يتصدّر غييرمو ديل تورو في فيلمه الأخير سباق الأوسكار، مع 13 ترشيحًا. الفيلم الذي يروي قصّة حبّ بين وحش برمائي وعاملة نظافة، يشغل المهرجانات والنقاد منذ فوزه بأسد مهرجان البندقيّة الذهبي الخريف الماضي. يقدّم المخرج المكسيكيّ في هذا العمل، عصارة تجربته خلال ربع قرن في صناعة السينما، أمضاها بالتآخي مع الأشباح والوحوش الغريبة. يبتعد ديل تورو هنا قليلًا عن عوالمه القوطيّة الداكنة، من دون أن يشتّ عن موضوعه الأحبّ: التواصل مع الآخر، ذلك المخلوق البريّ.
أين أخفى غييرمو ديل تورو كلّ هذه العذوبة طيلة تلك السنين؟ يرافقك السؤال وأنت تغادر السينما، على وقع موسيقى ألكسندر ديسبلا في نهاية «شكل المياه». أراد السينمائي المكسيكي لفيلمه أن يكون أغنيةً، يدندنها المشاهدون عند خروجهم من الصالة. وأراد لعيون ممثّليه أن تكون نوتات تلك الأنشودة الناعمة في حبّ الأفلام وحبّ الحبّ. ولكن متى قرّر صاحب «متاهة بان» (2006) أن يهجر الأشباح والدماء والعوالم القوّطية الداكنة؟ ولماذا، بعد ربع قرن أمضاها برفقة وحوشه الساحرة، يعيد صياغة عَقْد مشاهدة جديد معنا؟
تنكشف حلاوة «شكل المياه» على مهل. أفلامٌ كهذه تحتاج وقتًا كي نتشرّبها، إذ تقف بساطتها الظاهرة، حاجزًا أوليًّا بيننا وبين ما تطويه من رموز، هي هنا عصارة تجربة ديل تورو. الفيلم أشبه بمخلوق برّي، ينفّرنا بداية لتناقضه مع عاداتنا وتوقعاتنا الأليفة. الفرق هنا أنّ الوحش البرمائي، بطل «شكل المياه»، هو الذي يروّضنا، وليس العكس. فلو أردتُ مثلًا أن أشاهد قصّة خرافيّة عن وحش يفوز بحبّ الأميرة، لكنت التزمتُ كنبتي بصحبة فيلم «شريك» وحضنت طنجرة فوشار مستمتعةً بالمحاكاة الساخرة الأطرف لقصص أميرات «ديزني»، وحلمتُ بأن أكون تنينة ياقوتيّة، تقعُ في حبّ حمار. ولكن، ما يدعونا إليه ديل تورو، أكثر تعقيدًا بقليل من قصّة خرافيّة مضادة. هو لا يريد أن يسخر أساسًا من القصص الخرافيّة، على العكس، يتبناها بقناعة واستسلام. وهو لا يتخلّى عن واقعيّته السحريّة، المكسيكيّة جدًّا. الفانتازيّ في أفلام ديل تورو حقيقيّ أكثر من الواقع نفسه، ويبقى على هذه الحال في «شكل المياه».
تحدّي السينيكيّة
لكي نذهب مع ديل تورو في رحلته الغرائبيّة رغم شدّة بساطتها وانكشافها، علينا أن نرمي دفاعاتنا التقليديّة، وأن نترك أنفسنا القديمة خارج الصالة، ونتخلّى عن نزعتنا المتذاكية لتفحّص العمل السينمائي بمجهر «المشاهدين غير المتسامحين مع الكليشيهات المملّة». ربما، صنع غييرمو ديل تورو فيلمه العاشر، كتحدٍّ لمشاهدين كهؤلاء. كأنّ الفيلم بأكمله مقلب، يثبت المخرج من خلاله وجهة نظره حول الحبّ والسينما والفنّ، في عمل هجين يجمع أنواعًا سينمائيّة عدّة في مكان واحد. الفيلم أقصوصة خرافيّة، ولكن أيضًا فيلم جاسوسيّة وتشويق عن الحرب الباردة، فيلم موسيقي غنائي، ولكن أيضًا مليودراما، كوميديا رومانسيّة ولكن أيضًا فيلم سياسي من بطولة شخصيتين صامتتين إحداهما مخلوق برمائي محتجز في منشأة أميركيّة سريّة للغاية، والأخرى عاملة تنظيف يتيمة فقدت صوتها في الطفولة، من هواياتها اقتناء الأحذية، والأفلام القديمة، وتناول البيض المسلوق.
في إحدى مقابلاته حول «شكل المياه» يقول ديل تورو: «في الزمن الراهن، أزاحت السينيكيّة الذكاء. إن قلت لكم إنّي في الثالثة والخمسين، ولا أومن بالحبّ، ستظنّون أنّي رجل ذكي ومثّقف وراقٍ إلى أقصى الحدود. وإن قلت أنّي في الثالثة والخمسين، وأنّي أومن بالحبّ كليًّا، ستظنون أنّي ساذج. المشاعر هي موسيقى البانك الجديدة [يقصد بما مثّلته البانك كثقافة معارضة للرائج تبنّت كلّ ما يعدّ بلا قيمة]. المشاعر هي أكثر المناطق خطورة بالنسبة لأيّ فنّان أو قاصّ. إنّها أقلّ المواضيع شعبيّة، وأكثر المواضيع المنظور إليها اليوم كمضادة للسائد». يذهب ديل تورو إلى ذلك المكان الخطير من دون خجل ومن دون محاولات تبرير. يقدّم تجربته المضادة لمقولات ما بعد الحداثة في الفنّ، محمّلًا بأدوات حرفته الأكثر تقليديّة، في فيلم لم تتجاوز ميزانيّته 19.5 مليون دولار، وفاز بأسد «مهرجان البندقيّة» الذهبي، وبجائزتي «غولدن غلوب» «وبافتا» عن فئة أفضل إخراج، ورشّح لثلاث عشرة جائزة أوسكار من المتوقّع أن يفوز بجزء كبير منها في 4 آذار/ مارس المقبل.
كان يا ما كان
قصّة الفيلم بسيطة جدًّا: نحن في العام 1962، في عزّ الحرب الباردة. يتنافس الأميركيون والروس للاستحواذ على مخلوق برمائي، بالأحرى إله نهر عُثِر عليه في الأمازون. في المختبر حيث يُحتجز الوحش (دوغ جونز)، تعمل إيلايزا (سالي هوكينز) في التنظيف بدوام ليليّ، وتقضي وقتها في تبادل أطراف الحديث مع زميلتها زيلدا (أوكتافيا سبنسر). حسنًا، إيلايزا لا تحكي إلا بلغة الإشارة، في حين تتولّى زيلدا دفّة الثرثرة، متذمّرة من بقع البول التي تخلّفها «بعض أكبر العقول في هذا البلد» على أرضيّة الحمّامات، ومن زوجها الأحمق غير النافع. وكما في كلّ القصص الخرافيّة، ندخل إلى عالم إيلايزا من خلال صوت الراوي، يدعونا إلى «حكاية الأميرة بدون صوت» التي ستحاول إنقاذ إله النهر من مصيره المحتّم تحت مبضع التشريح. تتعاون إيلايزا في مقاومتها لمخطّطات الشرير، مع حليفَين -ليسا حيوانَيْن أليفين يجيدان الغناء والخياطة ولا آنيَتيْ بورسلين ناطقتَيْن- بل هما جارها الرسّام المثلي المضطهد في العلاقات والعمل جايلز (ريتشارد جنكينز)، وصديقتها الإفريقيّة الأميركيّة سليطة اللسان زيلدا، وكلاهما يتوليّان ترجمة ما تعبّر عنه البطلة بلغة الإشارة، للآخرين. ينضمّ إلى إيلايزا في مسعاها أكثر الحلفاء غير المتوقعين، وهو الجاسوس الروسيّ ديمتريّ المتنكّر بزيّ عالم أحياء في المنشأة، والذي يكتشف جمال المخلوق، وقدرته على التواصل.
يمثّل الشرير في الفيلم إذًا، الرجل الأميركي الناجح، رب العائلة الذي لا يعرف معنى الفشل (..)، يثق تمامًا أنّه رجل صالح، يكافئ نفسه بأحدث سيّارة كاديلاك، ويقرأ كتاب «قوّة التفكير الإيجابي»
منذ دقائق الشريط الأولى، يحرص المخرج على أن يوضح لنا بحزم: لستُ هنا لأمارس أيّ نوع من الترفّع الفكري على قصص الأميرات، بل لأعيد سردها على طريقتي. يختار لذلك الغرض أحد فروع القصص الخرافيّة الشائعة في بعض الفلكلورات الشعبيّة، تلك التي تحكي عن علاقات حبّ بين البشر من جهة وأسماك أو مخلوقات متوحّشة من جهة أخرى. أكثر الأمثلة شعبيّة من تلك الحكايات، نجدها في إنتاجات ديزني «الجميلة والوحش» (1991 – 2017)، و«الحوريّة الصغيرة» (1989)، و«الأميرة والضفدع» (2009)، وكلّها قصص أنتجت في السينما وعلى المسرح وفي كتب الأطفال أكثر من مرّة. حتى المعلم الياباني هايو ميازاكي قدّم إضافته إلى ذلك النوع في فيلم «بونيو» (2008)، ويحكي قصّة سمكة ذهبيّة سحريّة تريد أن تصير طفلة، لتبقى مع حبيبها، وهو طفلٌ ابن بحّار في الخامسة.
لكلّ قصّة خرافيّة، أقانيم ثلاثة: بشريّ (أميرة،أمير،طفل،رجل)، غير بشريّ (وحش،حوريّة،ضفدع،سمكة ذهبيّة)، و«شرير» يهزم في النهاية. بجانب الشخصيات الرئيسية الثلاث، نجد حلفاء الجميلة أو الأميرة، من لا يمتلكون قصصًا فرعيّة جديرة بأن تروى. في الغالب، تكون الأميرة/ الجميلة بريئة، حالمة، لطيفة، تعاني سوء الفهم. أمّا المخلوق البرّي، فلن يجد نهايته السعيدة والحبّ الحقيقيّ إلّا بالتحوّل إلى بشريّ. الشرير بدوره، قد يأخذ أشكالًا متعدّدة، وقد يكون أبًا متسلّطًا، أو ساحرة تريد أن تخطف الأمير لنفسها، أو خطيبًا متعجرفًا يرى أنّه يستحقّ الجميلة أكثر من الوحش. نجد كلّ هذا في «شكل المياه» ولكن مع تعديلات «طفيفة».
بيغماليون بالمقلوب
كأيّ «أميرة»، فإنّ إيلايزا حساسة وحالمة ومُساء فهمها، لكنّها «امرأة يمكن أن نلتقي بها في الباص، وليست كتلك التي نجدها في إعلانات العطور»، بحسب وصف ديل تورو. لا يتجاهل المخرج رغبات بطلته الجنسيّة، إذ يضمّن روتينها اليوميّ ممارسة العادة السريّة في حوض الاستحمام قبل الذهاب إلى العمل. لا تكتفي إيلايزا بقبلة الحبّ الحقيقيّ لتتقرّب من وحشها، بل تمارس معه الجنس، وتغويه بالبيض المسلوق في استراحات الغداء. نجد صدًى لتلك العلاقة في لوحة «حلم زوجة البحار» (1814) لهوكوزاي، حيث تخيّل الرسّام الياباني امرأة تمارس الجنس الفموي مع أخطبوطين. يحضر هوكوزاي أيضًا في خلفيّة ديكور شقّة إيلايزا، إذ طبعت موجته العظمى الشهيرة على جدران غرفتها، وطُمِست بورق الجدران الأزرق المخضرّ، للدلالة على أنّ البطلة سمكة ولكن خارج المياه.
يستعير ديل تور اسم شخصيّته الرئيسيّة إيلايزا، من فيلم (My Fair Lady (1964، المأخوذ عن مسرحيّة «بيغماليون» لجورج برنارد شو. في الفيلم يحاول أستاذ اللغة هنري هيغنز تغيير حياة بائعة الزهور إيلايزا دوليتل، من خلال تعليمها أصول الحديث الراقي، وإيتيكيت سيّدات المجتمع، قبل أن يقع في حبّها، تمامًا كما يقع بيغماليون في حبّ التمثال الذي نحته.
الحبّ الحقيقي في «شكل المياه» هو القدرة على رؤية الآخر، على ما هو عليه، من دون الحاجة إلى تحويله إلى مخلوق مختلف
لن تتحوّل جميلة ديل تورو إلى (ليدي)، ولن يغيّر مخلوقه البرمائي جلدته لكي ينال قبلة. استغرقت صناعة الفيلم ستّ سنوات، أمضى منها المخرج ثلاث سنوات في تصميم وتنفيذ بذلة إله النهر. لن يتخلّى عن تحفته بسهولة، ولن يستبدلها بأمير «غبيّ ومملّ»، بحسب تعبيره. لا يجرّد ديل تورو وحشه من توحّشه، لا يحاول تدجينه أو أنسنته. لا يعرّي بطلته من عاديّتها، بل يمنح الوحش عينين تريانها. تقول إيلايزا بلغة الإشارة: «حين ينظر إليّ، لا يعرف ما الذي ينقصني، ولا يعرف كيف أنّي غير كاملة. يراني على ما أنا عليه، تمامًا كما أنا. يكون سعيدًا برؤيتي، كلّ مرّة، كلّ يوم». الحبّ الحقيقي في «شكل المياه» هو القدرة على رؤية الآخر، على ما هو عليه، من دون الحاجة إلى تحويله إلى مخلوق مختلف. حتّى حين يلتهم إله النهر قطّ جايلز، لا تتوقّف إيلايزا عن حبّه. وهذا ما يجعل رسالة الفيلم ناعمة جدًّا، وعذبة وجارفة في الوقت ذاته، تمامًا كالمياه التي يريدها المخرج استعارة عن الحبّ، «أقوى العناصر في الكون، وأكثرها طواعيّة، وأكثرها انعدامًا للشكل»، بحسب تعبيره.
شمشوم وترامب والإله المتواضع
يسمّي ديل تورو مخلوقه البرمائي بإله النهر، مستلهمًا إرثًا كاثوليكيًّا وفلكلوريًّا عن الإله الذي يتجسّد في هيئة مخلوق آخر، قد يكون سمكة، أو سيّدة عجوز، أو في فيلم «شكل المياه»، المخلوق البرمائي إله متواضع، يعذِّبه البشر، قبل أن يروا حقيقته.
بالنسبة للكولونيل ستريكلاند، شرير هذه الأقصوصة (أداء خرافي لمايكل شانون)، خلق الله الإنسان على صورته ومثاله، ولذلك لا يمكن لوحش النهر الذي يحتجزه في المختبر، أن يكون إلهًا. يؤمن ستريكلاند أنّه هو، بوصفه رجلًا أبيض، التجسيد الأمثل لصورة الإله، فالله لا يمكن أن يعطي صورته لمخلوقٍ برمائيّ، أو إنسانٍ ببشرة داكنة. يتنمّر ستريكلاند على زيلدا، حين يكتشف أنّ اسمها الثاني «دليلة»، فيتلو على مسامعها أقصوصة شمشوم من العهد القديم. يذكّرها بأنّ شمشوم العظيم، يعينه الربّ دومًا، لذلك لا يمكن أن تخدعه أيّ دليلة، فكيف إن كانت سوداء! في مقابل أقصوصة شمشوم، يستعير ديل تورو سفر راعوث من العهد القديم، من خلال فيلم «قصة راعوث» (1960)، المعروض في صالة السينما تحت شقّة إيلايزا. ترمز القصّة في تأويلها الكاثوليكيّ إلى أنّ الغرباء لهم أيضًا من الله نصيب، فهو لم ينزل آياته لسلالة داوود فقط، أو لأمثال ستريكلاند.
شخصيّة ستريكلاند هي إذًا كاريكاتور عن شمشوم، يستخدمها ديل تورو للسخرية من رموز السلطة والقوّة «المحقّة دومًا». يمثّل الشرير في الفيلم إذًا، الرجل الأميركي الناجح، رب العائلة الذي لا يعرف معنى الفشل ولا يخطئ أبدًا في عمله، يثق تمامًا أنّه رجل صالح، يكافئ نفسه بأحدث سيّارة كاديلاك، ويقرأ كتاب «قوّة التفكير الإيجابي». تتحرّك الشخصيّة في إطار الفيلم الزمانيّ المحدّد، وهو العام 1962، ما قبل اغتيال كينيدي، وما قبل حرب فييتنام، في ديكور مليء بالملصقات الإعلانيّة لعائلات سعيدة وهانئة تتناول حلوى الجيلو. في ذلك الزمان، ستريكلاند هو الذكر المسيطر. يتبوّل في الحمام أمام عاملات التنظيف، ولا يشعر بأيّ إحراج. خلال ممارسة الجنس مع زوجته، يريدها صامتةً خانعة، لا تصدر أيّ صوت. يتحرّش بإيلايزا خلال دوام العمل، لأنّ افتقادها للصوت يستثيره جنسيًّا.
في فيلمه الجديد، أراد المخرج الخمسينيّ أن ينتقم لكلّ وحوش السينما الذين يهزمون دومًا.
نلاحظ في الفيلم أنّ ناس الولايات المتحدة إبّان حقبة الحرب الباردة، كانوا ينقسمون إلى فئتين: الرجال البيض، وكلّ الآخرين. الفئة الأولى هي فئة المرئيين، فئة من يقفون على رأس السلسلة الغذائيّة إن جاز التعبير، مثل ستريكلاند، والجنرال المسؤول عنه، وعلماء المختبر، ورجال الأمن، ومدير جايلز الذي يطرده من شركة الإعلانات. الفئة الثانية، هي فئة غير المرئيين، أو المحتجزين في الخزانة: جايلز المثليّ الباحث عن الحبّ، عمّال التنظيف في المختبر، النساء مثل إيلايزا وزيلدا، السود المطرودون من المقاهي. يمنح الحبّ لإيلايزا الفرصة لكي تُرى، ولكن يبقى جايلز وزيلدا في الظلّ. حين يحاول جايلز التقرّب من نادل شابّ في مطعم حلويّات، يطرد من المكان، وعلى المنوال ذاته، لا ينفع غضب زيلدا في حثّ زوجها على مغادرة كنبته والقيام بأيّ شيء نافع. حلفاء الأميرة هنا، ليسوا شخصيّات ثانويّة، بل أفراد غير مطيعين، مثال مضاد عن الذكر المسيطر، يقودون ثوراتهم الصغيرة بصمت، ويهزمون هزائمهم الصغيرة، ولكن لا ضير إن ساعدوا وحشًا وأميرة على الفرار. جايلز وزيلدا موجودان في الفيلم لتذكيرنا أنّ الفانتازيا حقيقيّة وأنّها تتحكّم بحياة الناس العاديين، تمامًا كما يتحكّم بها الواقع، وربما أكثر.
صحيح أنّ ديل تورو بدأ بكتابة الفيلم قبل وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، إلّا أنّ السخرية السياسيّة واضحة في العمل ممّا تعيشه أميركا اليوم، وكأنّ الرئيس الأميركي الحالي عارضٌ عابر لحالة الإقصاء والتمييز الطاغية في المجتمع الأميركي. في هذا الإطار، يبدو «شكل المياه» فيلمًا مقاومًا للواقع الراهن بامتياز، حين يتخذ شكل أسطورة شمشوم ودليلة معكوسة، إذ تنتصر امرأتان، زيلدا وإيلايزا – ومعهما فنّان مثليّ مطرود من العمل – على ستريكلاند. مع الإشارة إلى أنّ الفيلم لا يصوّر ستريكلاند كشرير خالص، بل كرجل مخدوع بوهمه التافه عن معنى القوة والعظمة والنجاح والإيجابيّة.
السيرة الذاتيّة لديل تورو
يقول ديل تورو في إحدى مقابلاته، إنّه استوحى مشهد تأنيب الجنرال لستريكلاند، من لقاءات عقدها مع مدراء بعض شركات الإنتاج المسيطرين في هوليوود، حاولوا خلالها فرض وجهات نظرهم الفنيّة عليه، ما أدّى إلى رفضه عروض عمل ضخمة، لأنّه كان يصرّ على العمل وفق شروطه الخاصّة، وبتوقيته الخاص. في الفيلم إحالات أخرى إلى سيرة المخرج الذاتيّة، خصوصًا في علاقة الشخصيّات مع الوقت الذي يشكّل ثيمة رديفة لثيمات العمل الأساسيّة. المشاهد الخالية من ساعات في الفيلم نادرة. على طاولة إيلايزا مثلًا منبّه كبير، وساعة يد، وفي مطبخها موقّت خاصّ لسلق البيض. تتبع الشخصيّة روتينًا يوميًّا دقيقًا، ورغم ذلك تفشل كلّ يوم بالوصول إلى عملها في الوقت المحدّد. ربما تكون تلك طريقتها في التمرّد، في إنجاز الأمور وفق شروطها، وبحسب توقيتها الخاص. جايلز أيضًا يبدو على علاقة متوتّرة بالزمن، فهو لم يتقبّل أنّ العمر فاته، وأنّه شاخ وبات أصلعًا، من دون أن يجد الحبّ الحقيقيّ. في أحد المشاهد يقول لإيلايزا أنّه لا يتعرّف على نفسه في المرآة، وباستثناء عينيه، فإنّه يجهل تمامًا من يكون ذلك العجوز الذي ينظر إليه من الطرف المقابل.
ذلك ليس التفصيل البيوغرافيّ الوحيد في العمل. يقول ديل تورو في إحدى مقابلاته إنّ دافعه لإنجاز «شكل المياه» ولد في خياله منذ أن كان في السادسة، حين شاهد على شاشة التلفزيون فيلم «مخلوق البحيرة السوداء» (1954) لجاك أرنولد. تمنّى ديل تورو الطفل أن تبادل البطلة جوليا آدمز الوحش مشاعر الحبّ، لكنّ المخلوق المرعب يقتل في النهاية. في فيلمه الجديد، أراد المخرج الخمسينيّ أن ينتقم لكلّ وحوش السينما الذين يهزمون دومًا. في «كينغ كونغ» (1933 -1976 – 2005) بنسخه الثلاثة مثلًا، لا يفوز الغوريلا الضخم بقلب الشقراء رمز الحضارة والجمال والنقاء. وفي الكثير من تأويلات هوليوود لأسطورة وحش فرانكنشتاين، يبحث المخلوق عن القبول والحبّ، ولكنّه يبقى منبوذًا ومعذّبًا. قد «تتفهّم» هوليوود الوحش، لكنّها لن تقبل أبدًا بانتصاره. هنا أيضًا، يقدّم ديل تورو رؤيته المعاكسة، فيمنح المخلوق البرمائي فرصته لردّ الاعتبار. بذلة مخلوقه في «شكل المياه» هي تطوير لبذلة «مخلوق البحيرة السوداء» الذي تعاطف معه طفلًا. يقف هذا المخرج دومًا في صفّ الوحوش أصدقائه الأثيرين الذين يملؤون غرف أحد بيوته المشيّدة خصيصًا لإيواء تماثيلهم.
أنشودة في حبّ السينما
في فيلم يطغى على تفاصيله اللون الأزرق المخضرّ كرمزً عن الحداثة والمستقبل، يستخدم ديل تورو الأحمر في موضعين فقط: أوّلًا للإشارة إلى الحبّ، وثانيًا للإشارة إلى السينما. ترتدي إيلايزا حذاءً أحمر بعد ممارستها الجنس للمرّة الأولى مع إله النهر، وحين تذهب في مهمّة إنقاذه الأخيرة ترتدي معطفًا أحمر، في حين يطغى الأخضر والبني والأصفر على ملابسها في معظم الفيلم. تقيم البطلة فوق صالة سينما، أبوابها حمراء، ومقاعدها حمراء، وستائرها حمراء.
بالرغم من أنّ البطلين صامتان طيلة الفيلم، نفهم في النهاية أنّهما الوحيدان القادران على التواصل في هذا العالم، بلغتهما الخاصّة، لغة الحبّ.
العمل بمجمله أنشودة في حبّ السينما، لذلك يعجّ بالإحالات إلى أعمال سينمائيّة كلاسيكيّة، خصوصًا الأفلام الموسيقيّة والميلودراما العاطفيّة من الأربعينيّات والخمسينيات، وحتى أفلام المخلوقات الفضائيّة في الثمانينيات وأشهرها طبعًا ET. تبدأ تلك الإحالات في حركة الكاميرا، ولا تنتهي عند أدقّ تفاصيل حركة الممثلين، الديكور (بول أوستربيري) والأزياء (لويس سيكييرا)، وقد رشّح الفيلم لجائزتي أوسكار عن هاتين الفئتين.
يكرّم غييرمو ديل تورو مجموعة من المخرجين عبر استعارات مباشرة من أعمالهم كما في حالة ديكور شقّة إيلايزا، تحديدًا طاولة سفرتها الصغيرة، وشبّاكها المطلّ على مدينة بالتيمور، المأخوذَيْن من فيلم «الحذاء الأحمر» (1948) للثنائي البريطاني مايكل باول وإيمريك برسبرغر. كما يشير ديل تورو إلى استلهامه من أفلام المخرج الألماني دوغلاس سيرك، والمخرج الأميركي ستانلي دولان المعروف بأفلام جين كيلي مثل «الرقص تحت المطر»، إلى جانب المخرجين فيشنتي مينلي، وويليام وايلر، وهما بين أبرز من وقّعوا ميلودرامات كلاسيكيّة ساذجة ينظر إليها دومًا كنوع سينمائي كلاسيكيّ، ولكن ثانوي.
إلى جانب استعارة أجواء تلك الأعمال وديكوراتها، يدخلها المخرج في يوميّات شخصيّاته على مستويين. المستوى الأوّل عبر شاشة التلفزيون التي يستعيد جايلز من خلالها أعمالًا سينمائيّة راقصة، ومنها مثلًا مشهد الرقص النقري الشهير لشيرلي تامبل من فيلم «الكولونيل الصغير» (1935)، أو مشهد رقصة الشتاء لبيتي غرايبل من فيلم «كوني آيلند» (1943). المستوى الآخر، يقوم على إعادة تمثيل أو تقليد مشاهد من الأفلام الموسيقية الكلاسيكيّة، كأن تؤدي إيلايزا نمرة رقص نقري جالسةً بجانب جايلز على كنبته، تزامنًا مع عرض النمرة ذاتها على الشاشة، أو كأن ترقص مع مكنستها في استعادة لرقصة شهيرة أدّاها فريد أستير مع حمالة قبعات في فيلم «الزفاف الملكي» (1951).
بالنسبة لإيلايزا فإنّ الأفلام وسيلة للهرب من الواقع، ولكنّها أيضًا طريقتها للتواصل، إذ تجد فيها صوتها الذي فقدته. في أحد أجمل مشاهد الشريط، وربما أحد أجمل مشاهد السينما في السنوات العشر الأخيرة، تتخيّل إيلايزا نفسها قادرة على الغناء. تتناول البطلة الطعام على مائدتها الصغيرة، مع حبيبها إله النهر، على أنغام أغنية (You’ll Never Know) لأليس فاي، تبدأ بالرقص، فيحلّ الظلام على الغرفة، وتتركّز الإضاءة على طرفها الخاص من الطاولة، كأنّها باتت خارج هذا العالم. تزول الألوان عن الشاشة، وننتقل مع إيلايزا التي باتت ترتدي فستان سهرة، إلى إطار بالأبيض والأسود. هناك، ترقص مع إله النهر على مسرح، بصحبة فرقة موسيقيّة، في استعادة لإحدى رقصات فريد أستير وجينجر رودجرز في فيلم «وقت السوينغ» (1936). المشهد مضحك جدًّا، فالراقص الأساسي وحش برمائي، وليس فريد أستير ببذلته (السموكن) السوداء. رغم غرائبيّة المشهد المتعمّدة، إلّا أنّه لا يشذّ عن مقولة الفيلم العذبة عامّةً. صحيح أنّ إيلايزا لا تمتلك صوتًا، وأنّ حبيبها المتوحّش لا يفهم كلّ ما تقوله، إلا أنّ الموسيقى والرقص يمنحانها القدرة على التعبير. السينما تخرج قصّة حبّ إيلايزا وإله النهر من حوض الاستحمام، ومائدة الطعام، وسجن المختبر العلميّ، وتضعها على خشبة مسرح رحب.
عند تحضيره للعمل، طلب المخرج من الممثلة سالي هوكينز مشاهدة ساعات طويلة من أفلام شارلي شابلن ولورل وهاردي الصامتة، لكي تشبّع أداءها بأدوات التواصل والتعبير من دون صوت. بين الأفلام الموسيقيّة وأداء بطلته الصامت، يستعيد ديل تورو في «شكل المياه» ثيمةً شغلت معظم أفلامه، وهي التواصل مع الآخر، ذلك المخلوق البريّ، سواء كان وحشًا، أو عائدًا من عالم الأموات، أو شبحًا، أو إله نهر. شخصيّاته دومًا تبحث عمّن يسمعها، ولكنّ الكلمات واللغة أعجز من إتمام ذلك التواصل. لذلك اختار غييرمو ديل تورو ألّا ينطق بطلا «شكل المياه»، بأيّ كلمة. يتواصلان بلغة الإشارة، أو عبر الموسيقى، أو بواسطة الرقص. وبالرغم من أنّ البطلين صامتان طيلة الفيلم، نفهم في النهاية أنّهما الوحيدان القادران على التواصل في هذا العالم، بلغتهما الخاصّة، لغة الحبّ.