«ذا نايت أوف»: سيارة أجرة نحو ظلمات المجتمع الأمريكي

الثلاثاء 06 أيلول 2016
الصورة مأخوذة من الحلقة الأولى للمسلسل

يقدّم المخرج والمنتج الحائز على جائزة الأوسكار، ستيفين زيليان، أحد أكثر الأعمال التلفزيونية إثارة للجدل هذا العام عبر شبكة HBO الأمريكية. يتصدر مسلسل «The Night Of»، المكوّن من ثمان حلقات فقط، أحاديث مدمني المسلسلات هذه الفترة. إذ يعتبره البعض أهم مسلسل جديد عرضته HBO بعد انتهاء الموسم الأول من مسلسل True Detective، وهو ما يعكسه التقييم العالي الذي حظي به من قبل المتابعين على موقع IMDb إذ احتلّ، في وقت قياسي، المرتبة رقم 33 في قائمة أفضل المسلسلات التلفزيونية تقييمًا في التاريخ.

المسلسل من بطولة الممثل جون تورتورو، الذي أدى ببراعة كبيرة دور المحامي جون ستون، وريز أحمد، في دور الشاب ناصير خان، وكلاهما قدّما لحوالي سبعة ملايين متابع للمسلسل أفضل ما لديهما، وكأن المسلسل ولادة جديدة لكل منهما. ساعدهما بالطبع الكتابة الجيّدة من الروائي وكاتب السيناريو ريتشارد برايس الذي صقل شخصياته بعناية مذهلة.

خمس وعشرون دقيقة كانت كل ما يلزم لمعرفة الاتجاه الذي سيسلكه المسلسل. شاب أمريكي مسلم من أصول باكستانية يعيش مع عائلته في منطقة كوينز في نيويورك، يستعير سيارة الأجرة التي يتشارك أبوه ملكيتها مع اثنين آخرين، دون علمه، من أجل أن يصل في الوقت المناسب إلى حفلة أحد الاصدقاء. في الطريق تركب معه فتاة لا يعرفها لينتهي بهم الأمر في منزلها حيث يمارسان الجنس ويتعاطيان المخدرات. يستيقظ بعد غفوة قصيرة ليجدها مقتولة بطريقة بشعة.

يؤمن ناصير والملقب بـ«ناز» بأنه لم يرتكب الجريمة، ونحن كمتفرجين نتبنى هذا الموقف بسهولة. فنحن على الأقل مثل ناز تمامًا، لم نرَ أي جريمة تحدث، كما نتعاطف مع المتهم لأننا أصبحنا، نوعًا ما، نعرفه عن قرب ونؤمن بأنه ليس من النوع الذي قد يرتكب جريمة من هذا النوع، إضافة إلى عدم وجود الحافز لارتكابه الجريمة. إلا أن الأدلة كلها ضد ناز. فهو آخر من رأى أندريا ومارس معها الجنس، علاوة على تفاصيل أخرى لا تدع مجالًا للشك جعلت مثوله أمام المحكمة ووضعه داخل السجن مسألة وقت.

ما يناقشه هذا العمل فعلًا هو ما وراء الأشياء التي نراها بشكلها العادي كل يوم

يُعتبر المسلسل إعادة انتاج لعمل درامي بريطاني من إنتاج عام 2008 يُدعى «Criminal «Justice. حيث يتكوّن الأخير من خمس حلقات تحمل نفس القصة. لكن جودة العمل الذي قدّمته شبكة HBO لا تدع أمامنا أي مجال للمقارنة. فالشخصية الرئيسية هنا لشاب مسلم يدخل السجن في قضية مثيرة للجدل، مستدعين كما يبدو، صورة مشابهة من فيلم «A Prophet». يعاني «ناز» من تنميط عنصري ويبدو أنه ليس المشتبه به الوحيد في ملف الجريمة، لدى الدفاع على الأقل. وذلك على عكس النسخة البريطانية من المسلسل والتي كانت مباشرة وواضحة وبلا تفاصيل مثيرة.

على الرغم من ذلك كله، لم يضع صنّاع العمل هوية المتهم الدينية هدفًا مباشرًا لكتابة دراما تجذب نوعًا معينًا من الجمهور، بل كانت هويته أمرًا ثانويًا حيث يستمر العمل في التركيز على النظام القضائي الجنائي الأمريكي وإدارة السجون. إلا أن المسلسل أضاء كذلك معضلة الإسلاموفوبيا في أمريكا من خلال رؤيتنا لمعاناة أهل المتهم، حيث يبدأ نوع من الحصار الاجتماعي عليهم ينتهي بطردهم من أعمالهم ومدارسهم.

تجعلنا الأحداث نتسمر في مقاعدنا مراقبين الشرطة والادعاء والدفاع في خضم سعي كل منهم لتفسير أحداث تلك الليلة. من المهم الإشارة إلى أن الطرف الرابع في هذه المعادلة هو نحن، الجمهور، حيث يمنح المسلسل للمشاهد مساحة كافية لتحليل الأمور بناءً على رؤيته للأدلة وإحساسه تجاه الأشياء وكأنه جزء من العملية. لكن سرعان ما سنكتشف أن نتيجة المحاكمة لم تعد مهمة كما كانت في البدء. فإن لم يكن «ناز» مذنبًا حيال السبب الذي دخل من أجله السجن، فقد أصبح الأن كذلك بعد عدد من الجرائم التي ارتكبها وساعد بالتستر عليها داخل السجن. أمّا السؤال الذي لن يتغير هو: هل اتهام ناز ومعاملته كمجرم منذ البداية صنعت منه مجرمًا حقيقيًا؟

يبدو هذا سؤالًا يمس نظام السجون في أمريكا كما كان السؤال الأول يمسّ نظام العدالة الجنائية هناك. حيث يرسم المسلسل صورة مقلقة لنظام العدالة الجنائية في الولايات المتحدة من خلال كشف الضغوط المالية والنفسية التي يتعرض إليها المرء في إطار محاولاته الدفاع عن نفسه. فكل المؤشرات قد تحيلنا إلى نتيجة واحدة مفادها أن العدل في أمريكا مُكلف للغاية.

من يبحث عن مشاهدة عمل عن المحاكم والسجون والجرائم أو التحقيقات فإنه لن يجد ضالته في هذا المسلسل القصير. فما يناقشه هذا العمل فعلًا هو ما وراء الأشياء التي نراها بشكلها العادي كل يوم. كما تتزاحم الأسئلة حول حياة السجن الأمريكي لنصل إلى واقع صريح بأن «دخول السجن لا يشبه الخروج منه». كان سجن «ريكرز» قد صُمم لينزع عن الفرد إنسانيته وليخترق آخر خصوصياته، على حد تعبير كاتب العمل، الذي زار السجن الأصلي مع زملائه، وبناءً على تلك الزيارة صمم الفريق الفني السجن الذي نراه في المسلسل. حيث سلّط التصميم الضوء على فكرة الطبقات المتعددة من الزنازين، وكيف ينعكس موقع السجين في السجن على علو شأنه فيه.

قد نكون قادرين على التنبؤ منذ الآن بالطريقة التي ستتوزع بها جوائز العام المقبل لفئة أفضل مسلسل قصير

إن أهم ما يميز هذا العمل هو المجهود الكتابي الذي انعكس على التطوّر الملحوظ في كافة الشخصيات من خلال بناء مُحكم لكل منها. فالجريمة أصبحت بالنسبة لناز موضع تساؤل ثانوي، فهو يؤمن بأن القانون مهتم بالبحث عن الأسباب والقرائن، ولكن اهتمامه هذا يتكسب قيمته فقط عندما تكون هذه القرائن قريبة بصورة مباشرة للجريمة.

كان للمحامي جون ستون دور محوري لطيف في المسلسل فهو -الذي أخذ على عاتقه حلّ هذه القضيّة- كان قد أعطى نصيحة غالية لموكله في أول لقاء بينهما جعلنا نُعجب به مباشرة. إذ رفض الاستماع للقصة التي يرى ناز أنها الحقيقة قائلًا بأن «الحقيقة لا تعني أي شيء هنا. هم سيقدمون قصّتهم ونحن علينا تقديم قصّتنا». يعرض المسلسل، بكثافة، مشكلة الأكزيما التي يعاني منها المحامي ستون في قدميه، والتي تمنعه من ارتداء أي نوع من الأحذية سوى المكشوفة. تتمحور أحاديثه وأفكاره دومًا حول قدميه. فأي شخص قد يقابله سيذكر حتمًا مشكلة قدميه، إما من باب الشفقة أو القرف أو الاستفزاز. يمكن أن نفسّر التزام صنّاع المسلسل بهذا الخط المنفصل تمامًا عن الأحداث الأساسية للمسلسل بأحد سببين، الأول هو فهم دواخل شخصية المحامي جون ستون الذي يعاني من مرض ظاهر يؤثر على مظهره العام وبالتالي طريقة تعامله مع عائلته ومع الآخرين. والثاني هو توضيح مدى التشابه بين المحامي وموكّله، أي بين جون ستون وناصير خان. بينما قد يبرز سبب ثالث محتمل، شديد الرمزية، وهو الإشارة إلى الفساد في جسد نظام العدالة نفسه.

اعتمد المخرج على التصوير الليلي في شوارع نيويورك ليعزز أجواء الغموض والتشويق في المسلسل. كما استخدم المشاهد العلوية المأخوذة من كاميرات المراقبة المثبتة في كل مكان من أجل الإشارة إلى خيوط القضيّة بأكملها. فقدّم، مثلًا، حلقة أولى غاية في الإبداع تخللها أحد أعظم المشاهد التلفزيونية التي أراها على الإطلاق، وهو مشهد تفتيش المتهم داخل مخفر الشرطة. حيث تجري ثلاث محادثات على الأقل في الوقت نفسه، وكلها تدور حول المشتبه به المجهول والذي نعرف حقيقته نحن فقط، لأننا وحدنا الذين نتابع الأمور كلها من موقع الطرف الثالث حتى تحين لحظة انكشاف هذه المعرفة المضمرة والتي قادها زيليان ببراعة منقطعة النظير.

في ظل كل هذا، قد نكون قادرين على التنبؤ منذ الآن بالطريقة التي ستتوزع بها جوائز العام المقبل لفئة أفضل مسلسل قصير.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية