أن تقرأ التاريخ كاملًا في عطلة نهاية أسبوع

الإثنين 11 شباط 2019

من المواقف التي تجعل الإنسان عرضةً لنزعات عدوانيّة، تحسّرُه على الأيّام التي خطّط فيها للقراءة في موضوعات محدّدة ووقفت أمامه الكتب ذات الصفحات الكثيرة دون امتلاكه الوقت الكافي لها؛ لذا وُجِدت الكتب التي يُمكن أن تُعيد الأمل لكلّ هؤلاء المعتقلين خلف مكاتبهم ويتمتعون بيوم، أو يومي إجازة فقط نهاية الأسبوع.

بالإضافة إلى ميزتها في توفير دفقة معلومات وتحليلات كافية في موضوع واحد ومحدّد فقط، فإنَّ هذا النوع من الكتب القصيرة ضيقة الموضوع يمنح ميزة البطء في القراءة بسبب كثافة المعلومات فيها أو رمزيّتها، الأمر الذي يجعلها تُحافظ على الذاكرة يقظة، كيف؟

هناك البطء والتذكّر، السرعة والنسيان، انتبه كونديرا لهذه المسألة؛ وهي بالمختصر: خلال مشي أحدنا ورغبته بتذكر شيء ما فإن خطواته ستتباطأ تدريجيًا، والعكس مع من يُريد نسيان شيئ ما، فإن خطواته ستتسارع. ومقلوب هذه العلاقة صحيحٌ كذلك، إذ أنَّ المرور ببطء على الكلمات يجعل تذكّرها أسهل من المرور بسرعة عليها. لكن الموضوع لا يتعلّق بالذاكرة فقط، هناك المتعة أيضًا التي تتوافر لدى المتسكعين. الروائي التشيكي أطلق صرخته باتجاه الماضي: لم اختفت لذة البطء؟ آه، أين هم متسكعو الزمن الغابر؟[1]

لكل الراغبين بقراءة الكتب ولا يجدون وقتًا مثل متسكعي الزمن الغابر، هذه قائمة كتب تُمكّن قلّة عدّد صفحاتها من القراءة ببطء، وهي من حقل واحد: التاريخ، ممزوجًا بحقول معرفيّة أخرى: علم الأحياء والتاريخ، الأدب والتاريخ، الميثيولوجيا والتاريخ، وأخيرًا الثرثرة والتاريخ.

«التعويذة المسروقة: حكايات الآينو الشعبيّة»
جمع: بازل هال تشامبرلين
ترجمة: سهيل نجم
الناشر: هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث (كلمة)، 2010
عدد الصفحات: 143

عندما وقفَ أخيرًا زعيم الهنود الحمر سياتل أمام إسحق ستيفنز حاكم مقاطعة واشنطن عام 1845 قبل توقيع معاهدة يسلم بموجبها الأوّل أراضي قبيلته للمستوطنين البيض، وضع إحدى يديه على رأس الحاكم ثم أشار بسبابته إلى السماء وألقى خطة الهندي الأحمر. كانت كلماته الافتتاحيّة تقول: «وللزعيم الأبيض أن يثق بأي شيء يقوله سياتل كما يثق بعودة الشمس أو عودة الفصول».

كذلك عند رواة الآينو، إحدى الأقليّات العرقيّة في اليابان التي عاشت في أقصى الجزيرة اليابانيّة هوكايدو، والمنحدرين «من السكّان الأصليين الذين أُنتزعت منهم أراضيهم وحضارتهم من قبل الغُزاة اليابانيين»، فإذا تحدّث كهلٌ لهم فإنَّ على الجميع تصديق حكايته. وهذا ما لم يفهمه بازل هال تشامبرلين.

تشامبرلين هو جامع حكايات الآينو الشعبيّة نهايات القرن التاسع عشر، والتي تُرجمت من قبل مشروع كلمة في 2010 في كتاب حكايات شعب الآينو، ضمن سلسلة حكايات الشعوب. بعد قراءة السلسلة أو جزءٍ منها سنتوصل إلى خلاصةٍ مفادها أن الحكايات «تتنقّل بحريّة من أرض إلى أرض، ومن لسان إلى آخر، حيث تطرأ عليها تعديلات لتتناسب ثقافة هذا الشعب أو ذائقة تلك الأمّة، وفي بعض الأحيان نجد الحكاية نفسها – مع تغيير في أسماء الناس والأمكنة تُروى في أقاصي الشرق على نحو ما تُروى في أقاصي الغرب».[2] ومثلما تتشابه حكايات الشعوب الأصليّة، تتشابه كثيرًا مصائرها أمام مستعمريها.  

يُمكن تجاوز مقدمة الكتاب التي وضعها عالم الأنثروبولوجيا الإنجليزي إدوارد بي تايلور، أو التوجه مباشرة إلى الصفحة 17 من المقدمة، بالتحديد، الفقرة الأخيرة، لنأخذ الخلاصة الوحيدة فيها: «سوف يُسَرُّ بقراءة هذه المجموعة أولئك الذين يُحافظون على القيمة الجادة للفلكلور بكونه يُجسّد المراحل المبكرة والحقيقية للفلسفة لدى الشعوب».

كما ويُمكن تجاوز المقدمة الثانية التي وضعها جامع هذه الحكايات، الذي زار جزيرة ييزو (المعروفة اليوم باسم هونشو) سنة 1886 بهدف دراسة لغة الآينو، نظرًا إلى كل النظرات الدونيّة في تفسيرات تشامبرلين: «الآينو يقفون في مكانٍ متدنٍ من السلّم الحضاريّ بحيث لا فكرة لديهم عن فنّ إجراء الحديث بالمعنى المتمدن للكلمة»،[3] وبسبب ترجيحه أن شعب الآينو اقتبس حكاياته هذه من جيرانهم اليابانيين. أما لماذا، فالمسألة سهلة عنده: «غير المتحضّر يتعلّم ممن يفوقه تحضرًّا».[4]

39 حكايةً، قصّها كهول من الآينو هم: بنري، وإيشاناشتي، وكاناريكي، وكوتيشغورو على تشامبرلين. في أحد المرّات، حين استضاف تشامبرلين إيشاناشتي شهرًا في منزله ليقصّ عليه من هذه الحكايات -لم يستخدم تشامبرلين تعبير «استضفتُ» أو «استضفنا»، «حصلنا على الكهل»- قصّ عليه الكهل الحكاية التالية:

كيف استتب الأمر لمن حريّ به أن يحكم العالم؟

عندما انتهى سيّد العالم من إبداع البشر، اختلط كل الآلهة من الصالحين والطالحين على نحوٍ مشوّش، وبدأوا الجدال عمّن يحكم العالم، وأراد الطالحون من الآلهة أن يكونوا على رأس هذا العالم، وكذلك كانت رغبة الآلهة الصالحين. لذلك اتفقوا على ما يلي: من يرَ النجم المنير أولًا عند شروق الشمس، يحكم العالم؛ ولهذا راح كلُّ الآلهة من الصالحين والطالحين نحو المكان الذي يُشرق منه الضياء الأوّل، غير أنَّ الإله الثعلب، وحده، اتجه نحو الغرب. وبعد وقت قصير صاح: ها أنا أرى شروق الشمس. واستدار كل الآلهة من الصالحين والطالحين وحدقوا بأبصارهم ورأوا الضياء اللامع في الغرب؛ ولهذا السبب يحكم الآلهة متقدو الذكاء العالم (وليس الآلهة الصالحون أو الطالحون).[5]

توصل تشامبرلين إلى نتيجة مفادها «الآينو مولعون -من خلال أسلوبهم المتواضع- بالأخلاقيات والتأمل بأصل الأشياء»،[6] وأن شعب الآينو عندما يروي مثل هذه الحكايات فإنَّ عدد منها «يُحاول أن يشرح بعض المظاهر الطبيعية أو تمثيل أمر ماـ وبالتالي فإنها في حقيقة الأمر علم فيزيائي وعلم أخلاقي في مراحله الأولى».[7]

أخيرًا، هذه الحكايات من حكايات الآينو، الذين عاشوا قبل اليابانيين، مثلها مثل أغلب حكايات باقي السلسلة، توثق الحكايات والأساطير الشعبية للشعوب المغيّبة أو التي جرى تغييبها: مثل الغجر، وهنود الشيروكي، والبنغال، والإسكيمو، والتبت. وهي مناسبة جدًا للاطلاع على ثقافات هذه الشعوب، شرط الانتباه إلى مقدمات الرجل الأبيض في بعض الحالات.

«الجرذ: التاريخ الطبيعي والثقافيّ»
المؤلف: جوناثان بيرت
ترجمة: معن أبو الحسن
الناشر: هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث (كلمة)، 2010
عدد الصفحات: 189[8]

أفرد القصّاص الأرجنتينيّ خورخي لويس بورخيس قصّةً عن عالم عصابات نيو مكسيكو السفليّ منتصف القرن التاسع عشر، بالتحديد عن أحد أكثر رجالاتها وحشيّةً، القاتل ذو الوجه الصبيانيّ بيل هاريغان، الذي قتل بفعل الضجر الفتوّة المكسيكيّة بيلساريو فيلاغران.

استخدم بورخيس لوصف هاريغان مفردة «جرذ البيوت» التحقيرية. ومثل بورخيس يستخدم الكثيرون وصف الجرذ للأشخاص الذين يعيشون في الأسفل، أو بعيدًا عن: الأخلاق، والنظافة، والنظام (يُمكن الاطلاع على أوصاف القذافي لمعارضيه بشأن الأخيرة)، بالإضافة إلى استخدامهم مفردة جرذ لوصف كل ما من شأنهِ أن يكون وضيعًا. لكن الحقيقة هي أنَّ الجرذ أكبر من ذلك بكثير، إذ أنَّ هذا القارض يُعدّ قوّة مُهلكةً، ربما فاق عدد ضحاياه ضحايا الأيديولوجيات والحروب حول العالم. (الأرقام موجودة في الكتاب لمن يحب الدخول في تفاصيل الحسابات الرياضيّة لضحايا الطاعون التي يُتهم الجرذ بنقله) وهو أكبر كذلك بسبب كل العزاءات التي قدّمها للبشريّة؛ للمصابين بالسرطانات، والضغط، وأمراض الأعصاب وحتّى الأمراض النفسيّة.

يُعلن المؤلف جوناثان بيرت منذ البداية «هدف هذا الكتاب هو توفير ما يُشبه صورة توضيحية للجرذ في الحضارة والتاريخ البشريين (..) وسيكون هناك اهتمام بالتوجهات نحو الجرذان في الثقافات الأخرى غير الغربيّة»،[9] ولعل هذا الجزء الأخير لم يكن صحيحًا كثيرًا.

نجد الخلاصة في الصفحات الأولى من الكتاب: هناك تشارك بين فصيلة الإنسان والجرذ بوصفهما يُشكلان تطورًا ناجحًا: «كلا الفصيلتين هائلة عدديًا وتملكان قدرة شاسعة على التكيّف مع مختلف أنواع البيئات المتعددة، وهما من ناحية التطور ناجحتان في التنافس مع الأنواع الأخرى».[10]

الجرذّ هو الجوّال الأبدي مع البشر، نشأ في جنوب شرق آسيا، وانتشر عالميًا في أوقات لاحقة.[11] فيما يخصّ الجرذ الأسود (أحد أنواع الجرذان)، فقد وصل منتصف القرن السادس عشر إلى أمريكا الجنوبيّة، وإلى فلوريدا عام 1556 عن طريق الحامية العسكرية الإسبانية، والإنجليز نقلوه معهم إلى مستعمرة جيمس تاون في فرجينيا. الجرذ البني وصل أمريكا منتصف القرن الثامن عشر مع التجار والمستوطنين، وشق طريق إلى داخل أمريكا إلى كنتاكي عام 1812. باختصار، كان الجرذ مرافقًا للفاتحين والمستعمرين حول العالم.

تتبع المؤلف الجرذان في الثقافة منذ كان يُعتقد أنَّ لها خواص علاجيّة: «الماء الذي يُنقع فيه الفأر، أو يُغلى، مفيدٌ لالتهابات الفكيّن، ورماد رأس الفأر المحروق ممتاز لتنظيف الأسنان، وفضلات الجرذان مفيدة لشفاء تساقط الشعر، إلا أنه يبدو خطرًا عندما يكون الجرذ في ذروة شهوته الجنسيّة».[12]

يستمر المؤلف بملاحظة الجرذان، وكيف تحولت صورتها في أذهان الأوروبيين، من حيوان لصّ إلى حيوان قذر، وكيف كانوا في بلاد فارس يعتقدون أنَّ الجرذان يستخدمها الله لمعاقبة الخطاة الذي يسرحون في العالم، منتقلًا بعدها إلى ذكر الجرذ في النصوص الدينية التي يظهر فيها كعقاب حيث أنَّ «الجرذ هو المخلوق الأنسب لمحاربة الجشع والرذيلة».[13]

ورغم أنَّ المؤلف نسي وصف الجرذان في التاريخ التي يُطلقها الأدباء على من يعتبرونهم دونيين في نصوصهم، مثل بورخيس، غير أنَّه جمع كمًا كبيرًا من النصوص الأدبيّة التي تطرقت للجرذان، مثل رواية «الطاعون» لألبير كامو، ورواية «1984» لجورج أورويل، وفي الشعر قصيدة صائد الجرذان لجون جاي، حيث يرد على لسان صائد الجرذان الذي ترافقه القطط: «من دون القطط سيتاح لنا صيّادي الجرذان أن نحرك أقدامنا، وأن نصبح الحماة الوحيدين لأجبان الأمّة».[14]

أما داخل مُختبرات العلوم، فقد عُدَّ الجرذ بطلًا للعلم، وهذه قضيّة طويلة يبحث فيها المؤلف. «يُعامل العلم الجرذ كحيوان ضارّ، لكنه يُقدمه بوصفه بطلًا للعلم»، فمنذ أول تشريح له في 1621 وحتّى إصدار الخريطة الجينية له في 2004، «أنتج علم الجرذان خلال أقل من أربعة قرون بقليل، معلومات حول كل شيء بدءًا من البنية العضوية والجينية إلى أمراض مثل السرطان ومرض القلب ومن كيفية عمل النظام العصبي إلى المعلومات عن التعلّم والعاطفة والذاكرة». في عصور سابقة، عُد الجرذ رمزًا للرذيلة والشهوة الجنسية، إذ أدت هذه الشهوة الجنسيّة إلى «تكاثره الكثيف ومعدل تطوره السريع؛ وإمكانية توليد أعداد كبيرة من الجرذان من أجل التجارب وبصورة ملتحمه مع حجمه وسهولة التعامل معه يجعل منه حيوانًا مثاليًا للمختبر».[15]

لم يكن لرأس المال أن يُخيّب آمال وجوده حين نظر لهذه التقدمات التي تقدمها الجرذان؛ فأُسست شركات لإنتاج الجرذان منذ منتصف القرن العشرين، ولاحقًا صارت الجرذان حيوانات آليفة منذ بدايات القرن العشرين وحتى تأسيس الجمعية الوطنية للمعجبين بالجرذان (NFRS) عام 1976 ببريطانيا. الفكرة الأساسيّة التي يتوصل لها المؤلف هي أن «هناك [تزامنًا] بين الولع بالجرذان وتطور هجائن منها لعلم المختبرات، فكلا الأمرين ليسا متداخلين فقط بل إن الجرذان الأليفة في الوقت الحاضر تأتي بصورة أساسيّة مما تنتجه المختبرات».[16]

لم يكن الجرذ في المرتبة الأولى في نقل الطاعون، فقد ترك هذه المرتبة للبراغيث، لكن الكل كان يُشير للجرذ عند الحديث عن الطاعون. إذ كان الأطباء والباحثين من آسيا لأمريكا الشمالية وأوروبا يعتقدون أنَّ سبب الطاعون جاء من القذارة والظروف غير الصحية، وجثث البشر والحيوانات النافقة، لكن الرأي الأبرز الذي يؤشر عليه المؤلف ما قاله ابن سينا «إنَّ فكرة خروج الجرذان والفئران من جحورها «لتجلب الطاعون» تعود للفيلسوف العربيّ ابن سينا الذي كان رأيه أنها تنقل فساد العالم إلى البشر، وهذا الرأي السابق للعلم يكاد يكون صحيحًا تمامًا».[17] يفسر المؤلف: «فعُصيّات (بكتيريات) الطاعون تستطيع السكن في الأرض وهي لا تعيش إلّا أيام قليلة في الأجسام العفنة رغم أنها تستطيع البقاء سنوات إذا كانت الأجسام مجمدة. وفي جحور الجرذان المنحفضة درجات حرارتها تستطيع العيش لأشهر وأحيانًا لسنوات».[18] هكذا حافظت جحور الجرذان على بكتيريا الطاعون وخرجت به من الأسفل.

«كتاب المعانقات»
المؤلف: إدواردو غاليانو
ترجمة: أسامة أسبر
الناشر: دار الطليعة الجديدة، 2002
عدد الصفحات: 130

ينطق إدواردو غاليانو باسم أمريكا اللاتينيّة، لا باسم بلدهِ الأوروغواي، وفي مرات أخرى باسم العالم محذوفًا منه أوروبا وأمريكا. يُمكن اقتباس هذا النص من كتاب أبناء الأيّام للتدليل على طريقته:

«1 كانون الثاني
ليس هذا اليوم هو اليوم الأوّل في السنة عند المايا واليهود والعرب والصينيين وآخرين كثيرين من سكّان هذا العالم. تحديد هذا اليوم اخترعته روما، روما الإمبراطورية، ثم باركته روما الفاتيكان، ويبدو من المبالغة القول إنَّ البشرية بأسرها تحتفل بهذا التجاوز لحدود الأعوام».

يحذف غاليانو من العالم كذلك القصص الكبيرة، وينتبه لقصص وأحداث صغيرة وهامشيّة، التي يعيد سرد تاريخها في هذا الكتاب. ففي الولايات المتحدة، قُتل رجل العصابات الأكثر قسوة في البلاد، الأسطورة ذات الأصول الإيطالية آلبيرت أناستاسيا، بطلقةٍ أنهت على إثرها مسيرته في العنف. لكن غاليانو يُحاول هنا أن يجعل التاريخ يتنفس، فيروي الحادثة بشكلٍ آخر.

«كان تشينولوبي يبيع الصحف، ويلمع الأحذية في هافانا، ولكي ينجو من العنف، ذهب إلى نيويورك، هناك، أعطاه شخص كاميرا قديمة. لم يسبق أن أمسك تشينولوبي بكاميرا، لكنهم قالوا له: إن المسألة سهلة، فقط، تنظر من هنا، وتضغط هناك.

وهكذا، انطلق إلى الشوارع، ولم يكن قد سار طويلًا حين سمع صوت إطلاق النار، دخل إلى صالون الحلاقة، رفع الكاميرا، نظر هنا، وضغط هناك.

في صالون الحلاقة، أطلقوا النار على زعيم العصابة آلبيرت إناستاسيا بينما كان يحلق ذقنه، وكانت تلك أوّل صورة لتشينولوبي في حياته المهنية. دُفعت له ثروة. كانت الصورة انقلابًا لأن تشينولوبي نجح في تصوير الموت. كان الموت هناك: ليس في الرجل الميّت، وليس في القاتل، وإنما في وجه الحلاق الذي ينظر».[19]

درس غاليانو التاريخ، واستخدمه في نصوصه الأدبيّة كما يفعل في هذا الكتاب، إذ «كان حضور دروس التاريخ يُشبه الذهاب إلى معرض التماثيل الشمعيّة، أو إلى إقليم الموتى، كان الماضي ميتًا، أجوفَ وأخرس (…) توقف التاريخ المسكين عن التنفس، تمّت خيانته في النصوص الأكاديمية، كُذب عليه في المدارس، أُغرق بالتواريخ، سجنوه بالمتاحف وسجنوه تحت أكاليل الزهر، ووراء تماثيل برونزية ورخام تذكاري».[20] لهذا كلّه يُحرّر غاليانو نصوص التاريخ بأسلوب أدبيّ، ولا تجزعه الطريقة التي سيصنف بها النقاد الجنس الأدبي الذي يكتب فيه.

تتراوح نصوص المعانقات بين أسطر قليلة، نصف صفحة، صفحة، وربما صفحة ونصف. ولا يتجاوز حجم الكتاب الـ130 صفحة مليئة بالحكايات؛ «هذا الرجل، أو المرأة حامل بعدد كبير من البشر، البشر يخرجون من مسامه. بهذه الأشكال الفخارية، يُعبّر هنود بويبلو المكسيكيون عن راوي الحكايات، ذلك الذي يروي الذاكرة الجمعيّة التي تزدهر بفضل عدد قليل من البشر».[21]

«موجز تاريخ الأرداف»
المؤلف: جان ليك هينيج
الناشر: مؤسسة الانتشار العربي، 2012
المترجم غير معروف
عدد الصفحات: 229

كيف تطوّر الردف ليصل إلى الشكل الذي تقدمه كيم كاردشيان أو كيف جرى التنافس على التأمين على المؤخرات ووصل الوضع بها إلى لعبها دورًا تجاريًا؟ لن يخبرنا الكتاب بذلك. والعبارة على الغلاف «بعد قراءة موجز تاريخ الأرداف لا يعود المرء للجلوس كما في السابق»، مقولة للبيع.

وفي محاولة لجذب القارئ، يبدأ الكتاب «ظهرت «الأرداف» عندما خطر على بال الإنسان أن يقف على قوائمه الخلفية وأن يبقى كذلك. إنها مرحلة أساسيّة من تطوّر الإنسان».[22] لا الفصل الأول، ولا الستين صفحة الأولى من الكتاب يُخبرنا فيها عن الأرداف وتطوّر الإنسان سوى بالحديث عن ذكرها في النصوص الأدبية، ورسومات الفنانين، مثل تيودور جيريكو، لها، وأساطير ألمانيا في العصور الوسطى، التي كان شائعًا فيها خلال العواصف العنيفة إخراج المؤخرة من الباب لإبعاد الصاعقة وقوى الشرّ.

يبقى الكتاب على هذا النحو من الحكايات الطريفة، والأفكار غير المترابطة (أعتقد أنَّ هناك مشكلة كبيرة بالترجمة)، ولا يُخبرنا الكتاب في الفصل المخصص لمفردة الأرداف في القواميس غير أن الأمر مُلتبس، إذ «يجري الحديث عن عُجز ومؤخرات وأدبار».[23] لذا يلجأ إلى كتب الطبيعة؛ ككتاب بوفون التاريخ الطبيعي (1749-1789): «الأرداف التي تُشكل الجزء الأسفل من الجذع لا تنتمي إلّا للجنس الآدميّ، فليس هناك أيّ دابة تمتلك أردافًا وما يُظن لديها أنها أرداف هي أفخاذها».[24] لكنه يعود مرّة أخرى للقواميس: «بالنسبة لليتريه وقاموسه للغة الفرنسيّة 1862-1872، فإن الردف خاص بالإنسان والقرد».

في الصفحة 115 يظهر ما يُمكن اعتباره خلاصًا من الورطة التي أدخلنا بها الكتاب: «بلغ الردف ذروة كماله عند الإغريق، والردف الفتيّ والرياضيّ كان ردفًا ذكوريّا قبل أن يكون ردفًا أنثويًا (..) إن أوّل صورة للردف الإغريقي إذن صورة جسم رياضيّ يتفاخر في الظهور أثناء التمارين الرياضيّة»ن إذ كان الرياضيون الفتيان يصنفون في مصاف الآلهة إذا ما كانوا يتمتعون بردفين رائعين.

يُمكن أن يكون اسم الكتاب: الأرداف في الفنون والرياضة، إذ أن الطابع العام هو الارتكاز على النصوص الأدبية والدينية (متطرقًا لنظرة الكنيسة حتى القرن السابع عشر لممارسة الجنس الشرجي)، والأساطير واللوحات الفنية، فيضرب مثالًا رسومات الفنان الكولومبي فرناندو بوتيرو، رغم أنَّ الأخير له فلسفة في تضخيم الشخوص في أعماله ولا يقتصر الأمر على الأرداف.

«إننا نعيش زمنًا مواتيًا لعشّاق الأرداف» يقول الكاتب واصفًا الوضع في أوروبا، والسبب الذي دعاه لهذه التسمية هو لأننا نرى الأرداف بسبب أو بدون سبب في الدعايات. وقد بدأ الأمر عام 1970 كعامٍ فارقٍ في دعايات الأرداف، إذ شهد أوّل ضجة إعلانية بسبب ظهور أرداف في مجلة باري ماتش الفرنسية (كانت اللموند قد رفضت نشره وعادت بعد 10 سنوات لنشره)، وفي إعلانات الشوارع في باريس 1978.

إن التفسيرات المتطرفة للأرداف تبلغ ذروتها في قراءة لوحة الجوكوندا. من بين كل التفسيرات لابتسامة الفتاة يجد المؤلف تفسيرًا يُناسب موضوع: «إنَّ هذه الابتسامة التي لا تفسير لها والموصوفة أحيانًا بأنها ملتبسة وعادية تُخفي عجيزة فتى».[25] والتفسير ينقله عن مخرجة الأفلام الكيبكية سوزان جيرو.

الكتاب مليء بالأسماء الغريبة، وعليك أن تبحث بين صفحة وأخرى عن الاسم الأوّل، ولا تتفاجئ إن ظهر لك اسم جراح ومستكشف اسكتلندي وسط أسماء رسامين من القرن السابع عشر. لا هوامش، أو شروحات في هذه الترجمة، ولماذا سيكون هناك هوامش وشروحات إذا لم يظهر بالأصل اسم مترجم على الكتاب؟ على أية حال، فهذا الكتاب ذي المقدمة المخادعة يمزج الثرثرات بالتاريخ. ولعله يدفع للعودة إلى النزعات العدوانيّة التي قد تعيدنا إلى الرغبة في نهاية أسبوع أخرى من هذا النوع.

  • الهوامش

    [1] ميلان كونديرا، «البطء»، ترجمة خالد بلقاسم، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، بيروت، 2013. ص 6.

    [2] بازل هال تشامبرلين، «التعويذة المسروقة: حكايات الآينو الشعبيّة»، ترجمة سهيل نجم، هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث (كلمة)، أبو ظبي، 2010. ص 9.

    [3] تشامبرلين، ص 18.

    [4] تشامبرلين، ص 21.

    [5] تشامبرلين، ص 61.

    [6] تشامبرلين، ص 22.

    [7] تشامبرلين، ص 22.

    [8] مجمل عدد صفحات الكتاب 189 صفحة، لكن أغلبها صور ورسومات توضيحية. وإذا ما استثنينا الرسومات البيانية سيكون الكتاب 150 صفحة تقريبًا.

    [9] جوناثان بيرت، «الجرذ: التاريخ الطبيعي والثقافي»، ترجمة معن أبو الحسن، سلسلة الحيوانات، هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث (كلمة)، أبو ظبي، 2010، ص 21.

    [10] بيرت، ص 27.

    [11] بيرت، ص 31.

    [12] بيرت، ص 41.

    [13] بيرت، ص 79.

    [14] بيرت، ص 86.

    [15] بيرت، ص 95.

    [16] بيرت، ص 142.

    [17]  بيرت، ص 124.

    [18]  بيرت، ص 124.

    [19] إدواردو غاليانو، «كتاب المعانقات»، ترجمة أسامة أسبر، دار الطليعة الجديدة، دمشق، 2002. ص 13.

    [20] إدواردو غاليانو، «ذاكرة النار»، ترجمة أسامة أسبر، دار الطليعة الجديدة، دمشق 1995. ص 7.

    [21] غاليانو، «كتاب المعانقات»، ص 9-10.

    [22] جان ليك هينيج، «موجز تاريخ الأرداف»، مؤسسة الانتشار العربي، بيروت، 2012، ص 7.

    [23]هينيج، ص 63.

    [24] هينيج، ص 63.

    [25] هينيج، ص 160.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية