رأي

هل بقي شيء تقوله «موسم الهجرة إلى الشمال»؟

الأحد 09 تشرين الأول 2016
الصورة لموقع قديتا عن مدونة باسم Book Reviews.

ربما لم يُكتب عن رواية عربية كما كتب عن رواية «موسم الهجرة إلى الشمال»، ولم يدخل كاتب عربي التاريخ بعمل واحد كما فعل الطيب صالح.

كانت الرواية أسطورته التي سيعجز هو ذاته لاحقًا عن مجاراتها، لتكون رواياته الأخرى مجرد ظلال للعوالم التي خلقتها موسم الهجرة. وإذا كان العرب قد فُتنوا بالرواية إلى درجة إصدار العشرات من الكتب والمقالات حولها، فإن الأكاديميا الغربية قد أخذت هي الأخرى حظّها من التحليل والتعليق عليها. وقد نقل الحقل المعرفي المسمى «دراسات ما بعد الاستعمار» الرواية إلى صلب الأكاديميا في الولايات المتحدة تحديدا، حيث وجدت فيها هذه الدراسات نموذجًا كلاسيكيًا لرواية ما بعد الاستعمار، وغدت موسم الهجرة الرواية شبه المفضّلة من الأدب العربي لأعلام هذه الدراسات كي يحللوا عبرها مفاهيمهم عن التبعية والآخر والهوية النقية والمنفى. ويكفي أن اثنين من شيوخ دراسات ما بعد الاستعمار قد كتبوا عنها، بدءًا بإدوارد سعيد الذي قد يعود إليه فضل إشهار العمل في الولايات المتحدة حين أشار إليه في كتابه «الثقافة والإمبريالية»، وانتهاء بغاياتري سبيفاك التي خصصت له جزءًا كبيرًا من كتابها «موت تخصص». هذه الشهرة التي نالتها الرواية لا تعني أنها أصبحت متداولة بين القرّاء غير المتخصصين أو المهتمين في العالم العربي، وحتى بين المهتمين. فهي ما زالت، كمثيلاتها في الأدب العربي، تُقرأ لغايات غير أدبية؛ في سياق دراسات سياسية واجتماعية عن منطقتنا.

بعد خمسين عامًا من ظهور الرواية، لا تزال رواية موسم الهجرة إلى الشمال طازجة، كيوم ولادتها. وفي السياق الذي نشهده من موجات اللاجئين والمهاجرين وموقف الدول الأوروبية من ذلك، فإن الرواية تكتسب معاني جديدة، وتمنح القارئ فرصة لرؤية الأحداث بطريقة مدهشة.

قيل الكثير عن معنى بطل الرواية مصطفى سعيد، واختفائه، وهوس الراوي به، وحضور الجنس في الرواية، سيما في علاقة مصطفى سعيد بشخصية جين مورس. واتفق أغلب الدارسين على أن مصطفى سعيد وعلاقاته الجنسية رموز تستخدمها الرواية للتعليق على رؤيتها الخاصة لعالم ما بعد الاستعمار، وجورج طرابيشي من الذاهبين إلى أن مصطفى سعيد يجسد الشخصية المصابة بانفصام الموقف تجاه الغرب: مزيج من الحب المفرط لثقافته وعوالمه، والكره الشديد للاستعمار الذي جلبه الغرب لعالمنا، وهو ما حاول سعيد الانتقام منه على طريقته الخاصة عبر السعي نحو تدمير من أحببنه من النساء البريطانيات. وحين عاد مصطفى سعيد لبلده السودان وحاول التصالح مع ذاته اكتشف أنه لم يعد هو ذاته، فالهوية النقية لا مكان لها في عالم ما بعد الاستعمار.

بعد خمسين عامًا من ظهور هذه الرواية، لا تزال رواية موسم الهجرة إلى الشمال طازجة، كيوم ولادتها.

إن جزءًا من عشق المثقفين العرب لشخصية مصطفى سعيد يعود ربما إلى تمثيله الكامل لجيل الأزمة الحضارية هذا: الجيل الذي هزّه عالم الاستعمار وجعله يسائل ذاته وهويته، ليكتشف لاحقًا أنه لا من هنا ولا من هناك. مأساة مصطفى سعيد هي مأساة هذا الجيل: كيف نصالح بين الغرب في استعماره وعنفه، والغرب في روائعه الإنسانية وفتوحاته العلمية التي نقل مصطفى كتبها معه إلى قريته السودانية؟ الغرب هنا هو ذاته الغرب هناك. وقع الاستعمار إذن، ولا سبيل لإرجاع الساعة إلى الوراء. ما العمل؟ اختار مصطفى سعيد المواجهة، لكنها المواجهة التي تعرف مسبقًا أنها تكره بقدر ما تحب، وتخطو للأمام بقدر ما تنسحب إلى الخلف.

كان مصطفى مشدوهًا بالثقافة التي وجدها في بريطانيا في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي -وهي السياق الزمني لفترة وجوده هناك- ولم يتردد لحظة في الانغماس التام في الأوساط الثقافية والفكرية التي عجّت بها لندن في مرحلة ما قبل الحرب العالمية الثانية. لكنه، في الوقت نفسه، يلبس لبوس المتوحش الجنسي الذي يخطف قلوب البريطانيات وأجسادهن قبل أن يتركهن على أبواب الانتحار. والعجيب في الرواية أن مصطفى سعيد استخدم في علاقاته النسائية سلاح الاستشراق ذاته الذي رأى أن المجتمع يستخدمه ضده. تراه بعض فئات المجتمع البريطاني أسود، متوحشًا، شبه بربري، بدائيًا، جنسانيًا، فليكن. هذه هي الميزات ذاتها التي أغوى بها مصطفى ضحاياه البريطانيات. ضحية الاستشراق هنا تحاول الانتقام عبر استخدام الصفات الاستشراقية ذاتها للإيقاع بنساء هن أنفسهن ضحايا الصورة التي رسمتها الإمبراطورية البريطانية عن الآخر العربي الإفريقي. ومصطفى سعيد يعي وضعه الكولونيالي الحرج هذا، ويؤكد مرارًا، عبر نفيه أن يكون كعطيل شكسبير في تكراره لعبارة «أنا لست عطيل»، على أنه ارتكب ما ارتكبه مع النساء البريطانيات عن سابق وعي وقصد، لا عن غيرة ذكورية محضة. كانت جميع النساء البريطانيات اللواتي تعرف عليهن مصطفى سعيد مسحورات بالشرق وعوالمه المتخيلة. كن يسألنه وهن مشدوهات عن تلك الأكاذيب التي روّجها الاستعمار عن الشرق: عن لباسهم وروائحهم وأنهارهم، وكان مصطفى سعيد يعيد ترويج الأكاذيب ذاتها عبر تأكيدها. وإيزابيلا سمور، إحدى أكبر ضحاياه في الرواية، ذهلت لمجرد أنها سمعت من مصطفى سعيد أنه كان يعيش على ضفاف نهر النيل، مع ما بعثه ذلك من خيالات واستيهامات جنسية وشبقية رسمها الاستعمار لشعوب النيل. والغرفة التي خلقها مصطفى سعيد هي نقل كامل للشرق، كما يراه الغرب، بعطوره وروائحه وعوالمه، إلى قلب لندن.

الدرس الذي تقدمه الرواية، في اختفاء الهوية النقية، ينطبق على مجتمعاتنا كما ينطبق على المجتمعات الأوروبية، سواء بسواء.

وحدها جين مورس من وضعت حدًّا لجموح مصطفى الجنسي وتلذذه بالانتقام من الآخر الغربي. جين، التي يرى جورج طرابيشي أنها تمثل الحضارة الغربية المتفوقة التي تدرك بالضبط هذا التفوق وحجمه، أدارت مصطفى على ساقيه أعوامًا، وأهانت كبرياءه، ورفضت، حتى بعد زواجها منه، أن تمارس معه الجنس إلا بشروطها. وشروطها، التي انصاع لها مصطفى سعيد ذليلًا، تمثلت في أن يعطيها مزهرية ومخطوطة وسجادة صلاة وأشياء أخرى من الواضح أنها من لوازم «الشرق» ومتعلقاته، كي تقوم في النهاية بحرقها وتدميرها وإتلافها. كي تملك الغرب، أو شيئا منه، كما يرى طرابيشي، يعني أنّ عليك حتمًا أن تخسر جزءًا من ذاتك أيها الآخر. وذروة العنف في علاقة هاتين الشخصيتين تجسدت في ذلك المشهد الصاخب الذي «سلّمت» فيه جين نفسها لمصطفى سعيد، الذي مارس معها الجنس وقتلها في الوقت ذاته، وهي مرتاحة راضية. وإذا اتفقنا مع طرابيشي بأن جين مورس رمز للغرب الذي يفرض شروطه على الشرق نظرًا لتفوقه، فكيف نفسر موتها إذن؟ هل قصد الطيب صالح في مشهد كهذا أن يحقق رغبة عنده وعند غيره من المثقفين العرب في «موت» مشتهى ومتمنى للحضارة الغربية وعنفها ضدنا؟

لا، لم يمت الغرب، لكنه لم يعد غربًا، وهو سرّ الدهشة التي يشعرها من يقرأ الرواية مؤخرًا وعينه على ما يحدث حولنا. إن عالم ما بعد الاستعمار قد وضع حدًا للانفصال بين الشعوب، وقد نقضي السنين أسفًا وتحسرًا على أن الطريقة التي أصبح فيها العالم عالمًا واحدًا قد تمّت عبر لقاء عنيف ومدمر بين أوروبا (وأمريكا) من جهة وما سواها من جهة أخرى. لكن ذلك حدث، كرهنا أم أحببنا، والعالم الذي نتج عنه عالم متمازج خليط، لا يمكن إغلاق الأبواب فيه ولا حماية ما يسمى بالأصالة والهوية. مصطفى سعيد أدرك ذلك، رغم محاولته، عبثًا، أن يقاومه. مجتمعات ما قبل الاستعمار اختفت إلى غير رجعة، وحلّ مكانها مجتمعات أخرى. شرقية أم غربية؟ كلاهما، أو بالأحرى لا شيء منهما، فليس ثمة غرب أو شرق بعد الاستعمار.

لكن الذي اختفى، أو فرض عليه أن يختفي، ليس مجتمعات ما قبل الاستعمار وطرائق معيشتها فحسب، بل أوروبا ذاتها. ضريبة الاستعمار هذه يجب على الكل أن يدفعها: منتصرين ومهزومين. لن تبقى أوروبا محتفظة بما يسمى «هويتها الخاصة» في عالم ما بعد الاستعمار. لا يمكنك أن تستعمر العالم وتجعله واحدًا ثم تجلس مرتاحًا في طرف قصيّ منه وأنت سعيد بقيمك وعوالمك. في الرواية اختفى مصطفى سعيد، لكن جين مورس ماتت أيضًا، وهي النتيجة الحتمية لعالمنا الجديد الذي نعيشه منذ قرن ونصف تقريبًا. لكن قضية اللاجئين وإشكالية الهوية التي تطرحها أوروبا على نفسها جرّاء استقبالهم أعادت السؤال إلى الواجهة. فرنسا مثلًا تعيش هذا الصراع، وتحاول دومًا أن تحافظ على ما تسمّيه قيم الجمهورية، وتفرض على المهاجرين أسلوب حياة قد لا يتفق مع ما يراه هؤلاء طريقة مناسبة للعيش حسب قناعاتهم. والسؤال دومًا: أليس من حق فرنسا وأوروبا أن تحفظ قيمها التي رسّختها على مدار السنين؟ أليس من حق فرنسا، ببساطة، أن تظل فرنسا؟

موسم الهجرة تقدم جوابًا: كلا، ليس من حق فرنسا ولا أوروبا ذلك. ليس من حقك أن تكون مستعمرًا لسنين وتغير العالم ثم تطلب من العالم أن يتركك وحدك. الدرس الذي تقدمه الرواية، في اختفاء الهوية النقية، ينطبق على مجتمعاتنا كما ينطبق على المجتمعات الأوروبية، سواء بسواء. وتخيل وجود هوية فرنسية أو ألمانية جوهرية متجاوزة للتاريخ سذاجة كبرى، تمامًا كتخيل وجود شخصية عربية أو إسلامية. الجاليات الجزائرية والمغربية في فرنسا ليست موجودة هناك بناء على صدفة تاريخية، ولا لمجرد السعي نحو حياة أفضل، بل هي موجودة أساسًا نتيجة للاستعمار الذي بدأته فرنسا في الجزائر، وهذه الجاليات، في فرنسيتها، لا تقل شأنا عن أي فرنسي آخر: فرنسا هي المكان الذي يحتضن الجميع، بشروط من حق الجميع المشاركة ديمقراطيًا في وضعها، وإلا فإن الاضطهاد هو النتيجة. ولا يمكن لفرنسا التعامل مع بعض مكوّنات المجتمع باعتبارها حالات طارئة لا تنتمي إلى «فرنسا» الحقيقية. فما هي فرنسا الحقيقية؟ فرنسا يصنعها الفرنسيون، ويعيدون صناعتها دومًا، والفرنسيون اليوم أجناس وأعراق وأديان شتى. وما ينطبق على فرنسا ينطبق، بالطبع، علينا نحن.

مصطفى سعيد وجين مورس حكاية بليغة لانتهاء «تمامًا» من القاموس البشري؛ لا وجود لفرنسي تمامًا، ولا أمريكي تمامًا، ولا فلسطيني وسوري ومغربي تمامًا. وقد أشار طلال أسد مرّة إلى أن قضية اللاجئين في أوروبا تشير إلى مشكلة أوروبا ذاتها قبل أن تشير إلى مشكلة اللاجئين: أوروبا التي لا تزال تصرّ على أنها ذات هوية ثقافية مشتركة تفصلها عن الآخر، والتي تريد أن تعيش، في اللحظة نفسها، ما قبل وما بعد الاستعمار. تريد، بمعنى آخر، أن تكون «أوروبا» عصر النهضة تمامًا، بكل ميزاته، و«أوروبا» الاستعمار تمامًا، بكل مكتسباته، وهو ما يستحيل تحقيقه.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية