة/الرّسالة القصديّة. الإبداع الفنيّ -عمومًا- أعلى من واعية الفنّان وأقرب إلى الخافية (وهي ترجمة أحبّها لمصطلح «ما تحت الوعي» أو «اللّاشعور»)، وعلم الأعصاب الحديث، والمتقدّم بدرجات خارقة، يثبت أنّنا مسكونون بهذه الخافية المدهشة، التي لانستدعيها، بل تتداعى إلينا، مُنقذة، مُلهمة.

نحن أكبرُ من مادّتنا، نحن أرحبُ من تخطيطاتنا، لكنّنا كائنات مغرورة، ولن ينقذنا إلا أن نتواضع، لأنّ غرورنا يفضح شعورنا المهين بالضّعف، بينما نحن لسنا ضعفاء إذا تواضعنا، وهذا سرّ أعجوبة تشيخوف. بالمناسبة: أعيدُ قراءته الآن لمرّة جديدة، لا أعلم بالضّبط القراءة رقم كم. تصوّر: هناك من كُتّاب هذه الأيام من لم يقرأوا تشيخوف!

رغم كثير من «النّهايات السّعيدة» في قصصك، والشموس التي تشرق، والمهمومين الذين يطردون بؤسهم بالغناء، إلا أن حزنًا شفيفًا، وشجنًا «ميلانكوليًّا» عميقًا يظلّ يسير في أعماق النصوص بلا توقّف، ويُلقي بظلاله بما يغطيّ المساحة اللّاحقة للقراءة. شجنّ يُحسّ ولا يُلمس، وهو الشيء الذي -برأيي- يجعل من كتابتك متميّزة وفريدة، ويجعلني أصفها بأنّها تمثّل «حساسيّة جديدة» عند الكاتب وكتابته من جهة، وتشتغل عميقًا على مستوى أحاسيس المتلقّي (وليس فقط وعيه المباشر) من جهة ثانية. كيف وصلت إلى هذا النوع من الكتابة؟

أعتقد -مرّة أخرى- أنّنا عندما نكتب، لا نكون متوجّهين إلى قارئ بعينه، أو متلقٍّ بذاته، أو حتى جمهرة من القرّاء. إحساسي أنّنا نكتب لأنفسنا، لأشواقنا المضمرة، لندغدغ أحلامنا، وأنت عندما تذهب في نشوة من هذا النّوع، فإنّك تؤثّر في الخلايا المرآوية التي ثبت وجودها في أدمغة القارئ، وأحاسيسه، وحصاد رحلته في الحياة، شجنكَ يُشجن، رعشتكَ تُرعش، دفئكَ يُدفئ. أظنّ أنّ الأدب (الذي هو في أفضل تعريفاته: «سجلّ المشاعر») يُشعل مشاعر المتلقّين باشتعال مشاعر المُرسل.

أختم بسؤال صار تقليديًّا ومكرّرًا في سلسلة المقابلات هذه، لكنّي أراه مهمًّا وضروريًّا وكاشفًا: لماذا بدأت بالكتابة؟ ولماذا تستمرّ بالكتابة حتى اليوم؟ وهل ثمّة جدوى ما تتحقّق من فعل الكتابة؟

بدأتُ بالكتابة لأنّني أحببت القراءة التي كانت تتجاوب أصداؤها في نفسي. ومضيتُ في الكتابة لأنّها نوع من «الاعتراف» بالمعنى الروحيّ والتطهيريّ النفسيّ. ينجح مرّة، ولا ينجح في أخرى، وحتى النّجاح له درجات، لكنّ البوح مريح، وحمدًا لله على هبة هذه الأداة التي تجلب الرّاحة بالتّنفيس أو التطهّر أو الاعتراف. ولهذا، بالضّبط، سأظلّ، ويظلّ غيري من الكتّاب، يكتبون التماسًا لكل ذلك الحنوّ الذي تقدّمه الكتابة لهم. أمّا أنّها مجدية أو غير مجدية، فأظنّ أنّ بها جدوى ما، ولو في حسّ التّشارك في الأفراح والأتراح البشريّة، بدليل أنّني أقرأ، وأستمتع بالقراءة التي يمسّ ما بها ما بي.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية