«نحو الشمس»: تحول الرخام إلى قصيدة عن الجسد الآدمي

الثلاثاء 09 نيسان 2019
لقطة من فيلم «نحو الشمس.

تتوالى الصور الغبشة المصغرة على نحو يخل بالهيئة الأصلية لتفاصيل التماثيل من غير أن تتضح في أي موقع في الفيلم صورة للتمثال بأكمله؛ بل أجزاء منه فقط. يرافق كولاج «الجليتش»* هذا صوت امرأة تظل غير معرّفة هي مرشدة سياحية ولكن على نحو غريب. نسمعها تقول: «اقتربوا من التمثال. العقوه بألسنتكم».

في الفيلم التجريبي القصير، «نحو الشمس» (17 دقيقة، 2019)، الذي صور بأكمله في طابق واحد في المتحف الوطني في لبنان ودون تراخيص وبكاميرا والدها «الأنالوج» العتيقة، تعيد المخرجة اللبنانية نور عويضة سرد قصص القطع الأثرية التي يستحيل التعرف عليها. فالمرشدة السياحية لا تعطي التماثيل إلا أرقامًَا ولا ترينا إلا التفاصيل المصغرة جدًا من أجزاء منها. ولكنها تُحوّل هذه الأصنام إلى آدميين عالقين في وجودهم المتحجر في المتحف.

تكمن حميمية الفيلم في تحويل التماثيل إلى أجساد من لحم في توصيف المرشدة السياحية لها والتعامل معها. فالفيلم يبدأ بتنبيه الزوار، أي مشاهدي الفيلم، إلى الكدمات والخدوش وآثار التعفن والتآكلات في التماثيل، فنوقن رأسًا أننا لسنا بصدد التعرف على تماثيل حجرية بل أجساد آدمية عضوية تتعفن عند موتها ويتغير جلدها تبعًا للظروف التي تتعرض لها من حرق وسلخ وجرح. تتحدث المرشدة عن القطعة الأثرية الأولى والتي تنبهنا إلى كونها مصدر الخلود إن لامسها الرواد. ولكنها تصر على «عذرية» التمثال الذي لم تخدشه إلا نظرات زوار المتحف، محوّلة التماثيل الرخامية إلى نساء تخاف خدش أجسادها.

عبر صوت المرشدة، يطرح الفيلم قضايا سياسية واجتماعية أخفيت داخل الرخام الذي لا نرى إلا تفاصيله الدقيقة لمدة سبعة عشر دقيقة. فتنبهنا، لأننا كمشاهدين لا نستطيع أن نرى أبعد من الحجر، إلى الخمس عشرة امرأة اللاتي يمشين وراءها في المتحف، حيث يحاولن جميعهن فك رموز جملة واحدة باللغة الفينيقية كانت قد نُحتت في جسد إحدى التماثيل. فلنتخيل صورة ست عشرة امرأة يحاولن فهم التاريخ الذي وجدن أنفسهن فيه من خلال جملة واحدة. ولكن الصوت يطمئننا، أنه رغم عدم قدرتنا والنساء على فهم تلك الجملة، إلا أن الشخص إن وقف أمام جملة ما بلغة لا يفهمها لفترة طويلة، فلا بد من أن يُبَث المعنى إليه.

يأخذ الفيلم منحى سياسيًا قليلًا، عندما يصف لنا صوت المرشدة ثقبًا في تمثال الراعي الصالح سببته طلقة في جسده أثناء الحرب الأهلية في لبنان، حيث يتفرع حديثها من تلك النقطة نحو الإجراءات التي اتخذها المتحف، الجهة التي تمثلها المرشدة، من أجل حماية الآثار، مثل إخفاء القطع في قوالب من الأسمنت المسلح وإخفاء القطع الصغيرة في الأكياس إلى أن أعيد نبش هذه القطع عند نهاية الحرب. تشجع الدليل الزوار على لمس القطع الأثرية. تشعرنا هذه الدعوة بالالتصاق الروحي بين الأحجار التي نرى تفاصيلها والزوار، أي نحن، الذين نتوق إلى لمس الحياة في الجماد. تصف لنا المرشدة تفاصيل زهرة اللوتس وتدعونا إلى الاقتراب منها واستنشاق رحيقها لأنه يبعث لنا روح البحر.

تصف المرشدة بقعة حمراء في تمثال للراعي على أنه كدمة؛ مما يعني، على حد روايتها، أن «هذه الكدمة الحمراء في ركبة الولد تبين أن الدم لا يزال قريبًا من الجلد، من الرخام، من الحجر». تبعث أنسنة الحجر هذه شعورًا غريبًا فينا؛ كأن عصارة الحياة ستتفجر من الحجر إن ضغطنا بقوة عليه، بدلًا من التصدع أو الكسر. ففي تحويل الحجر إلى حياة عضوية كاملة، يكمن الانطباع الأعمق والأجمل في الفيلم. فقبل مشاهدة الفيلم كنت قد قضيت فترة أتجول في متحف فني، بين التماثيل التي وقفت لفترات طويلة أدرس أجسادها وتعابير وجوهها التي تتجهم تارة وتنبسط تارة أخرى، شاعرةً أنه لا بد أن حياة زخمة تقبع وراء هذه الأحجار. لكنني لم أستطع التعبير عن هذا الشعور الغريب؛ عن التيقن من وجود الحياة في الجماد، إلى أن شاهدت الفيلم الذي وصف هذه الجزئية بشاعرية نادرة.

في حديثها بعد عرض الفيلم في مهرجان CPH:DOX للأفلام الوثائقية في كوبنهاجن الشهر الماضي، وصفت المخرجة تجربتها في تصوير الفيلم. فالأسلوب الذي ألهم الثيمة الرئيسية فيه كان، بتعبيرها، أنه «عندما بدأت بتكبير الصورة [زوم] أكثر وأكثر، لحظت أن أمرًا جميلًا كان يحدث، فالضجة البصرية (noise) كانت قد أكلت التماثيل بأكملها، فشعرت أنني مسحورةمُنوّمة». كونت هذه المواجهة بين عويضة والحجر الذي ترك أثرًا لحياته في كاميرا والدها روح الفيلم التي تنساب بعفوية ومن غير تكلف. تقدم لنا عويضة بذلك زاوية خصبة جديدة لرؤية المنحوتات بشكل خاص والجمادات بشكل عام، والتي هي نتاج وحينا وجهدنا الجسدي. «نحو الشمس» إذن هو قصيدة لمحاولات خلقنا وإعادة تشكيل أجسادنا ومشاعرنا الإنسانية بكافة أطيافها.

تعلق المخرجة بأنها تعمدت عدم البحث في تاريخ المتحف وتفاصيله الأخرى حتى تكون مواجهتها مع مكوناته عفوية وتلقائية. فكان نتاج ذلك هذا الفيلم الذي يدفعنا نحن للتساؤل عن وجودنا نحن المعلق بين الحجر والجسد الآدمي. نتعرف فجأة، في جلوسنا في صالة العرض، على السحر الذي يكمن في أجسادنا التي تُجرح وتُحرق وتقشعر وتطرى وتتجعد وتُكدم وتتقد بألوان الأحمر والأزرق؛ ليصبح الجسد، وخلوده في هيئة التماثيل، أجمل قطعة فنية في أيما متحف.

* خلل فني ويقصد به هنا خلل في الصورة الإلكترونية على الشاشة.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية