القرن العشرين في عشرة مؤلفات موسيقية

الإثنين 13 حزيران 2016

لماذا القرن العشرين؟ ليس لأن موسيقاه تبقى الأكثر تنوعًا وصعوبةً فحسب، بل لأنه الامتداد الطبيعي لحاضرنا، وزمن الأفكار الكبيرة والمطلقة التي نعيش تبعاتها اليوم.

إن كانت الأعمال التالية تمثل أهم التيارات الموسيقيّة في القرن العشرين، فهي لا تكفي مفتاحًا أو وصفةً مختصرة للقرن العشرين، ولا تلخص مؤلفيها أو تقبل التلخيص في فقرة تقديمية بسيطة تغني عن الجهد والاستماع المتكرر. كما يبدو من الظلم تجاوز مؤلفين مثل شتراوس وديبوسي وغيرهما ممن تركوا بصمة لا تقل أهمية عن المذكورين، ولذلك فالقائمة الناقصة التالية ليست إلّا طرف الخيط الذي لا نزال نبحث عن نهايته.

أولًا: سوناتا رقم 5 لسكريابين، 1907

تشكل أعمال المؤلف الروسي الأخيرة تحديًا حقيقيًا للمؤدي وللمستمع، أولًا بسبب غموضها وضبابيتها وارتباطها بالمعتقدات الثيو-صوفية التي آمن بها المؤلف، وثانيًا بسبب التفافها حول قواعد الموسيقى المقاميّة التقليدية والمألوفة. وهي بذلك تمتلك حضورًا مزدوجًا يجمع رومانسية القرن التاسع عشر وحداثة العشرين، إضافةً إلى حضور ثالث ما ورائي من خارج هذا العالم.

تبدأ السوناتا الخامسة برفع معايير البيانو التقنية وتوسيع مفرداته الصوتية، كما يفتتحها سكريابين بأبيات حول «القوى الغامضة في ظلمات الروح»، ويدشن بذلك إحساسًا غامرًا بالاشتعال البطيء وباقتراب نهاية العالم كما عرفه جيل المؤلف، وتطلعًا نحو زمن جديد أو نوع من الخلاص الروحي، الشيء الذي يبلغ ذروته في أعماله الأخيرة.

ثانيًا: دافنيس وكلويه لرافيل، 1912

تمتلك موسيقى رافيل الانطباعية الرحابة الكافية لاستيعاب بقايا الرومانسية وموسيقى القرنين السابع عشر والثامن عشر معًا، إضافةً إلى التأثيرات الشعبية الأوروبية والآسيوية والجاز، والتي تنصهر معًا في خطاب متجانس يميّز رافيل وحده.

أما مقطوعة «دافنيس»، فتشكل تحفة في مجال اللعب على المساحة الصوتية واستغلال الرنين الطبيعي لآلات الأوركسترا، ففي مقطع مثل «بزوغ النهار»، تأتي عشرات الأصوات من كل الجهات لتحاكي صوت العصافير والجداول في الغابة الأسطورية حيث تدور أحداث الباليه، بينما يأخذ لحن طويل بالصعود والانتكاس حتى يحقق نهايته المشمسة. يعكس العمل خيال رافيل وحساسيته غير المسبوقة تجاه اللون، وقدرته السحرية على الرسم بالصوت.

ثالثًا: بييرو الممسوس لشوينبيرج 1912

ينتمي عمل شوينبيرج هذا إلى الجانب المظلم للموسيقى الكلاسيكية، ويشكل من ضمن هذه القائمة التحدي الأصعب للمستمع العربي في تقبله للامألوف. حيث يرتبط بالحركة التعبيرية الألمانية، وبمدرسة فيينا الثانية التي فكك فيها شوينبيرج النظام المقامي التقليدي، ووضع حجر الأساس لنظام جديد سيحكم أوروبا لعقود.

قد تبدو موسيقى شونبيرج اللامقامية، أي التي تتجنب الارتكاز على مقام واضح، ضجيجًا عشوائيًا، لكنها في الحقيقة منظمة وفق بنى عددية وقوالب صارمة. أما فكرة العمل، فتقوم على مجموعة قصائد رمزية تؤديها المغنية بأسلوب يمزج الغناء بالكلام، وتتحدث عن «بييرو»، الذي يهلوس مخاطبًا القمر ومتخيلًا غرفًا غريبة وأشخاصًا غير موجودين. والنتيجة هي مجموعة مشاهد شبحية تتراوح بين الهلع الجنوني والحنين إلى ماض مفقود: بييرو الذي «يدهن وجهه بضوء القمر بدل المساحيق» أو «يرثي قمرًا مريضًا من الشهوة يقطر دمًا أبيض» يتحول من شخصية في حكايا الأطفال إلى رمز يحتفي بعزلة الإنسان الحديث في أكثر أشكاله اضطرابًا وهذيانًا.

رابعًا: طقوس الربيع لسترافينسكي، 1913

أهمية «الطقوس» في تغيير تاريخ الموسيقى تتجاوز أي وصف، فهي تشكل ظاهرة مذهلة تستمر بالكشف عن طبقات ووجوه جديدة تتحدى المؤدين والباحثين، وتقدم رؤية ثورية حول قدسية الأرض ووحدة الإنسان بها.

يتخيل الباليه طقوسًا وثنية تؤديها قبيلة روسية بدائية، وتقضي باختيار أضحية عذراء لترقص حتى الموت من أجل أن يأتي الربيع. يفسر ذلك جزئيًا الفضيحة التي أثارها العرض الأول بين الجمهور الباريسي، والذي صعق بربيع عنيف يتفجر بالألوان والتنافرات الصوتية تمامًا مثل ربيع الحداثة الذي كان قد بدأ لتوه.

الموسيقى القائمة بشكل أساسي على خلايا صغيرة من ألحان بدائية وشعبية سلافية تنمو إلى عالم صوتي واسع من التشابكات اللحنية والإيقاعية، وتستحضر الربيع بكل أبعاده البصرية والنفسية من اللحن الأول وحتى الرقصة الختامية التي تخطف الأنفاس.

خامسًا: خلق العالم لميلو، 1923

شكلت العشرينيات أو «السنوات المجنونة» في فرنسا العصر الذهبي للجاز، الذي بدأ بالتسرب خارج أميركا وبالتأثير على مؤلفين مثل ميلو، والذي امتاز كذلك بشغفه بالموسيقى البرازيلية والفرنسية المتوسطية.

يروي الباليه قصة خلق مستوحاة من مجموعة أساطير إفريقية، فبعد افتتاحية مظلمة، يظهر فوغ** من الجاز يمثل الفوضى السابقة للأمر الإلهي، وبعد خلق النبات والحيوان والإنسان، ينتهي الباليه بأول قبلة على الأرض ترافقها رفرفة ناعمة ومرحة من الفلوت.يستخدم العمل مجموعة مقتصدة من الآلات،

وينجح بتوظيف تعدد المقامات إلى جانب الجاز في رسم صورة تكعيبية ملوّنة عن العالم، ويعكس بذلك التفاعل المستمر بين الجاز والموسيقى الكلاسيكية، والنظرة المتفائلة نحو المستقبل التي سادت ما بين الحربين.

سادسًا: تأين لفاريز، 1931

لم يبدأ العالم بتقدير فاريز إلا متأخرًا، فقد كان المؤلف، صاحب الشخصية الصعبة، يكره الريف والطبيعة ويرى الجمال في الآلات والمدن الكبيرة، ولذلك تعكس موسيقاه البيئة الحضرية لعواصم مثل باريس ونيويورك، وتتنبأ بالأصوات الإلكترونية قبل سنوات من اختراعها. كما يسعى فاريز إلى التعامل مع المادة الصوتية ككتلة قابلة للتشكيل، ومع مفهوم المستقبل كغاية جمالية وروحية يتطلع إليها الفنان.

تعتبر «تأين» المكتوبة لآلات إيقاعية و«صفارات إنذار»، من أهم القطع القليلة التي تركها المؤلف الفرنسي الأميركي. عنوانها، الذي يشير إلى ظاهرة علمية ذرية، يعكس تجريد القطعة من أي مرجع إنساني، ثم وبعد مقدمة فوضوية، تدخل القطعة في نبض منتظم يتفجر، بين آن وآخر، بنوبات صوتية عالية أو يتداعى إلى الفوضى مجددًا. يحافظ فاريزعلى التوازن بين الجمل المنتظمة و«الفوضوية» بعلاقات زمنية دقيقة تضمن استمرار الحركة دون أن تبدو منتظمة تمامًا. كل ذلك يجعل من «تأين» آلة ميكانيكية ضخمة تقدم لمحة عن كيف سيبدو صوت المستقبل.

سابعًا: كونشيرتو للأوركسترا لبارتوك، 1943

انعكست مساهمة بارتوك التاريخية في توثيق الموسيقى الشعبية لأوروبا الشرقية على لغته الموسيقية، وعلى أعماله مثل هذا الكونشيرتو. يأتي العمل من المرحلة المتأخرة للمؤلف الهنجاري، والتي عمل خلالها بالأسلوب النيوكلاسيكي المتشبّث بالمقامات التقليدية والإرث المحلي، وإن كان يعيد تأويلهما بطريقة جديدة، مقدمًا بذلك تيارًا مضادًا للامقامية فيينا.

ينجح الكونشيرتو بالرغم من التزامه بالبنى التقليدية في خلق مساحات من التأمل الفردي، خصوصًا في الحركة الثالثة، بينما تشبه الحركة الخامسة حفلًا فولكلوريًا كبيرًا يجمع الخفة والبطولية معًا، فيحدث أن يبزغ من بين تياراتها السريعة لحن مجري شعبي، أو لحظة تأمل، أو رقصة فلاحية تتصاعد نحو تصريح ختامي منتصر. كل ذلك يجعل من كونشيرتو الأوركسترا تجربة مليئة بالألوان ومونولوج مثير للإعجاب بين القومية والحداثة، وبين الفرد وهويته الجمعية.

ثامنًا: مشهد متخيل رقم 4 لجون كيدج، 1951

عكس كيدج ردة فعل الفنانين الغربيين على الحرب، ورغبتهم بقطع العلاقة مع ماضيهم والعودة إلى الصفر. حيث تتراوح تجاربه من العزف على النباتات وأحواض الاستحمام إلى الموسيقى الهندية والبيانو المحضّر، أي الذي يتم تحويله إلى علبة كبيرة من الأصوات المتنوعة بإدخال أشياء مختلفة بين أوتاره.

انعكس إيمان كيدج باللاسلطوية على تطويره لموسيقى الصدفة، التي تستخدم آليات شبه عشوائية في التأليف والأداء كالتنبؤ أو التنويط بأشكال هندسية يفسرها كل مؤد على طريقته. في هذه الحالة، يستخدم كيدج راديوهات تعمل بشكل أساسي على الصدفة، مما يعني أن كل تقديم للقطعة سيكون مختلفًا وسيولد ظواهر لا يمكن أن تحدث إلا مرة واحدة.

بينما ترك جزء من تجارب كيدج نتائج جمالية، هدف الجزء الآخر إلى المغامرة وطرح الأسئلة، حيث تكمن أهمية كيدج في سعة الأفق التي منحها للموسيقى عبر أفكاره ونظرياته حول الصمت والصوت ومعنى الفن وعلاقته بالفنان وبالمجتمع وبالسلطة.

تاسعًا: سينفونيا للوتشيانو بيريو، 1968

يأتي عمل المؤلف الإيطالي من جملة التغييرات الاجتماعية والتاريخية لعام 1968، فبالرغم من باقي حركاته المكتوبة بأسلوب لامقامي سلس وفائق العناية، يعتبر بعض الباحثين الحركة الثالثة كبداية رمزية لما بعد-الحداثة في الموسيقى.

الحركة المذكورة هي «كولاج» كبير ركبه بيريو من عشرات الأعمال لمؤلفين آخرين. عملية القص والتلصيق لا تراعي منطقًا زمنيًا أو تجانسًا من أي نوع، على الأقل ظاهريًا، كذلك النص المقروء، والذي يبدو في لحظة جديًا ليعود إلى العبث في اللحظة القادمة. هذا النوع من السخرية والزمن اللاخطي والتناقضات في أسلوب السينفونيا ستصبح جميعها من ميزات التأليف والفن عامةً حتى اليوم.

تطرح السينفونيا مشكلة المعنى والنص بشكل عام، وبينما تشكل تلميحات الحركة الثالثة إلى الماضي جزءًا من أهميتها، إلا أنها تبقى مغامرة فريدة حتى للمستمع العادي الذي يجهل مرجعياتها، والذي سيتلقاها كحلم سريالي غريب. فالغموض الذي يخلقه التأرجح المستمر بين المعنى واللامعنى، واللعب على العلاقة مع النص وفقدان الإحساس بالزمان والمكان قد تكون التعبير الأنجح عن حقيقة عصرنا.

عاشرًا: موسيقى لـ18 موسيقي لستيف رايك، 1976

جاءت الحركة المينيمالية في نيويورك كردة فعل على تعقيد الموسيقى بعد الحرب، وقامت على استخدام أقل قدر ممكن من المواد الموسيقية لخلق قطع مطولة. وبالفعل، تبدو قطعة رايك التي تعتبر من معالم المينيمالية الأولى، والتي تدوم قرابة الساعة، وكأنها مقدمة طويلة للحن لا يأتي أبدًا، لكنها في الحقيقة مقسمة إلى أجزاء مبنية على أفكار لحنية منمنمة تتطور ببطء شديد، وتذكر بالجاز والروك.

تعتمد القطعة في تركيبها وآلية أدائها على مبدأ الفرق الإندونيسية أكثر من الكلاسيكية الغربية، وتكمن الخدعة في تذوقها، بعكس غالبية أعمال القرن، في عدم التركيز وبذل الجهد، بل الاستسلام لحالة شبه طقسية من التأمل الطويل. فنزعة المينيمالية نحو التبسيط والصفاء تبدو كالتجلي الأخير لروح القرن العشرين التجريبية، ونهاية رحلته الطويلة والمتعبة بعد أن ألقى بعبء أسئلته على أبناء القرن الجديد.

**فوغ: أسلوب كتابة صارم يقوم على مجموعة ألحان متداخلة ومتزامنة.

صول هي زاوية شهرية تتناول قضايا موسيقية كلاسيكية وحديثة.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية