لماذا أقرأ القصص القصيرة لمازن معروف؟

الأربعاء 09 آب 2017

يكفي أن تقرأ له قصّة واحدة، لتتمكن مستقبلًا من التعرّف على نصوصه من دون أي حاجة لقراءة اسم المؤلف. هكذا أشعر تجاه أعمال القاص الفلسطيني مازن معروف. قرأتُ له سابقًا مجموعة «نكات للمسلحين»، والتي فازت نهاية العام الفائت بجائزة الملتقى للقصة القصيرة، وخلال الأيّام الماضية قرأت عمله الجديد الصادر مطلع هذا العام وعنوانه «الجرذان التي لحست أذني بطل الكاراتيه».

أن تميّز كتابة فلان من الناس من دون الحاجة لقراءة اسمه على الغلاف، أظن أن هذا ما يحلم به كثير من الكتّاب، لأن هذا يعني أن صاحب النص بات يمتلك أسلوبًا خاصًا به. وأظن أن معروف وصل لهذه المرحلة من الكتابة؛ أن يكون له أسلوب خاصٌ به. قلّة من الكتّاب من يمكن لهم أن يفعلوا هذا. شخصيًا، حصل هذا معي عندما قرأتُ من قبل لكافكا، ولإدغار آلان بو، هنالك شيء ما في أعمال الأخيرين يلتصق بروحك، يغشاك تمامًا، فلا تعود قادرًا إلّا على تمييز أعمالهما مستقبلًا. وفي السطور التالية سأتحدث عن السمات العامّة التي يمكن عبرها تمييز قصص معروف.

اللغة الغريبة المقتضبة

علاقة معروف باللغة لطيفة للغاية، فالرجل، وخلافًا للكثير من الكتاب الشباب، يكتب براحة كبيرة، ربما زائدة عن الحد في نظر البعض، يكتب وكأنه يتحدث معك على مقهى، فلا تعنّت في اللغة، ولا تقعّر في استعمال الألفاظ، اللفظ الأقرب إلى الذهن والذاكرة هو بالضبط ما يستعمله، ولو عنى هذا تنحية الفصحى لصالح العامية، ولو عنى كذلك اللجوء للدارجة عوضًا عن اللجوء للمعجم. ومع التقدّم في القراءة سيصبح من الطبيعي جدًا أن تقرأ مصطلحات مثل الميكانسيان والكومودينة والدرسوار وتتمنيك ونبريج. ولأنني أعتقد أن علينا تحرير اللغة من بؤسها فإنني في معظم الوقت أحببت هذا الاستعمال من معروف للغة.

أن تميّز كتابة فلان من الناس من دون الحاجة لقراءة اسمه على الغلاف، أظن أن هذا ما يحلم به كثير من الكتّاب.

لكن في الوقت الذي لا يتوانى فيه معروف عن استعمال لغة مفرطة في محلّيتها اللبنانية، نراه يلجأ لاستعمال الفصحى في الحوارات بين شخصيات قصصه، وفي كثير من الأحيان، عند قراءة هذه الحوارات تشعر أن النص مترجم ولذا نقرأ الحوار بالفصحى. فضلًا عن مشكلة تحدّث الشخصيات خلال الحوارات بلغة تفوق المستوى المتوقع منها، وهو الأمر الذي حيّرني خلال القراءة، إذ ما المشكلة في استعمال العامية في الحوارات خاصة ونحن نقرأ الكثير من الكلمات العامية أو الدارجة خلال السرد! نقرأ في القصة الرئيسة في مجموعة «نكات للمسلحين» حوارًا بين شاب ووالده، فيقول الشاب: «لقد كان يومًا مشؤومًا بالفعل، حتى أنني مدين لك باعتذار»، ويقول مسلّح لطفل صغير: «اسمع أيها الطفل، سأعتبر هذا إخلالًا بالاتفاق، قل هذا لوالدك».

الملاحظة الأخرى على كتابة معروف، وهي أنه قادر دومًا، وبسهولة يحسد عليها، على استعمال جمل قصيرة، جدًا في بعض الأحيان. فترى جملة تتألف من كلمة واحدة فقط، وبالطبع تؤدي الغرض.

شخصيات من القاع

ميزة أخرى في عملي معروف القصصيين هي أنهما عملان آتيان من عالم القاع، من أكثر عوالم المدينة اقترابًا من الحضيض. الشعور الذي تولّد لدي خلال القراءة هو أنه لا أثر للأغنياء في قصص معروف. وبالمقابل هناك اكتساح للفقراء، لمن تطحنهم المدينة العربية كل يوم. للبؤساء المتجهمين في الشوارع، ضحايا الحرب الطائفية ووقودها.

في عالم معروف القصصي يأتي الأبطال من هامش الهامش، أطفال فقراء ذوو إعاقة، رجال ميليشيات طائفية يقتلون بعضهم البعض، وغيرهم، على خطوط التماس من دون أن يملكوا شيئًا من أمرهم.

وإن لم يكن أبطال القصص على هذه الشاكلة فإنهم في كثير من الأحيان يكونون أطفالًا. أطفالٌ يمنحهم معروف الحق بالكلام وسط عالم يحبّ أن يسكتهم بـ«هس» و«إخرس».

الحرب الأهلية، الزمان الأكثر حضورًا

إضافة إلى السمات المذكورة أعلاه، من الممكن القول أن معروف قد اختار أن يكون لبنان هو مكان حصول القصص، أمّا الزمن فهي الفترة الممتدة من بداية الحرب الأهلية اللبنانية وحتى ما بعد نهايتها بفترة ما. لا تنطبق هذه الملاحظة على كل القصص، ولكنني أعتقد أنها تنطبق على معظمها. فخلال القراءة لا يمكن للقارئ إلّا أن يشعر بأن روح الحرب الأهلية تطارد القارئ والكاتب والشخصيات. فترى حواجز في كل ناصية، وتتفادى رصاصات طائشة وتفجيرات عبثية بين القصة والأخرى. وهنا جسر اكتسب سمعته السيئة خلال الحرب، وهناك طفل يتفق مع رجال ميليشيات على حماية والده مقابل تحويشة العمر.

ومع أنني لم أعلق على السمات الأخرى التي تميّز أعمال معروف، إلّا أنني أجدني مجبرًا على محبّة هذه العودة للتاريخ التي يقوم بها معروف. إذ أن هنالك اتجاهًا عامّا وشبه سائد في لبنان، وفي العالم العربي إجمالًا، لتجاوز الماضي من دون التعامل معه، للقفز عن الماضي وعثراته. لرفض التعلّم من الماضي الدموي، فضلًا عن التعامل معه، ولذا يظل المجتمع هشًّا، قابلًا في أي لحظة، للانفجار. فتكون قشّة بحجم مجموعة من الأطفال يهتفون الشعب يريد إسقاط النظام كافية لإشعار حرب أهلية.

قرأتُ عمليْ معروف، بعض القصص أكثر من مرّة، واستمتعت جدًا ببعضها، ولم أفهم الفكرة من بعضها الآخر. هل أنصح بها؟ لا أعرف. لكنني أعرف جيدًا أنني سأقرأ عمله القادم بمجرّد صدوره، رغم أنني أعرف تقريبًا الثيمات التي سأقرأها، وأعرف عمر من سأقرأ القصص على ألسنتهم.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية