ما يزيد عن ألفي قطعة تراثية من أثواب وحلي ومستلزماتها جمعتها وداد قعوار، الباحثة في مجال التراث الوطني، منذ أكثر من ستين عامًا، لتكمل بها شكل اللباس التراثي للمرأة في البلدات والقرى المختلفة لبلاد الشام وبعض مناطق اليمن وعُمان.
ولدت قعوار في طول كرم قبل أن تنتقل مع عائلتها إلى بيت لحم عام 1941، وبدأ إعجابها الشديد بالأثواب مع زيارات «يوم السوق» قبل عام 1948، عندما كانت كل مدينة تختار يومًا في الأسبوع لغرض التجارة، حيث يتم بيع منتجات الأراضي وشراء ما يلزم للمنازل. تقول قعوار: «في يوم السوق كانت النساء تأتين إلى مركز القرية أو المدينة مرتديات أجمل ما لديهن من أثواب ليبعن ما أنتجته الأرض من ثمار، ويشترين بدلاُ عنها الخيوط الحريرية والأقشمة بهدف تطريز أثوابهن، كان مشهدًا جميلًا ورأيت أثوابًا جميلة حينها».
ذلك المشهد تبّدل في ذاكرة قعوار بعد النكبة.
«تفرقت النساء في المخيمات بعد النكبة، واختلطت الأثواب، وأصبحت الجارة في المخيم هي ابنة مدينة ومنطقة أخرى لجارتها، وتحوّل اللباس القديم الذي كنا نحبه إلى لباس بالٍ ومرقع، وصار الثوب خليطًا من وِحَد التطريز، ففي الثوب الواحد قد نجد النقشة الخاصة بيافا وبئر السبع وعكا وهكذا». على إثر ذلك بدأت قعوار بتجميع القطع الصغيرة عشوائيًا لتحتفظ بأصل التطريز.
بعد تخرجها من الجامعة الأمريكية في بيروت بشهادة في التاريخ العربي عام 1954، أيقنت ضرورة تجميع الأثواب، وتوثيق أصل الثوب واسم التطريز والمناسبات والقصص التي ترتبط به، فراحت تتنقل بين القرى والبلدات تزور العائلات أو الجمعيات الثقافية لسماع القصص حول الأثواب والقطع الأخرى.
عملية التوثيق لم تكن سهلة على قعوار، وهي تقابل أشخاصًا بسيطين يخشون من التصوير او التسجيل. «القروية كانوا يشكّوا كثير وما يرضو أصوّر أو أسجل، فأقعد بس بسمع وبس أروح أصير بدي أتذكر اللي حكوه كله، هذا كان أصعب اشي»، لكنها بالرغم من ذلك تذكر القصص وتتأثر بالعديد منها، كتلك القصة التي سمعتها من أم مطيع التي كانت تذهب من قريتها البعيدة لسوق غزة، وعندما حان عرسها لم يكن لديهم المال الكافي لشراء الخيوط والأقمشة لصنع ثوب يليق بالعروس، فقامت أمها بتجميع البيض لفترة حتى ملأت سلتين من البيض، وذهبت بعدها للسوق مع والدها الذي استمر في الغناء طوال الطريق لتسليتها وإلهائها عن المسافة البعيدة وهي على ظهر الحمار، وباعوا البيض مقابل شراء الخيوط.
في عام 1956 تزوجت قعوار وغادرت بيت لحم إلى عمّان، فلاحظت بدء «اختفاء» الثوب الأردني نتيجة لمرور الزمن وتغير اللباس اليومي للسيدات، فشرعت لضم الأثواب الأردنية لمجموعتها وحفظ قصصها.
عرضت قعوار جزءًا من مجموعتها في معرض في برلين عام 1995، وهناك جاء زوّار من اليمن، وعاتبوها لأنها لا تجمع الأثواب العربية. «ما كنت أعرف عن الثوب اليمني قديش حلو، بعدها صرت احاول اجمع ثواب عربية لو بعدد قليل بس يكون عندي»، تقول قعوار.
في العام الماضي، تم إنشاء «طراز: بيت وداد قعوار للثوب العربي»، ليكون مقرًّا دائمًا لمجموعة قعوار المتميّزة ويعمل كمؤسسة غير ربحية تهدف لتوثيق تراث الأزياء الفلسطينية والأردنية وغيرها ومشاركتها مع الجمهور. وتم افتتاح المركز رسميًا هذا الشهر بمعرض «يا حافظ يا أمين» الذي يستمر حتى نهاية آذار 2016.
المتجول في المعرض الحالي في طراز، يلحظ من المعروضات حجم تأثر من ارتدوا تلك القطع بالتعويذات والحُجب والحسد، حيث طغى على المعرض القطع الفضية التي صنعت خصيصا لحفظ الحُجب، أو التي «تَرُد العين»، إلى جانب احتواء الأثواب ذاتها على أشكال المثلثات وبعض القطع الحجرية التي كان أجدادنا يؤمنون حينها بأنها «حافظة»، ومن ذلك جاءت تسمية المعرض بـ«يا حافظ يا أمين».
تقول سلوى قعدان، مصممة المعرض، أن أجدادنا عاشوا فترة من القلق والخوف من المستقبل والمجهول، قد يكون خوفا من المرض أو العنوسة أو العقم، دون أن يكون هناك ما يساعدهم على تجنب تلك المآسي سوى الحُجب والتعويذات، وهو ما يتضح من كل ما بقي من تلك الفترة، وهي القطع الفضية او الأثواب التي تطلب «الحماية» دومًا.
تستغرب قعوار من حجم الاعتراض الذي يقابلها، من منطلق ديني، بسبب عرضها للحجب والتعويذات. «مش كانوا الستات يرتاحوا؟ مش لما بتحط هذا الحجاب او التعويذة تشعر بالراحة والأمل؟ خلص ليش لأ؟ اللي بنتقدوا ما بعرفوا حجم تأثير الأم المرتاحه على عيلتها وأولادها وكيف ممكن فعلا يطيبوا لو مريضين نتيجة الراحة النفسية، بس أنا بطلت أناقشهم، بحكوا وانا ما بناقش».
قعوار معجبة بشدة بثوب منطقتها بيت لحم، وهو ما خصصت له معرضها الأول الذي جاء بعنوان: «خيوط ذهبية من بيت لحم» بداية العام الحالي، قبل أن يشتمل معرضها الحالي «يا حافظ يا أمين» على مختلف الأثواب التي جمعتها خلال الأعوام الستين الماضية، حيث تقوم بعرض ثوب لعدة أيام ثم تغييره لثوب آخر من نفس المنطقة، حفاظا على الأثواب من التلف نتيجة العرض.
أما عربيًا فتحب قعوار الثوب السوري ذا القطبة الناعمة والكم الطويل الذي يساهم في مهمة التلويح أثناء الرقص.
لثوب رام الله قصة مع قعوار، حيث أنها أثناء إقامتها لمعرض في برلين، قال لها أحد الزوار الألمان عند مشاهدته ثوب رام الله بأن والدته لديها كتاب يقول عن هذه «القطبة» بأنها ألمانية، فشككت قعوار بما قاله لها وتحدّته ووعدها بإرسال كتاب والدته لها. زارت قعوار بعدها رام الله وسألت كبار المدينة عن أصل القطبة، فقالوا لها بأنهم يتناقلون بأنها جاءت مع راهبات ألمانيات قدموا لرام الله سابقًا، فصدّقت قعوار حينها ما قيل لها في برلين.
تقوم قعوّار بشراء الأثواب والقطع التراثية التي تحتفظ بها إلى الآن، بعضها يعود إلى ما يزيد عن مئة عام، دون أن تتمكن من التوقف عن شراء كل ما يستهويها ويتعلق باللباس التراثي. «صار باب يفتح على باب وما قدرت أوقف، وصرت أشتري الكماليات للثوب زنانير ولبس الراس والمصاغ الفضي».
لكن قعوار تعبّر عن إحباطها في الفترة الحالية، حيث لا يوجد من يرتدي تلك الأثواب أو حتى يحتفظ بها، لكنها محبطة أكثر من المعارض التي تسمى «بالتراثية» والتي تتضمن العديد من المنتجات الفضية مثلاً دون أن تكون متعلقة بالتراث حقيقة. «بكونوا عارضين خرابيش على أساس انها قطع فضية، مع انه في ناس شاطرين وحافظين للنقشة وأوضاعهم المادية صعبة ممكن انه نستفيد منهم في صناعة الفضيات الأصيلة».
آلية حفظ الأثواب تخضع لخطوات عديدة، للحفاظ عليه وعرضه بأفضل طريقة. تشرح أميرة الزبن، أمينة متحف طراز، هذه الخطوات التي تبدأ من غرفة التجميد حيث يوضع الثوب الذي يتم ضمّه للمجموعة لمدة أسبوع، لتخليصه من اي مايكروبات وكل ما يعلق به، ثم يتم تعليقه بعلاّقة خاصة تحافظ على شكل الأكتاف، إضافة إلى تصميم أضواء المتحف بشكل لا يؤثر في الأثواب، بحيث لا تتعرّض للإضاءة بشكل قوي.