صول | شوستاكوفيتش وستالين: عن الموسيقى في ظل القمع

الإثنين 02 أيار 2016
shostakovich

على امتداد أكثر من قرن، والرقابة على الموسيقى والفنون المسرحية تعيش عصرها الذهبي، كما تؤكد مئات القصص من أماكن مختلفة من حول العالم؛ سواء أكانت النهاية الدرامية للباليه الوطني الإيراني عام 1979، أو إلغاء عرض أوبرا «موت كلينجهوفر» في نيويورك عام 2014. لكن قصة المؤلف ديميتري شوستاكوفيتش (1906-1975) تبقى الحالة الأكثر خصوصيةً وإذهالًا، ليس بسبب تفاصيلها الصادمة فحسب، بل لقدرتنا على التواصل المباشر مع نتاجها الموسيقي، ورؤية انعكاسنا فيه.

في بداية القرن العشرين، تفجرت في روسيا حركات فنية طليعيّة خصبة، تطلعت إلى خلق لغة ثورية تناسب القرن الجديد، حمل رايتها أتباع سكريابين (Scriabin) في الموسيقى، وكاندينسكي (Kandinsky) وماليفيتش (Malevich) في الفن التشكيلي، أسماء ساهمت بتغيير الطريقة التي نرى فيها الفن اليوم. كانت نهاية هذه الحركات مع وصول الديكتاتور جوزيف ستالين إلى الحكم عام 1922، حيث رأى أن الفن الحقيقي الوحيد هو الواقعية الاشتراكية، وهي نوع من الفن البصري المباشر والعقائدي، وظيفته الوحيدة هي التغني بفضائل الشيوعية عن طريق المبالغة في تصوير مثالية الحياة اليومية في المصانع والحقول وساحات النضال ضد الرأسمالية.

أما موسيقيًا، فقد أُلزم المؤلفون بأسلوب «هادف» مماثل يتشبث بالموسيقى التراثية والكلاسيكية الصارمة، مما أدى أوتوماتيكيًا إلى وضع عشرات المؤلفين على القائمة السوداء لميولهم نحو أساليب مختلفة، مثل سترافينسكي (Stravinsky)، الذي هرب إلى باريس ليصبح أحد أهم المؤلفين في التاريخ، أو حتى بروكوفييف (Prokofiev) ورخمانينوف (Rachmaninov) الأكثر تقليديةً، واللذين اضطرا أيضًا للهرب بعد التضييق عليهما.

في هذه العزلة والظروف المضطربة، عاش ديميتري شوستاكوفيتش (Shostakovich) شبابه وكتب أعماله الأولى التي صعدت به إلى الشهرة.

تميز أسلوب شوستاكوفيتش بابتعاده عن الرومانسية وبشخصيته المنطلقة والساخرة، الأمر الذي لم يناسب تطلعات ستالين. ففي عام 1934، تجاوز شوستاكوفيتش الخط الأحمر بأوبراه «ليدي ماكبث من ضاحية متزنسك» (Lady Macbeth of the Mtsensk District) التي تستبدل قصتها صورة القروي السوفييتي المثالي بشخصيات إنسانية ذات عواطف مضطربة قادرة على الحب والإجرام. القصة وموسيقاها العنيفة أثارتا غضب ستالين الذي غادر أحد العروض من منتصفه غير راضٍ عمّا سمع.

لقد كان ستالين يدرك تمامًا مدى خطورة الفن التي تكمن في قدرته على الانتشار اللامحدود وعلى تمويه نواياه، وهو ما جسّده شوستاكوفيتش الذي صارت له شعبية عالمية، وبدأت موسيقاه تتطاول على تعليمات الواقعية الاشتراكية وتهدد بنسف البروباجاندا السوفييتية. بعد يومين من العرض، وبتوجيهات مباشرة من ستالين، نشرت صحيفة برافدا الحكومية مقالًا هجوميًا اتهمت فيه الأوبرا بالبرجوازية وبالابتعاد عن الموسيقى الشعبية المفهومة، وهددت المؤلف متهمةً إياه بتجاهل متطلبات الثقافة والتقدم.

فهم الناس يومها أن حرمان شوستاكوفيتش من رضى ستالين قد يعني أن تصفيته أصبحت مسألة وقت، فأخذ زملاؤه في الوسط الفني بالانقلاب ضده خوفًا، بعد أن كانوا أنفسهم قد مدحوا الأوبرا في الصحف. مُنعت ليدي ماكبث بالرغم من شعبيتها الهائلة، وقرر شوستاكوفيتش إلغاء عرضه المرتقب للسيمفونية الرابعة، عملًا بنصيحة أصدقائه الذين رأوا أن نبرتها الحادة ستزيد الطين بلة.

قرر شوستاكوفيتش إنقاذ نفسه بسيمفونيته الخامسة، التي أعطت ستالين كل ما يريد سماعه من مارشات عسكرية وموسيقى جدية وشاعرية، والأهم خاتمة مبهجة وانتصارية، ربما أكثر من اللازم، يكرر فيها شوستاكوفيتش النوتات مثل المهووس وكأنه يرميها في وجه الجميع. وحتى اليوم تثير السيمفونية الخامسة الجدل بسبب أسلوبها وجديتها المصطنعة مقارنةً بأخواتها. لاحظ الجميع تحسن سلوك شوستاكوفيتش، وقبِل ستالين هذه التوبة الرمزية، مدركًا أن شعبية شوستاكوفيتش في روسيا والغرب ستوفر له دعاية لن يستطيع باقي مؤلفيه توفيرها. وبالرغم من استمرار منع أوبراه، عاد شوستاكوفيتش ليصبح المؤلف الرسميّ الأول للاتحاد السوفييتي.

مع انزلاق أوروبا نحو الحرب، أطلق ستالين عام 1937 ما سمي بالتطهير الكبير، وأخذ شوستاكوفيتش يراقب أصدقاءه وأقرباءه يعتقلون ويقتلون واحدًا تلو الآخر، كالملايين من السوفييت الذين أرسلوا ليموتوا في أقبية التعذيب وفي معسكرات سيبيريا تحت ذريعة الخيانة والتآمر، والذين كان من بينهم مئات الفنانين والمفكرين.

منصب شوستاكوفيتش كمؤلف حكومي لم يعفه من الاستدعاء للتحقيق بذريعة معرفته بمؤامرة لاغتيال ستالين. بدا وكأن الأمور تسير نحو الهاوية، فمع العام 1941 هاجم النازيون روسيا، وخضعت مدينة شوستاكوفيتش، لينينجراد (سانت بطرسبرغ)، لحصار مدمر استمر أكثر من سنتين. عاشت سيمفونيته السابعة التي كتبها آنذاك  مجدًا أسطوريًا بالرغم من موسيقاها المشتتة والضعيفة، وحتى بعد انتصار الحلفاء وبدء الاحتفالات، أدرك شوستاكوفيتش أن المنتصر الوحيد هو ستالين، وأن البلد كانت في طريقها إلى المزيد من الهلاك.

شوستاكوفيتش الذي لطالما كان شابًا خجولًا وهشًا ودائم التوتر، لم يلبث أن اكتسب، بعد تلك الفترة، سخريةً سوداء ومبطنة تجاه كل شيء، فسيمفونيته التاسعة لعام 1945 والتي كتبت مباشرةً بعد النصر، هوجمت بحجة «ضعفها الأيديولوجي» وخفّتها، مع أنها لا يمكن أن توصف بأقل من سوداوية بالنسبة لمستمع اليوم، وحتى خفتها كانت من النوع المسموم الذي يسخر من ستالين ويحول مسيراته الاحتفالية، في الحركة الأخيرة، إلى مواكب خرقاء وفاجرة. عاد الغضب لينصبّ على شوستاكوفيتش مجددًا، فسيمفونية دون إهداءات وطنية وخاتمة تمجيدية كبيرة هي سمفونية ممنوعة حكمًا. وهكذا صدرت مذكرة «جدانوف» التي منعت على إثرها السيمفونية التاسعة مع سابقتها الثامنة، والتي كانت السلطات قد أطلقت عليها اسم معركة «ستالينجراد» كمبرر لقتامتها التي لا تليق بصورة المواطن السوفييتي السعيد.

بعد طرده من معهد لينينغراد للموسيقى، أجبر شوستاكوفيتش على كتابة موسيقى أفلام لكسب رزقه، والتي كان بعضها من أردأ ما كتب. كانت تلك الأفلام رغم مواردها الإنتاجية الهائلة خالية من أي قيمة فنية أو فكرية، وظيفتها الوحيدة تمجيد ستالين وإقناع الناس أنهم في ذروة المجد. وصار شوستاكوفيتش يخبئ أعماله الجدليّة بعيدًا عن الأعين، مثل كونشيرتو الكمان الأول التي تقترب حركاتها البطيئة من اللامقامية (atonality)، بينما تنم أعمال الحجرة التي كان يكتبها لنفسه عن روح طفولية وحالمة في صراع مع نفسها، مثل أعمال البيانو التي تشبه دمى صغيرة وأليفة يصنعها ثم يتسلى بتحطيمها وتخريب أناقتها.

رفع الحظر عن شوستاكوفيتش عام 1949 بهدف إيفاده إلى مؤتمر ثقافي في نيويورك. وما أن بدأ شوستاكوفيتش بقراءة كلمته حتى أخذ صوته بالارتجاف، وأدرك الحضور أن الخطاب كان مكتوبًا له وأنه ليس حرًا في أقواله، خصوصًا بعد أن اضطر لإنكار موسيقى نظيره سترافينسكي (الذي كان يعيش في الغرب)، تماشيًا مع آراء الحزب، بالرغم من إعجابه بها. كانت تجربة نيويورك إذلالًا كبيرًا لشوستاكوفيتش، الذي ظهر كبوق للنظام أمام أهم شخصيات العصر، وحتى المظاهرات المعادية لروسيا والمتجمعة خارج مكان انعقاد المؤتمر تعاطفت معه دون باقي أعضاء الوفد، لمعرفتهم بوضعه وبالحظر على مؤلفاته.

سيمفونيته الرسمية التالية كانت العاشرة عام 1953، والتي تعتبر اليوم من أهم أعماله، فبعد أن تترك حركتها الأولى رائحة موت بطيء وشاحب، تكاد الكمانات والبيكولو في منتصف الحركة الثانية تتحول إلى عويل مئات الناس الذي يسحق تحت صوت النحاسيات والطبول العسكرية.

توفي ستالين في العام نفسه، بعدما راح ضحية إجرامه عدد يقدر بعشرات الملايين من السوفييت. أما شتوستاكوفيتش، فقد بدأ مرحلةً جديدة، بعد أن فشل في تخليد صورة المواطن السوفييتي السعيد بمعايير ستالين، حيث تكاد تغيب البهجة عن أي موسيقى علنية كتبها تلك الفترة، وإن وجدت، فهي بهجة تهريجية ومرضية تثير الهلع أكثر من السعادة الحقيقية.

تشهد أعمال شوستاكوفيتش على مرحلة متقدمة من الاستبداد الذي لم يعد يكتفي بالضغط على المؤلف -مباشرة أو عن طريق محيطه الأكاديمي- لكتابة القطع الدعائية، بل صار يجد طريقه إلى تعطيل علاقة الفنان مع حاضره وضرب لغته في صميمها، الشيء الذي جعل موسيقى شوستاكوفيتش تتمزق بين شخصية مؤلفها وواجبها القسري تجاه السلطة.

خلال الحرب الباردة ظل الجدل محتدمًا في الغرب حول كيفية التعامل مع شوستاكوفيتش أخلاقيًا وفنيًا، فبينما اعتبر البعض أسلوبه رجعيًا ومتأخرًا بالنسبة لعصره، دافع عنه آخرون مشيرين إلى أن بطولته يصعب فهمها من قبل أولئك الذين عاشوا طوال حياتهم في مجتمعات حرة ومزدهرة. كما يستمر الانقسام في الأوساط الأكاديمية حول المدى الحقيقي للمقاومة المستترة في أعمال شوستاكوفيتش، خاصةً وأن ما وصلنا عن آرائه يأتي غالبًا على ألسنة الصحف الرسمية التي حولته إلى دمية ناطقة. أما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، فقد ساهمت شهادات ولديه ورفاقه في إغناء ما نعرفه عنه، كما اكتشفت أعمال كان قد خبأها مثل القطعة الغنائية Rayok التي سخر فيها من السلطات السوفييتية بشكل مباشر.

بالرغم من أن علاقة شوستاكوفيتش المتقلبة بالسلطة تمثل المفتاح الأساسي لفهم موسيقاه، إلا أن إهمال باقي أبعاد أعماله لا يختلف كثيرًا عن محاولة ستالين تقليصه إلى رمز وطني متحجر. فربما يكمن انتصار شوستاكوفيتش الأكبر على ستالين في إثباته أن الشيء الوحيد الذي لا يستطيع الحزب تأميمه هو الإنسان، وذلك بنجاحه في تسريب تجربته «الأورويلية» المؤلمة من تحت العناوين الحمراء البرّاقة، وكذلك طفوليته وعواطفه وصوته كفرد، الشيء الذي ميّزه عن باقي مؤلفي ستالين المطيعين، والذين سقطوا من التاريخ بمجرد سقوطه.

فرحت بعزف موسيقى شوستاكوفيتش للمرة الأولى عندما كنت صغيرًا، ففي إطار معاهد دمشق التي تعتبر -ولو جزئيًا- سليلة المدرسة الموسيقية السوفيتيية، كان شوستاكوفيتش وبضعة مؤلفين سوفييت متنفسنا الوحيد نحو القرن العشرين، دون أن ندرك المجاز المأساوي وراء تلك الحقيقة. أما اليوم، يكتسب شوستاكوفيتش في وعينا درجة إضافية من المرارة، ربما لأن دخولنا الشكلي إلى القرن الواحد والعشرين وسط عزلتنا الفكرية والفنية لا يختلف كثيرًا عن معظم موسيقاه التي تبحث بيأس عن خاتمتها المنتصرة، لكنها لا تلبث أن تتداعى إلى نكتة سوادء، أو تستسلم لموتٍ بطيء.

* موسيقي سوري يدرس قيادة الأوركسترا في فرنسا.

صول هي زاوية شهرية جديدة تتناول قضايا موسيقية كلاسيكية وحديثة.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية