في عالم محمد خان: أربع حيوات لمدينة الخِفية

الإثنين 01 آب 2016
المخرج المصري الباكستاني محمد خان (١٩٤٢ – ٢٠١٦).

بقلم أحمد ندا

مات محمد خان. لا مجاز ههنا يمكن أن يكون أكثر تعبيرًا من هذه العبارة، وما تحمله من شجن وخسارة. المخرج المصري للغاية لم يحمل أوراق جنسيتها إلا من عام فقط. قبلها كانت مصريته في شريطه السينمائي، في عينه اللاقطة لحيوات المدينة في قلب فوضاها وعلى هامشها.

ولد محمد خان لأب باكستاني وأم مصرية، في القاهرة عام 1942، وتعلق بالسينما منذ طفولته، حتى درسها في بريطانيا في الخمسينيات ومنها إلى بيروت ليعمل مساعدًا للمخرج جمال فارس. قبل أن يقرر العودة إلى مصر، وخوض أولى تجاربه الإخراجية «ضربة شمس» عام 1978، ليؤسس بذلك مع مجايليه عاطف الطيب وخيري بشارة وداوود عبد السيد، ما أسماه النقاد لاحقًا «تيار الواقعية الجديدة» في السينما، المشغولة بالخريطة الاجتماعية لمصر وتحولاتها وتدوينها في الشريط السينمائي.

كان خان مُحبًا مُخلصًا للسينما، لا بوصفه من صُنّاعها فقط، بل مُتفرجًا ومُعلقًا ومُتًابعا لجديدها. الناس في أفلام خان حيوات تُحدد مساراتها علاقتها بالمدينة، بالقاهرة تحديدًا. فكيف يلتقط فرادتهم وسط زخمها؟

***

– أمي ماتت يابا.
– معاك سيجارة.. كلنا هنموت.

(الحريف، 1983)

صوت أنفاس فارس (عادل إمام) في شريط الصوت، ملامحه المنحوتة بغضب كامن، الكرة بين قدميه ليس كرة تمامًا، بل حياته التي يحاول أن يراوغ بها في الشوارع الجانبية لمدينة ينتمي إلى حوافها، حياته كلها بين الأقدام، في النهار هو صانع أحذية، وفي أوقات فراغه لاعب كرة ماهر لم يسعفه حظه في أن يحترف؛ العاصمة لا تعترف بالأحلام البسيطة وتطرد حامليها. هو لا يلعب الكرة إلا ليطارد بقايا هذا الحلم.

الحياة والموت والحب والغضب والقهر كلها مفردات منقوصة في حياة فارس، والعالم الموازي الذي يعيش فيه لا يناسب ثمانينيات ما بعد الانفتاح، حيث التوحش الاقتصادي يدفعه إلى المراهنة بحلمه الوحيد، رهان عشوائي يناسب مكان حياته. الذات المكبوتة بخيباتها لا تتمدد إلا لتنفجر أو تتماهى. لحظة فارس الفارقة كانت في الخسارة، فداحتها المدمرة رآها في جاره الذي جُن وانفلت من قانون المدينة، ليُدرك صانع الأحذية محب كرة القدم أن لا سبيل في العيش إلا بركوب موجة تغيراتها. وداعيّة الحلم، كانت في مباراته الأخيرة، دون رهان هذه المرة، يواجه حلمًا لشاب طازج في شوارع قسوتها، سينتصر ويسجل هدفًا، ركلة أخيرة لكرة أمنيته القديمة، وقد تركها تستقر في شباك مصيرها لآخر مرة.

***

– القميص طلع على قدك؟
– واسع شوية.
– خلاص خليك قاعد معانا كام يوم لحد لما تكبر ويكون القميص على قدك.

(خرج ولم يعد، 1984)

كان ذلك في السعودية. أبي يدخل علينا وعلى وجهه تعبير أعرفه جيدًا، هو أحضر شريط فيديو VHS جديد إذًا. كنتُ شديد الحماس، بعد شهرين من الفرجة على مسلسل «رأفت الهجان» كاملًا؛ حقنة وطنية أخذتها بمحبة، الأشياء الوحيدة التي تربطني بمصر التي لم أرها، فماذا يا ترى هذه المرة؟ يقول أبي «هتتفرجوا على فيلم مفيش أحسن منه في الدنيا» إحباط خفيف من قبلي، فيلم؟ مجرد فيلم؟ يعني كلها ساعتين وينتهي؟ على كل الأحوال ساعتين أفضل من لا شيء.

نجلس جميعًا لنشاهد «خرج ولم يعد» وفرح طفولي يزداد نصاعة على وجه أبي، «المكان اللي في الفيلم شبه بلدنا يا أحمد»، يقول أبي. هو هنا لا يستعيد فاترينة الانتماء الوطني كما كان في رأفت الهجان. مع الفيلم يتذكر جدي وجدتي، الأرض والزرع، أشياءه الحميمة للغاية. لا يحب أبي القاهرة، لكنه قضى فيها شبابه لأنها مكان الرزق والعمل، لو كان الأمر بيده لما ترك القرية مطلقًا. أنظر إلى الشغف والابتسامة التي تملأ وجهه وأتمنى أن يكون لي «مكانٌ» مثله، أو لعل مكانه سيصبح لي في كل الأحوال.

عطية (يحيى الفخراني)، عنصر في لوحة القاهرة الفوضوية، بشريط صوتها الضوضائي، بأغنية عدوية المناسبة للحال «زحمة يا دنيا زحمة، زحمة وتاهوا الحبايب»، عطية في حصار الفوضى؛ البيت والخطيبة والعمل والمواصلات حد التوتر المشدود بين كل ذلك، والقالب الذي يجب أن يعيش فيه. غير أنه قرر أن يعكس الرحلة التقليدية، فيهرب من العاصمة إلى القرية. لمعة عين أبي تقول الكثير عن رغبة مماثلة لا يمكن أن تحدث، وليت الواقع يحاكي الأفلام.

***

– بقى رمضان ومراد طبخوها مع بعض من ورايا؟ طب ليه بعتوني؟
– مية المية عشان قالوا إن شمس بيصور كويس.

(ضربة شمس، 1978)

أول أيامي في القاهرة، أتتبع التفاصيل التي رأيتها في ضربة شمس، وعيني على «فيسبا» مثل التي ركبها شمس، لعلني أحظى ببنت جميلة مثل نور. باحثًا عن حياة فردية لم أتمكن من الاستمتاع بها بحصار عائلي. أنا الآن وحيد هنا، في بداية تأسيس لحياة مستقلة كما أرغب.

شمس (نور الشريف) المصور المحترف وجد سرديته، إنه يدون المدينة بصريًا، قبل أن تأخذه لعبة التورط في مغامرة، يمضي في مسار مواز لمسار صديقه الضابط، ليحل جريمة قبله. «شريرة الفيلم» ليلى فوزي لم تنطق كلمة واحدة طوال الشريط السينمائي، حقيقة لم أرتعب من «شر عربي» في فيلم كما ارتعبت منها، بملامحها الباردة القاسية، لا قرون ولا صوت أجش ولا ضحكات شريرة متقطعة، مجرد سيدة صامتة مدخنة، هادئة. ويا رعب الهادئين!

***

إنت تيجي معايا تتعلم كاراتيه.. كارا يعني فاضية وتيه يعني إيد. كاراتيه يعني الإيد الفاضية.

(مستر كاراتيه، 1992)

يا ليت المغامرة آمنة كما في الأفلام يا صلاح. البطل الأمريكاني يموت عدة مرات ويقوم دون أن يصاب بخدش. وصلاح (أحمد زكي) مجذوب إلى مقام شريط الفيديو، الأكشن منه تحديدًا، يريد مغامرة، يريد أن يكون بطلا. البطولة هي «تحققه» الممكن في نظره، لا المال ولا البيت ولا الحياة المسروقة رغمًا عنه في «جراش» سيارات. وعندما يخوض مغامرته الوحيدة، يخسر رجله، ليعيش أعرجًا.

تلك بداية الإفاقة، قبل أن يفيق بالكامل ويقرر العودة إلى قريته مع «مطحونة» أخرى مثله لم تعرف كيف تكون حلية في عقد المدينة أو على وجهها البرجوازي بأقل قدر من الخسائر؛ كيف تكون ملحقةً «بالحياة النضيفة» رغم تحرشات الشباب ومضايقات الزبائن.

صلاح تعلم الكاراتيه فخسر رجله. صلاح قرر تتبع حلمه في المغامرة، فترك كل شيء وعاد من حيث جاء. حيث يعرف أكواد التعامل مع المكان، بعيدًا عن القبر المستتر بجوار السيارات.

***

«ربما كانت الشخصيات من الخيال، لكن ثق أن الأماكن من الواقع». بهذه العبارة صدّر خان فيلمه «خرج ولم يعد» وهي جملة مفتاحية في فهم العالم السينمائي لمحمد خان بنيويًا وجماليًا. المكان هو المركز والبطل الأساس في كل أفلام خان، والمكان دائمًا هو القاهرة.

الحيوات والمصائر في أفلام خان، إنما هي التمثيل الإنساني لتفاعلات المدينة مع قطاعاتها المختلفة، وردود أفعالها على ذلك كله. المدينة ليست مجرد بنايات وتخطيط عمراني، بل ديناميكية اجتماعية، ترسم خريطتها الإنسانية، هكذا يصير عطية في «خرج ولم يعد» المديني الذي يبحث عن يوتوبيا بديلة ليوتوبيا العاصمة القديمة. ورغم تأكيده على أن شخصيات أفلامه خيالية، إلا أنها بشر من لحم ودم. إذ استطاع محمد خان أن يهرب من مأزق الخطابية الناصرية الزاعقة، والرمزية الساذجة في سينما جيله.

السينمائيون، حسب تاركوفسكي، نوعان: واحد يخلق عالمه الخاص، وآخر يعيد خلق الواقع. سينما خان كانت قادرة على التماس مع النوعين، فإذا كان يعيد ترسيم الواقع مكانيًا، فإنه يخلق عوالم شخصياته بإعادة تفنيد معطيات المجتمع ونقدها. قد يكون خان هو أكثر أبناء جيله غزارة، لا في عدد الأفلام فحسب، بل بمغامرته في التجريب، وباستعادة مذاق السينما خارج القوالب الجاهزة.

مع السلامة يا محمد!

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية