فيلم «الملاك»: الأعداء ينتجون فنًا رديئًا أيضًا

الثلاثاء 02 تشرين الأول 2018
لقطة من فيلم «الملاك» على شبكة «نِتفلِكس».

أطلقت شبكة «نتفلكس» الأمريكية، يوم الجمعة 14 أيلول، فيلمًا جديدًا بعنوان «الملاك». بدأ الحديث عن الفيلم منذ عام تقريبًا، حينما أعلنت الشبكة نفسها البدء في إنتاج فيلم يتناول القصة الحقيقية لأشرف مروان، صهر الرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر، والذي شغل مناصب عدة مهمة في عهد الرئيس الأسبق محمد أنور السادات، كان أهمها سكرتيرًا ومبعوثًا شخصيًا للرئيس آنذاك.

تدور أحداث الفيلم المستوحاة من كتاب يحمل نفس الاسم للكاتب الإسرائيلي «يوري بار جوزيف»، حول علاقة الجاسوسية التي ربطت مروان بالموساد الإسرائيلي، خلال السنوات التي سبقت حرب أكتوبر 1973. مع إعلان «نيتفيلكس» البدء في إنتاج الفيلم، ظهرت موجة كبيرة من الجدل والنقاش حول دور صهر عبد الناصر داخل الدولة المصرية آنذاك، سواءً بالمناصب التي شغلها، أو الرواية التي أعلنتها «إسرائيل» من أن مروان يعد الجاسوس الأهم في تاريخ الموساد. لكن سريعًا ما خرجت آراء من داخل مصر تنفي الرواية الإسرائيلية وتعتبرها محاولة لتشويه النصر الذي حققه الجيش المصري في حرب أكتوبر، كما يراه البعض.

بقيت الروايات المتضاربة حول حقيقة أشرف مروان مطروحة على ساحة النقاش دون أن يؤكدها أحد أو ينفيها، فالجانب المصري يراه بطلًا قدم خدمات عظيمة للدولة المصرية، ونال بعد حرب أكتوبر 1973 أرفع وسام من الرئيس السادات «على ما قدمه لمصر» دون الإفصاح من أي جهة رسمية داخل الدولة عن طبيعة الدور الذي لعبه واستحق من أجله التكريم. والجانب الإسرائيلي ظل عند رأيه أن مروان كان عميلًا للموساد. الآن، أصبح الفيلم متاحًا للمشاهدة، بعد جدل و«بروباغندا» كبيرة سبقت طرحه، فهل استحق الفيلم كل ذلك حقًا؟

معالجة ضعيفة لكتاب مثير

في أحد الأيام من عام 1970، رنَ هاتف السفارة الإسرائيلية في لندن. أحد الأشخاص يريد الحديث مع «مايكل كوماي» السفير الإسرائيلي، لكنه لم يتمكن من التحدث معه مباشرةً من دون تعريف نفسه كما أراد، فاضطر إلى التعريف عن نفسه قائلًا: «اسمي أشرف مروان، وعندي معلومات تهم المخابرات الإسرائيلية، لذا لا بُد أن أخاطب السفير»، لكن يبدو أن موظف السفارة لم يتعرف عليه واعتبره شخصًا عاديًا، فأخبره أن السفير غير موجود وأنَ عليه ترك رسالة مسجلة، تراجع مروان سريعًا وأغلق الهاتف، وهو يشعر أنه اقترف خطأً فادحًا.

قبل الاتصال بأيام عدة، كان الرئيس المصري آنذاك جمال عبد الناصر، في زيارة رسمية لسفارة مصر في لندن، دون أن يوضح الفيلم سبب الزيارة. لكننا نرى اجتماعًا يحضره عدد من المسؤولين المصريين والأجانب، على رأسهم الرئيس المصري وابنته وزوجها أشرف مروان الذي يقاطع حديثه، معترضًا على فكرة الاعتماد مستقبلًا على الاتحاد السوفيتي، كحليف استراتيجي قوي للدولة المصرية، محاولًا توضيح أن المستقبل لأمريكا، وأن الاتحاد السوفيتي سينهار قريبًا، وأنه يمكن الاعتماد على أمريكا للوصول إلى اتفاقية سلام مع إسرائيل. لكن سريعًا ما سخر عبد الناصر ومعاونوه من وجهة نظر مروان وحولوها إلى أضحوكة الحاضرين.

تعامل صناع الفيلم مع المُشاهد باعتباره يعرف كل شيء عن الخلفيات التاريخية للشخصيات والأحداث.

من تلك النقطة انطلق صنّاع الفيلم في رسم شخصية مروان وطبيعة علاقته بالرئيس جمال عبد الناصر. أسس المشهد أيضًا لرؤية مروان المختلفة عن المستقبل وطبيعة الصراع بين مصر وإسرائيل. لكننا لا نعرف أي شيءٍ عن الخلفية التي جاء منها مروان، أو كيف تعرف على ابنة الرئيس وأقنعها بالزواج منه؟ كل ما نراه أن عبد الناصر يعبر عن غضبه لابنته من مقاطعة مروان له أثناء الاجتماع، ويخبرها أن تلك الزيجة كانت «غلطة» منذ البداية. تعامل صناع الفيلم مع المُشاهد باعتباره يعرف كل شيء عن الخلفيات التاريخية للشخصيات والأحداث.

لم يكن هناك بناء واضح للشخصية الرئيسية وتعريفها إلى المتفرج، حتى في مشهد المواجهة الذي جمع بين مروان وزوجته منى عبد الناصر، ونعرف منه أنه كان معتادًا على القمار في الماضي وأنها تشك بعودته إليه مرةً أخرى، أشار مخرج الفيلم أريل فرومين إلى تلك النقطة سريعًا، من دون الالتفات لواحدة من أكثر السمات وضوحًا في شخصية مروان، والتي اعتبرها صاحب كتاب «الملاك» إحدى نقاط ضعفه الأساسية، ما جعله يتورط في الديون ويلجأ إلى أحد أفراد العائلة الحاكمة في الكويت، والذي كانت تربطه به علاقة صداقة أثناء وجوده في لندن. لكن فرومين وكاتبه ديفيد أراتا اختارا ألا يتوقفا عند النقطة طويلًا، ولم يذكرا أمر الديون في معالجتهما.

يرى جوزيف أن مبررات ودوافع خيانة مروان لوطنه لم تكن واضحة، إذ لم ينشغل بها كثيرًا ولم يحاول تقديم دوافع سطحية، كل ما كان يشغله هو رسم سمات لشخصية مروان وطبيعة علاقته بالموساد. على العكس من ذلك، انشغل الفيلم بتقديم دلالات رمزية، بدايةً من رؤية مروان للمستقبل ورفضه لفلسفة عبد الناصر «القديمة» حسب رؤيته، مرورًا بالقصة التي يرويها أستاذه في الجامعة عن صاحب مزرعة فاشل اسمه «غابو» أصبح أعظم عميل مزدوج في التاريخ، حين عمل لصالح المخابرات البريطانية والألمانية في الوقت نفسه أثناء الحرب العالمية الثانية، لاقتناعه بأن عليه العمل من أجل خير للبشرية. شكلت كل تلك الدوافع والمبررات عبئًا على السيناريو، وصنعت حالة من الارتباك في فهم مبررات الأحداث، أو معرفة الدوافع التي ذهبت بمروان إلى الموساد: هل هي حكاية أستاذه في الجامعة؟ أم خوفه من صهره عبد الناصر؟ أم رؤيته المغايرة للمستقبل مع «إسرائيل»؟

أشار جوزيف في كتابه أيضًا إلى أن عبد الناصر كان رجلًا نزيهًا، لم يقبل أن يتكسب أحد أفراد عائلته أموالًا بشكل غير مشروع، وهذا أحد أسباب المشاكل التي وقعت بينه وبين مروان الذي حاول الابتعاد عن سطوته، فذهب لإكمال دراسة الدكتوراه في لندن. أما في الفيلم فلا نعرف سوى أن مروان وزوجته ذهبا إلى لندن من أجل إكمال دراسته، وهو الأمر الذي لا يبدو مبررًا كافيًا.

بدا استخدام المخرج للهجة العامية محاولة بائسة للغاية، خاصة أن لا أحد من الممثلين يُجيدها.

بعد موت عبد الناصر، أصبح نائبه أنور السادات رئيسًا للجمهورية وفقًا لنصوص الدستور المصري. استغل مروان توتر العلاقة بين السادات ومراكز القوى داخل الدولة، وتقرب منه محاولًا كسب ثقته من خلال تزويده بمعلومات وملفات حصل عليها من مكتب عبد الناصر بعد موته، ساعدت السادات بالقيام بما يعرف بـ«ثورة التصحيح» في أيّار/مايو 1971، والإطاحة بمراكز القوى في الدولة. في مقابل ذلك تم تعيين مروان مستشارًا وسكرتيرًا للرئيس، بدلًا من سامي شرف الذي أصبح من نزلاء سجن طرة بعد الإطاحة به من منصبه.

في تلك اللحظة فقط نكتشف أن لدى مروان طموحات وتطلعات في الدخول إلى دوائر السلطة وصنع القرار، على عكس السمات التي ظهرت بها معالجة شخصيته منذ بداية الفيلم. بينما يشير «يوري بار جوزيف» في كتابه أن مروان كان شخصًا مغرورًا ومعتدًا بنفسه، يحب المخاطر واللعب على الحبال، كانت لديه تطلعات كبيرة منذ اللحظة الأولى التي تعرف فيها على ابنة الرئيس المصري. على العكس من ذلك، يبدو في الفيلم مهانًا وضعيفًا أمام ضباط الموساد، ومتورطًا معهم بسبب مكالمته التي أجراها مع السفارة الإسرائيلية في لندن.

في الفيلم نفسه يتحول ذلك الشخص الضعيف، إلى ذئب يتلاعب بالجانبين المصري والإسرائيلي. يتفق مع السادات على خطط الخداع الاستراتيجي، وبشكلٍ غامض يتفقان أن الحرب لا تهدف لإلحاق هزيمة ساحقة بـ«إسرائيل» بقدر ما تهدف لدفعها إلى طاولة المفاوضات. يذهب مروان إلى الجانب الإسرائيلي لإعلامهم بخطة الحرب ونية المصريين بالهجوم على «إسرائيل»، وبأن ميعاد بدء الهجوم في السادسة مساءً، بينما كانت الحقيقة أن الحرب بدأت في الثانية ظهرًا. لكن لا يشير الفيلم إلى أن مروان اتفق مع السادات على ذلك، ما ينفي احتمالية أن يكون عميلًا مزدوجًا.

لكن الكتاب قدم معالجة مختلفة تمامًا، حيث أكد جوزيف أن مروان كان عميلًا مخلصًا للموساد، ولم يتلاعب به مثلما ادعى الفيلم. لكنه لم يكن على علم بموعد بدء الهجوم الذي أخفاه السادات عن كل المقربين منه. وأن مروان استنتج الموعد بالصدفة حين زاره في شقته في لندن صديقه محمد نصير رجل الأعمال الشهير في ما بعد، وقال له إنه سمع من المدير التنفيذي لفرع الخطوط الجوية المصرية في لندن أن هناك أوامر صدرت من وزير الطيران المدني بتغيير مواعيد رحلات الطيران، ولأن ذلك الإجراء كان جزءًا من خطة الحرب التي يعرفها أشرف وسلمها للإسرائيليين، فقد حذر «إسرائيل» في وقت كان كافيًا لنشر الجيش النظامي.

لذا، بدا أن المخرج فضل الاعتماد على الروايات المنتشرة عن مروان في مصر و«إسرائيل»، ولم يتقيد بالرواية التي قدمها الكتاب الذي استوحى منه الفيلم، واستخدم كل الحكايات التي تصل به في النهاية إلى تصوير مروان كملاك للسلام خدع الجانبين، لإجبارهم على قبول المصالحة.

رؤية بصرية مليئة بالاستشراق والاستسهال

يحاول الفيلم طوال الوقت ترسيخ صورة مفادها أن العرب مجموعة من القتلة يتعطشون إلى الدماء والحرب كغاية، وأنهم تعمدوا شن هجوم على الجيش الإسرائيلي في يوم «الكيبور» اللفظ الذي استخدمه الرئيس المصري ومستشاره في حديثهما، وهو أمر يضاف إلى باقي السذاجة التي أتخم بها السيناريو، حيث لا يستخدم العرب كلمة «الكيبور» للإشارة إلى عيد الغفران.

لكن يعتبر ذلك أقل الأخطاء الفنية التي وقع فيها الفيلم، مقارنةً بتصويره مبنى وزارة الدفاع المصرية على أنه يشبه قصور الأندلس في العصر القديم، أو تصوير معمر القذافي على أنه نسخة مختلة عقليًا من هارون الرشيد، أو تصوير سجن طرة على أنه أحد سجون الهند، بالإضافة إلى استخدامهم للموسيقى الشرقية القديمة حين تجري الأحداث في الشرق الأوسط. بدا أن المرجعية البصرية والموسيقية لصناع الفيلم عن الشرق الأوسط مشوهة، مرجعية استشراقية تشبه الفيلم الأمريكي «The Dictator».

لكن أبرز المشاكل الفنية التي وقع فيها الفيلم، كانت التمثيل واستخدام اللهجة العامية المصرية، خاصة أن كل أبطال العمل ظهر عليهم عدم إجادة اللهجة، وبدا أن هناك سوء اختيار للممثلين في كافة أدوار الفيلم. ظهر الأمر جليًا مع الممثل الفرنسي من أصول جزائرية سليمان دازي، الذي لعب دور سامي شرف، سكرتير رئيس الجمهورية للمعلومات، بدا وكأنه غير قادر على لفظ الكلمات، حتى أنك ربما تلجأ إلى الترجمة الإنجليزية لفهم ما يريد قوله بالعامية المصرية.

بدا استخدام المخرج للهجة العامية محاولة بائسة للغاية، خاصة أن لا أحد من الممثلين يُجيدها. كان الأمر مضحكًا أحيانًا حين ترى أنور السادات -الذي يقوم بدوره الممثل الإسرائيلي من أصل عراقي ساسون جاباي- لا يستطيع نطق جملة واحدة بشكلٍ صحيح.

بالإضافة إلى مشاكل واضحة في المقاربة البصرية لصورة القاهرة في ذلك الوقت، بل أن الفيلم وقع في كثير من الأحيان في أخطاءٍ فادحة، مثل: استخدام علم خاطىء للدولة المصرية، لم يكن يستخدم في ذلك الوقت. بالإضافة إلى ضعف المواد التسجيلية التي توثق تلك الفترة، والتي اعتمد صناع الفيلم على إعادة تمثيلها، بدلًا من شراء مواد تسجيلية حقيقية، فظهر بمستوى رديء لا يليق بالضجة التسويقية التي سبقت العرض.

هناك فكرة تولدت مع الوقت، وخاصةً عند بعض المثقفين العرب، أن جيش «إسرائيل» القوي وتقدمها العلمي، لا يسمح لها باقتراف السذاجة، وأن الأمر مقتصر فقط على الدراما العربية. هذه النظرية، التي تشبه كثيرًا ادعاء البعض بأن المجتمع الإسرائيلي قائم على المساواة والديمقراطية، لا أساس لها سوى فكرة الولع بالقوي. إذ يُظهر فيلم «الملاك» هشاشة هذه النظرية، القائمة على بناء صورة أسطورية للعدو، دون النظر فيما ينتجه من أعمالٍ فنية.

ربما لم تنتج الدراما أو السينما العربية أعمالًا حقيقية تصور العدو الإسرائيلي بصورة واقعية، بقدر ما ركنت للكليشيهات المعتادة، إلا أن هذا لا يمنع أن ترتكب «إسرائيل» الأمر نفسه. لكن بينما لا يجد صناع السينما والدراما في البلدان العربية إنتاجًا ضخمًا يسمح لهم بصناعة أعمال ذات جودة عالية، فإن صناع فيلم «الملاك» امتلكوا قدرًا كبيرًا من المعلومات التي قدمها الكتاب، وجهة إنتاجية ضخمة كـ«نِتفلِكس». فما الذي منعهم إذن من تقديم عمل فني خالص غير ممتلئ بالرسائل الساذجة، سوى أنهم تعاملوا معه باعتباره مادة بروباغندا لنقل التصورات الإسرائيلية عن طبيعة الصراع العربي-الإسرائيلي؟

الخلاف هنا لا يتوقف عند إذا ما كان أشرف مروان عميلًا للموساد أم لا، لكنه يمتد إلى الصورة النمطية التي تحاول آلة البروباغندا الإسرائيلية ترسيخها في العقل الجمعي، باعتبار «إسرائيل» دولة تسعى دائمًا إلى السلام، وأن «الملاك» لا يشير فقط إلى أشرف مروان كما أراد الكتاب، لكن إلى «إسرائيل» نفسها، الساعية دومًا نحو السلام في منطقة مليئة بالقتلة.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية