عالم إريك ساتي الغريب

الإثنين 19 أيلول 2016

عندما دخلوا غرفته للمرة الأولى بعد وفاته، أدرك أصدقاء ساتي لماذا لم يكن يسمح لهم بزيارتها: وجدوا آلتي بيانو بحالة تعيسة، أكوامًا من النوتات غير المنشورة، رسائل وطرود مختومة، خزانة فيها مجموعة مظلات وسبع بدلات سوداء متطابقة تمامًا، هي كل ما كان يلبسه. كانت كرامته تمنعه من إظهار فقره أو طلب المساعدة، لكن غرفته فضحت السر.

«إسمي إريك ساتي.. مثل كل أحد»

حديثه منمق ومظهره يوحي ببيروقراطي جدي ورتيب، لا بفضيحة باريس الموسيقية الكبرى. فمنذ طرده من معهد باريس عام 1881 بحجة غياب الموهبة، اكتفى ساتي بعالمه الخاص على هامش المنظومة السائدة، ليصبح، حتى اليوم، أيقونة مضادةً لكل ما هو مؤسساتي وسلطوي ودارج.

سداسيته الشهيرة «غنوصيات» بطابعها الغيبي تشهد على مراحل إنتاجه الأولى، التي أمضاها في دراسة العصور الوسطى بموسيقاها وعلومها الباطنية مثل الخيمياء. تتشابه حركات العمل في الإيقاع والسرعة وطبيعة الهارموني، وتكرر ذاتها بطريقة متعمدة لا يمكن تجاهلها، فساتي نادرًا ما يحكي بموسيقاه قصة متسلسلة مثل الباقين، بل يفضل إعادة نفس القصة كل مرة بطريقة أخرى، كمن ينظر إلى الشيء نفسه من عدة زوايا مختلفة.

طريقة تنويط قطعه هي ظاهرة بحد ذاتها، حيث كان يكتب النوتات بدون مقياس زمني، وعلى خطوط مستمرة غير مقطعة إلى وحدات زمنية كما جرت العادة، كما لو أن الزمن غير موجود. أما في المساحة من الصفحة المخصصة لتعليمات الأداء، وبدل أن يكتب توجيهات مثل «أسرع» أو «أبطئ بقليل» أو «بعذوبة» مثلما كان ليفعل أي مؤلف آخر، يوجه ساتي للعازف تعليمات مثل «تحلّ بالبصيرة»، «انقع نفسك»، «بأعلى صوتك، ألا تظن ذلك؟» أو يصف طريقة عزف مقطع ما بـ«مطبوخ قليلًا» أو «مثل بلبل بوجع أسنان»، مع أن المقطع المذكور قد يكون بقمة الجدية، مما يجعل من قطع ساتي متاهة من التناقضات. يستحيل الجزم متى تكون هذه التصرفات مجرد تهريج أو خلق لجو عدمي، ومتى تخفي نكتةً سوداء أو صراخًا يائسًا أو تلميحًا ذكيًا، أو جميعها معًا.

تشكل لغة ساتي بتواضعها وميلها نحو الحميمية والعبث تصريحًا مضادًا لجدية الأعمال الرومانسية، والتي رأى ساتي أن أفكارها البطولية والمثالية وصلت إلى مراحل متقدمة من الابتذال. أما العناوين الغريبة لمقطوعاته مثل «ثلاث مقدمات مترهلة (من أجل كلب)» أو «رنة لإيقاظ ملك القرود الكبير والطيب (الذي لا ينام إلا بعين واحدة)»، فكانت تهدف بحسب أصدقائه إلى حمايتها من العازفين المهووسين بالعظمة، والذين لن يسمح لهم كبريائهم بوضع هكذا عناوين في برامجهم.

من ضمن مفاهيم القرن التاسع عشر الأخرى التي رمى بها ساتي كانت الفيرتووزية، أي حب استعراض التقنيات الصعبة والمعقدة، والتي كانت هوس الموسيقيين والجمهور معًا. فأي طالب بيانو مبتدئ أو هاوٍ يستطيع عزف غالبية مقطوعات ساتي بسهولة، مما يضفي على تمرده الجمالي شرعية اجتماعية.

هذه البساطة التقنية لا تزال حتى اليوم سببًا في تجاهل كبار العازفين له على اعتبار أنه مهرج غريب الأطوار، الشيء الذي لم يكن ليزعجه بالمرة، حيث فضل أن تعزف موسيقاه في الشقق العادية والحياة اليومية على أن تصبح سلعة تجارية أو استعراضًا لقدرات العازفين الأكروباتية. يتطلب أداء ساتي الكثير من التواضع والبراءة الطفولية، فبساطته هي فزاعة لإبعاد العازف الذي لا يهتم إلا بالمظاهر والصعوبة التقنية، وجذب أولئك المستعدّين للضياع في سر كبير.

«لا بد من أني نسيت مظلتي في المصعد (…) لا بد أنها قلقة جدًا لأنها أضاعتني»

كان الغياب والغموض جزءًا من حياة ساتي وموسيقاه، فكان يحدث أن يختفي لأسابيع عن أصدقائه ثم يعود للظهور. كان مؤدبًا وهادئًا للغاية، إلا أن من يعرفه يعرف أن لديه منطقًا خاصًا في فهم الأشياء والحديث عنها قد يشوش من لم يعتد عليه. يبدو ذلك من تدويناته القصيرة المسماة «مذكرات شخص فاقد للذاكرة»، والتي يحكي فيها عن حياته بسخرية لاذعة لا تخلو من اللباقة والطفولية، ومن مصطلحات علمية معقدة وغير مفهومة أحيانًا.

عام 1897 كتب ساتي عمله «قطع باردة»، والذي يعني عنوانها بالفرنسية أيضًا «غرف باردة»، ربما كتلميح إلى معيشته الصعبة. وينقسم هذا العمل إلى جزأين يتكوّن كلٌ منهما من ثلاث حركات، الأول هو «أغان تحث على الهرب»، والثاني «رقصات العبور» في إشارة إلى الجمل الموسيقية التي تعبر باستمرار من يد العازف اليسرى إلى اليمنى.

تكاد تكون القطع رومانسية في الظاهر، لكنها في الحقيقة تقع على بعد خطوات من السقوط في عالم مرعب من الفراغ. يبدو ذلك من خلال نقلات هارمونية غير طبيعية، أو تكرار للأفكار بطريقة عبثية لا توصل إلى مكان واضح، كمن يهذي كلامًا دون توقف، أو كنوع من الرومانسية التي تعبت من ذاتها فصارت تدور حول نفسها في حلقة مفرغة. كل جملة دخيلة على ما قبلها، واللحن الذي يوهمنا للحظة بأنه يبني تصريحًا عاطفيًا معينًا لا يلبث أن ينهار إلى نهاية خرقاء وغير مفهومة.

مع الاقتراب من نهاية العمل يتنامى إحساس بالهشاشة والركود، يصل في الرقصة الأخيرة إلى تكرار لأفكار الرقصتين الأوليين، كشيء استهلك نفسه حتى الرمق الأخير. بالرغم من محاولة ساتي إخفاء غربته خلف كولاج شبه عشوائي. يرى البعض أن «قطع باردة» تظل أكثر أعمال ساتي شفافيةً وشخصيةً، بحساسيتها للتفاصيل الصغيرة، ولا مبالاتها المطلقة بقواعد الهارموني والتناظر الموسيقي.

يشكل عمله «ثلاث قطع ببنية الإجاص»، المكون في الحقيقة من سبع قطع، تهكّمًا على البنى والقوالب الموسيقية البالية لعصره، وتشكيكًا بجدوى المعنى والثقافة الدارجة عمومًا. تختلف حداثة ساتي في أعمال كهذه من حيث أنها لا تطمح إلى تحطيم المفردات القديمة بعنف كما سيفعل لاحقوه، بل تستخدم المفردات نفسها بعد تجفيف معناها المعتاد وتحويلها إلى قطع محنطة، وخلطها بكل التأثيرات غير المألوفة مثل موسيقى العصور الوسطى والراجتايم الأميركي، أو المقامات الشرقية ورقصات الصالونات الباريسية، والتي تعوم جميعها فيما يشبه شوربة من الأفكار الميتة التي ضاعت عن معناها الأصلي. كل شيء مألوف، لكن لا شيء في مكانه. فإن كانت أعمال شوبان وشومان للبيانو تشبه قصائد عاطفية مطولة، فأعمال ساتي تشبه تلك الأغراض المنسيّة والملونة المرمية في سوق التحف المستعملة، جمالها من نوع خاص جدًا.

«هواء باريس سيء لدرجة أنني أغليه دائمًا قبل تنفسه»

اكتملت عزلة ساتي بمغادرته المدينة عام 1898 إلى إحدى الضواحي الفقيرة. كان يكن ودًا صادقًا للفقراء والمهمشين، ويمضي وقتًا في إعطاء دروس طبخ لأطفال الحي، أو متابعة نشاطات الحزب الشيوعي الذي انتسب إليه.

ترافقت موسيقى ساتي المتأخرة بقمع نهائي لحطام العواطف الذي كان يطفو في قطعه السابقة، وتميزت بوضوح جريء يتزامن مع الألوان الجريئة والخطوط العريضة لفناني العصر مثل بيكاسو وماتيس. ألحانها قد تكون ألحان أطفال بسيطة لولا نوتة واحدة غريبة أو قلبة إيقاعية تكفي لتذكيرنا بأن وراء القناع شخص أعقد بكثير مما يبدو عليه.

ابتكر ساتي في تلك المرحلة مفهوم «موسيقى الأثاث»، وهي الموسيقى غير المصممة للاستماع المباشر، بل لتكون جزءًا من البيئة الداخلية لمكان ما، ولتتماهى مع محيطها مثل ديكور أو ورق جدران. كانت مجرد فكرة كتابة موسيقى «لا يحتاجها أحد» فكرةً ثوريةً، وربما كان ساتي تراجع عنها لو عرف أنها ستخرج عن السيطرة لتصبح اليوم مصدر تلوث صوتي في المطاعم والمصاعد والمساحات العامة.

بدأت الحركات الحديثة الصاعدة بتقدير أفكار ساتي وأدت إلى بنائه علاقات واسعة مع طليعيي المدينة الشباب مثل بيكاسو وكوكتو، واللذين تعاونا معه على إنتاج فضيحته الأهم، باليه «باراد». وصف الشاعر أبولينير الباليه بأنه «فوق-الواقعي» (sur-real)، ليصبح بذلك أول استخدام لمصطلح السريالية، بينما قوبلت موسيقى ساتي وأزياء بيكاسو بهجوم همجي شديد أودى بالفنانين الثلاثة إلى المحكمة.

أمضى ساتي أيام مرضه الأخير في غرفة استأجرها له أصدقاؤه رغمًا عنه، ورحل عام 1925 بعد أن أمضى غالبية أيامه الأخيرة يحدق بنفسه في المرآة. ترك وراءه أعمالًا ساخرة، وأخرى كئيبة ومظلمة، ولو أننا لا نستطيع دائمًا تحديد تحت أي تصنيف يقع كل عمل، بالإضافة إلى «قدّاس للفقراء»، وموسيقى باليهات وأفلام تجريبية وكمية من الأغاني الخفيفة المكتوبة للكاباريهات والمقاهي الباريسية حيث كان يكسب رزقه.

يضاف إلى ذلك مجموعة أعمال لا تزال غير مفهومة تمامًا، مثل قطعته «صباح الخير، بيكي» المكونة حرفيًا من هذه الكلمات ملحنة بما لا يتجاوز الثلاثين ثانية، أو قطعته التأمّلية «مضايقات»، التي يقترح فيها على العازف أن يكرر نصف صفحة من الأكورات الموسيقية غير المترابطة 840 مرة، مما يستغرق أكثر من 18 ساعة. «ساتي كان عصيًا على التفسير ويجب أن يبقى كذلك» كما يقول صديقه هنري سوجيه.

لا يمكن حصر كمية الأشخاص الذين يدينون لساتي، فحبه للموسيقى الشعبية والواضحة سيلهم جيلًا كاملًا من المؤلفين اللاحقين مثل سترافينسكي وبولنك، بينما يعتبر حبه للتبسيط والتكرار تبشيرًا مبكرًا بظهور المينيمالية. لذته في التهكم على البرجوازية والتشكيك بمعنى الفن ستصبح من أسس السريالية والدادائية والعبثية، كما سيؤثر براديكالية تجاربه على تيار الفلوكسوس الأميركي ومؤلفه جون كيدج، الذي رآى في ساتي مفصلًا تاريخيًا ونموذجًا مبكرًا لكل ما قام هو به في الخمسينيات وما بعد. أما قطع مثل «جيمنوبيدي»، فسيكون قدرها أن تصير خلفية لعشرات الأفلام والدعايات وواحدة من أكثر الأعمال الكلاسيكية انتشارًا.

لكن ساتي لم يكن ليهتم بكل هذا، فهو في موته كما في حياته، يراقب الجميع من زاويته المنعزلة على الهامش، فهو لم يحب يومًا الضخامة ولا الأفكار الكبيرة، وكان كل همه أن تبقى موسيقاه بسيطة ونقية مع مسحة من الحزن واللامعقول.

«صول» هي زاوية شهرية تتناول قضايا موسيقية كلاسيكية وحديثة.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية