بعيدًا عن صوت القصف: موسيقى من الحربين العالميتين

الأحد 23 تموز 2017
«معركة ألمانيا» للفنان پول ناش (1944).

شاهدة كوبران، موريس رافيل، 1917  

مع الاجتياح الألماني، تطوع المؤلف الفرنسي موريس رافيل لقيادة شاحنة عسكرية في منطقة فيردان، مسرح المعركة الأطول في الحرب العالمية الأولى والتاريخ، وبعد عودته، صدر عمله هذا في نسخة للبيانو وأخرى لأوركسترا صغيرة، مهديًا كلًا من حركاته الستة إلى روح صديق له سقط في الحرب.

يعيد رافيل استخدام شكل موسيقي-شعري قديم مستوحى من الكتابات الرمزية لشواهد القبور، والتي مثل موسيقاه، تتجنب المبالغة في الرثاء أو استذراف الدموع، بل ولا تمانع حتى لحظات من الإشراق. أما كوبران، فهو مؤلف فرنسي من أوائل القرن الثامن عشر يستوحي رافيل من موسيقاه في محاولة لرثاءه كشخص، ولرثاء فرنسا من خلاله.

عُرفت ظاهرة العودة إلى الموسيقى الأقدم بالأسلوب «النيوكلاسيكي»، أي الكلاسيكي الجديد، وجذبت مؤلفي آنذاك نحو حنين إلى بساطة الموسيقى المنمقة للقرن الثامن عشر وما قبله، وشكلت لرافيل مهربًا إلى ماضٍ تجاوز صراعاته وتحول في ذاكرة الناس إلى مجموعة رقصات أنيقة ومنقرضة.  بالطبع، لم يكن الهدف تقليد تلك الموسيقى حرفيًا، بل إعادة تأويلها بروح حديثة، كما في رقصة الفورلان التي يخفف رافيل سرعتها عن المعتاد، محولًا إياها إلى ذكرى بعيدة تتراقص ببطء وبلمعة جليدية ساحرة.

وأما عن معنى العودة إلى القرن الثامن عشر للحديث عن حرب معاصرة، فهي علاقة معقدة تنبع من حاجة البحث عن براءة مفقودة، وعن المسافة التاريخية الكافية للتعامل مع فاجعة لا يمكن التعامل معها وجهًا لوجه، فالحركات الستة للعمل تشبه غرفًا مظلمة بورق جدران مزخرف وباهت يحيا فيها شبح كوبران بسلام في وجود مواز للحرب وفظاعتها، ربما إلى جانب أرواح أصدقاء رافيل.

السيمفونية الثالثة «الريفية»، رالف فون ويليامز، 1921

مثل أستاذه رافيل، ترك البريطاني فون ويليامز حياته المريحة للالتحاق بالفيلق الطبي للجيش البريطاني على الأراضي الفرنسية، ولم يتعاف أبدًا، بحسب أصدقاءه، من صدمة ما رآه ومن قرب المسافة التي واجه بها الموت يوميًا، فكان من الطبيعي بعد سيمفونيتيه الأوليتان الحماسيتان أن تأتي الثالثة صاعقة بهدوءها وانزوائها.

ولدت الفكرة بينما كان فون ويليامز يقود سيارة إسعاف في الريف الفرنسي ساعة الغروب، بين الهضاب والحقول التي يخلق الشرخ بين جمالها وبين بشاعة واقعه الهدوء والاستسلام اللذان يخيمان على السيمفونية. تبدو الحركتان الأوليتان كتنهد واحد طويل، أو مشهد طبيعي مكتوم وخال من العصافير أو مظاهر الحياة، مجرد فضاءات شاسعة من الفراغ والضوء والألوان الخريفية، وتلعب آلتي الأوبوا والهورن الإنكليزي دورًا مهمًا لارتباطهما القديم بموسيقى الرعاة والأرياف.

تعبق السيمفونية بالمقامات الخماسية المميِزة للأغاني الشعبية الإنكليزية، والتي تشكل الروح الحقيقية للعمل ولموسيقى فون ويليامز عمومًا. أما الحركة الأخيرة، فتبدأ بصدى امرأة بعيدة تغني في الأفق، وكأنها تدعو المستمع إلى فردوس من السهول والتلال حيث لا حرب ولا خنادق، تعبر عنه الأوركسترا في أغنية مفعمة بالمواساة كلحظة سلام مسروقة من يوم مليء بالموت، تعود في النهاية للتلاشي مع صدى المرأة الذي يختفي بعيدًا في الحقول.

رباعي من أجل نهاية الزمان، أوليفيه ميسيان، 1940

بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية وسحبه للخدمة، وجد ميسيان الشاب نفسه أسيرًا في معتقل نازي في بولندا، وقام من زنزانته بكتابة عمله هذا وتقديمه في السجن مع زملائه الموسيقيين. يحمل العمل ترجيعات دينية قوية مثل غالبية أعمال ميسيان، حيث يأتي اسمه وفكرته من «رؤيا يوحنا» في العهد الجديد، ربما في صلة بين نهاية العالم ويوم القيامة، وبين نهاية عالم المؤلف كما عرفه.

لكن ميسيان الذي كان كاثوليكيًا مؤمنًا لطالما نجح في الخروج عن الجماليات المتوارثة للمؤسسة الكنسية وموسيقاها التقليدية، ووجد ملاذه لدى الرب ليس كهدف روتيني للدعاء والمناجاة، بل كقدرة إلهية تغمر عالمنا بالألوان والنور وتتجلى في كل شيء، خصوصًا العصافير، التي لطالما أثارت اهتمام ميسيان. «كل ما أعرفه عن الألحان علمتني إياه الطيور» حسب قوله، ومنذ الحركة الأولى «صلاة من كريستال»، يقلد الكلارينيت صوت الشحرور والكمان صوت البلبل، بينما يرسم البيانو خلفيةً ملونة تشبه طلوع الفجر.

وفي الحركة الثالثة «هاوية الطيور»، يستحضر ميسيان الطيور ككائنات سحرية تتغلب على العدم والظلمات، فـ «الطيور هي عكس الوقت، هي رغبتنا بالنور»، حكمًا برغبته بعالم سماوي لا يحسب فيه مرور الساعات من خلف القضبان. وبالفعل يتحرر ميسيان من الزمن كتراكم أبدي للثواني والدقائق، فمعظم العمل مكتوب بلا مقياس زمني، كنوع من عالم بلا إيقاع، مما يعطي عنوانه معنىً إضافيًا بقدرة الموسيقى على إنهاء الزمن كما نعرفه موسيقيًا وفلسفيًا. يتوج ميسيان مفهومه هذا في الحركة الأخيرة، حيث يكرر البيانو دقات تشبه نبضات القلب، يصلي الكمان فوقها بصوت خافت يتلاشى تدريجيًا إلى خيط ضوء شفاف، وكأنه يستمر في مكان آخر بعيد عن إدراكنا.

السيمفونية السابعة «لينينجراد»، ديميتري شوستاكوفيتش، 1941  

بين حملات الإعدامات التي شنها ستالين بدءًا من عام 1937 وحتى انتهاء الحرب عام 1945، عاشت مدينة لينينجراد مرحلة سوداء وصلت ذروتها مع الحصار الألماني الذي استمر أكثر من سنتين وذهب ضحيته الملايين. في هذه الأثناء، عاش شوستاكوفيتش علاقة جدلية مع السلطة، راقب فيها أصدقاءه وأقرباءه يختفون ويُعدمون من قبل الحكومة بينما كان هو يُكلّف بإنتاج أعمال دعائية ملتزمة عادة ما أُلصقت عليها أجندات الحزب الأيديولوجية وعناوينه المبتذلة.

ولدت السيمفونية السابعة في هذه الظروف وعلى صوت القصف وصفارات الإنذار، ورُوج لها مباشرةً كبروباجاندا حربية للرد على الفاشية، بينما أكّد أقاربه وأصدقائه لاحقًا أن الحركة الأولى كُتبت قبل الاجتياح الألماني، وأن العمل يذهب أبعد من لصقته الرسمية ليرسم بانوراما نفسية للحرب وللينينجراد، مدينة شوستاكوفيتش المنذورة للهلاك تحت كل الأطراف.

يتقدم الحركة الأولى مارش عسكري سمي بمقطع الغزو، يكاد يكون سعيدًا لولا لمسة شوستاكوفيتش الساخرة، والتي يصعب كالعادة الجزم بطبيعتها أو المُستهدف منها، ثم تغرق السيمفونية في الرهاب أكثر فأكثر من الحركة الثانية، بلحنها الهش وزعيق الكلارينيت (4:55)، ومرورًا بالحركة الثالثة التي تمزق القلب. أما الحركة الختامية، فحملت عنوان «النصر» في حرب من الواضح أن لا أحد منتصر فيها، ويشكل غالبيتها صراع طويل يفضي إلى احتفال فظ ومذعور يحاول التعبير عن فرحه باسترجاع مدينة سويت بالأرض.

بالرغم من انتقاد الكثيرين للسيمفونية بأنها مطوّلة وصعبة الفهم، فقد منحتها ظروفها التاريخية شهرة فورية وعدة تقديمات مدوّية حول العالم أشهرها حفل لينينجراد الأسطوري، الذي ترافق بنصب مكبرات صوت على الجبهة لكي تُبث السيمفونية في وجه الألمان وتثبت أن المدينة التي تجاوزت يومها الثلاثمئة من الحصار لا تزال قادرة أن تجمع أوركسترا وأن تعزف.

تذكار إلى ليديتشه، بوهوسلاف مارتينو، 1943

على الضفة الأخرى من الأطلسي، كان المؤلف التشيكي مارتينو يمضي حياة صعبة، فقد هرب إلى نيويورك بعد أن وضع النازيون اسمه على القوائم السوداء. هناك، كتب عمله هذا إثر فاجعة قرية ليديتشه التشيكية، التي ذبح النازيون أهلها دفعة واحدة وأرسلوا أطفالها إلى معسكرات الإعدام عام 1942.

ابتدع مارتينو لنفسه عالمًا موسيقيًا حالمًا خاصًا به، متأثرًا بالنيوكلاسيكية والموسيقى الشعبية، لكن عمله هذا يأتي من خارج الخط الزمني لأعماله، مثل هامش وجودي يعلّق فيه على أسلوبه المعتاد. من الضربة الأولى للقطعة يسري إحساس الفاجعة، وينبثق مشهد قرية خالية من السكان يلفها الضباب ويُسمع في أرجائها صدى ألحان مسالمة مستوحاة من التراتيل الكنسية المحلية، تعلنها الآلات النفخية وترد ورائها جموع الوتريات كما في صلاة، يتخللها ضربات قوية واقتباسات من «لحن القدر»، وهو اللحن الأساسي للسيمفونية الخامسة لبيتهوفن، والذي حمل رمزية مهمة للحلفاء أثناء الحرب كشعار للقيم الأوروبية.

قد لا تكون القطعة إحدى أهم أعمال مارتينو، كما لم تكن ليدتشه نفسها أكثر من قرية صغيرة منسية، لكنها محاولة لإنقاذ ذكرى الإنسان اليومي البسيط من النسيان، وصرخة المؤلف من المنفى إلى وطنه البعيد، الذي لن يطأ أرضه مجددًا طيلة حياته.

التحولات، ريتشارد شتراوس، 1945

من المثير للاهتمام أن تكون القطعة الأخيرة على القائمة مكتوبة من قبل المؤلف الأكبر عمرًا والأكثر محافظة. كأن شتراوس، المؤلف الألماني القادم من عمق الزمن الجميل وجد نفسه فجأة في القرن الخطأ، وعاش كأعجوبة تشهد على الشرخ بين القرنين، وكأحد أعظم وآخر رموز تراث رومانسي عظيم يعود إلى بيتهوفن، شهد شتراوس موته كما شهد سحق مدينته ميونخ تحت القصف الأميركي والبريطاني، وإرسال عائلة زوجة ابنه إلى المحارق دون عودة.

جاءت «التحولات» مثقلةً بكل تلك الاضطرابات التاريخية والأسلوبية والشخصية، ومثل مارتينو، يقتبس شتراوس «لحن القدر» من سيمفونية بيتهوفن الخامسة، بل ويستخدم أحد ألحان المارش الجنائزي من سيمفونيته الثالثة كعنصر رئيسي للعمل، مما يضعه في حوار وداعي مع بيتهوفن، ومع مفهوم الرومانسية كفن ألماني عظيم بدأ بثالثة بيتهوفن وانتهى بالتحولات.

يمكن تفسير عنوان العمل على مستوى روحي أو فلسفي، كانتقال بطيء ومؤلم من حالة وجودية إلى أخرى، يترافق بموسيقى تتأرجح باستمرار بين الرثائية والمهتاجة، تبعثر سيمفونية بيتهوفن مكررةً إياها بهوس كمن يستغيث بمؤلفها ليقوم من مثواه ويشهد. تبقى «التحولات» إحدى أصعب أعمال شتراوس وأكثرها غموضًا وتحديًا للمستمع والمؤدي على حد سواء، وشهادة على وجع وصل مرحلة من النضج تعجز الكلمات عن إيفاء حقه.

كيف نكتب الحرب: هامش ختامي

تعبث الحرب باستمرارية الزمان محولةً إياه إلى كابوس يفقد فيه تسلسل الأحداث أي منطق أو قيمة، مما يفسر تشارك القطع المذكورة رفضها للزمن، بين من يحاول العودة به إلى الوراء، ومن يحاول تدميره أو تجميده في مشاهد صامتة، ومن يستعير منه اقتباسات يستأنس بها أو يعاتبها بإحباط.

كذلك تتشارك هذه الأعمال نظرتها إلى الحرب كهاوية يراجع فيها الإنسان كل شيء، وكمقياس لمدى هشاشة حضارة ما، وتتفق بالرغم من اختلافاتها على وجود فراغ كبير لم تعد الأدوات الحالية قادرة على التعامل معه، فتبرز الحاجة إلى استحضار كافة الرموز الحضارية وإعادة بعثرتها وترتيبها لمحاولة صنع معنى أكثر إقناعًا منها في مواجه الفراغ، ومن ثم الحاجة لملء الفراغ بفن جديد وقيم جديدة، الشيء الذي حدث بعد الحرب العالمية الأولى وسيحدث على نطاق أكثر تطرفًا بعد الثانية.

ولحسن الحظ، لا يحتفظ التاريخ بالفن الذي يرى في الحرب انتصارًا لشخص أو بلد أو عقيدة، أو فرصة للمزاودة والتبجح السياسي، وهي أشياء تتغير سريعًا بتغير الريح وولادة أفكار جديدة، بعكس الإنسان الذي يبقى، ويبحث في ذكرى الحروب السابقة عما يشاركه التساؤلات والشكوك، وعما يؤكد له أن أولئك الذين لا يكتبون من الحرب إلا فظائعها المباشرة لم يروا فعلًا أسوأ ما فيها.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية