زياد العناني: مخلب لجرح السائد في القصيدة

الخميس 30 تشرين الثاني 2017

منذ تسعينيّات القرن الماضي، حين كان معظم شعراء جيله يغطُّون في السائد، خرج الشاعر الأردني زياد العناني من جهة الكهوف، حاملًا معاوله ضدَّ الصوت التطريبيّ والغنائيّة الباهتة في القصيدة، ليقترح مخلباً ليجرح به كل ما هو سائدٌ مقدّس.

بين الأعوام 2000 و 2009 أصدر العناني عدة مجموعات شعريّة1، واحتُفي به كأبرز شعراء قصيدة النثر في الأردن والوطن العربيّ، ومُنعت له أكثر من مجموعة خلال هذه السنوات. ثم في 2011 أصيب بجلطة دماغيّة فقدَ على إثرها النطق والحركة، وكان في دُرجهِ قصائد كثيرة، جمعها الأصدقاء، وصدرت مؤخرًا مختارات منها في مجموعة شعريّة بعنوان «جهة لا بأس بعريها»، فيما بقيت قصائد أخرى تنتظر النشر.

اقتراح أصولٍ بديلة

من أيّ مدخل تُريد الدخول لشعر زياد العنانيّ، تجدْ بابًا، سواءً من أعقد دراسات شكل القصيدة القصيرة وحتى مشارف عتبات فرويد. حتّى أولئك الباحثون عن مواقف سياسيّة وجدوا في شعره مدخلًا للشعارات أو الأيديولوجيا رغم عدم وجود «موضوعات إيديولوجيّة ولا مضامين أخلاقيّة مبرمجة لأهداف معينة ولا قصديّة منبريّة»2 في شعره.

خلال الأحاديث الطويلة لكتابة هذه المادة، كانت الحكايات التي لا حصر لها تسردُ عن العناني الشاعر أكثر من قصيدته نفسها. هنا ثمة إشارة إلى فكرة راسخة لدى الكثير ممن كتب عن العناني عبّر عنها القاص يوسف ضمرة في مقال له مفادها: لا تكتمل قصيدة زياد من دون معرفته شخصيًا والاستماع إليه. هذه حالة ربما نادرة.

«خزانة الأسف»

أوّل أعماله التي يعترف بها3. صدر عن المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر سنة 2000. يُمكن عدّ هذا العمل بحثًا شعريًّا في أصول ومآلات الموجودات؛ منذ الإنسان الذي لم يكن فكرةً في رأس الإله، بل مذْ كان قبل الفكرة؛ أيّ أبخرة: «كُنَّا/ في العقل الأوَّلِ/ أبخرة/ ثم خرجنا/ من بين فتوقِ الطينِ الطيّعِ/ كي/ نخلطَ أجزاء عناصرنا/ونكرر/ بهلول الحيوات»4. وحتّى سيناريوهات الإنسان في المستقبل، حيث ينظر العناني في تجربة استنساخ النعجة (دوللي) ويسقط الفكرة على الإنسان المحسّن (السايبورغ5) ساخرًا من الطريقة الجديدة التي سيولد فيها الإنسان/ الكائن من غير اتصالٍ جنسيّ ولا المرور بالثقوب: «نعجة دوللي، بنت الكثرة/ من دون حراك الأجسام الرخوة/ من دون ثقوب». وفي أصول الأشياء: «الربابة/ كانت شعرة حزنٍ/ في ذيل حصانٍ/مربوطٍ/ خلف المحراث»6.

إذا كان نيتشة قال بفكرة موت الإله في أذهان الناس داخل أوروبا بعد العصور الوسطى، فإنَّ العناني يقول بفكرة شيخوخة الأفكار عن الإله في الشرق. من هذا العمل بدأت مقاطع شعريّة تتناول هرم السماء السابعة وستتكرر لاحقًا في أعمال لاحقة: «سأغيب هناكَ/ وأشاهد قرفصتي فوق السابعة الهرمة/ لا ينقصني إلّا دالي (..) فاللوحة يخنقها الرسّامون»7.

هناك ثلاث سمات أساسيّة في شعر العناني؛ الأولى: ما من ديوان إلا وتناول فيه المقدس والسائد، بالسخرية حينًا والتجريح حينًا آخر. على مستوى شكل القصيدة، دُرس شعر زياد كمثال شعريّ صافٍ في قصيدة التوقيعة (يُعرِّف أوَّل مُنظّر لهذا النوع من القصائد، الشاعر عز الدين المناصرة، قصيدة التوقيعة بأنَّها «القصيدة القصيرة المكثفة، التي لا تخلو من الدهشة في الختام، هذا في الشكل، في المعنى، فإنّها القصيدة التي تعمل على انزياح في لغة البرهان العقليّ، مع محافظته على اللغة الشعريّة»). أما السمة الثالثة فهي أن قارئ قصيدة العناني لا يستطيع مسك أي أثر لشاعر آخر فيها.

«مرضى بطول البال»

صدر هذا الكتاب بدعم من وزارة الثقافة الأردنيّة عن المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر سنة 2002. وقصائده منشورة في المجلات والصحف العربية بين 1990-1999. يُكمل العناني في هذا العمل بعض قصائد مجموعته الأولى، مع تطوّر يقترح فيه أصولًا ومآلات جديدة للأصل الإنسانيّ: «لم يدخل/ الزنوج/ إلى العالم/ عن درب الطينة/ بل دخلوا/ عن درب الإيقاع»8. كما ونقرأ في نفس العمل: «أبكي/ أبكي/ والغامض مثلي/ يبكي/ سرّ النفخة/ سرّ الكائن/ انتقل الطين إلى مسألة التعدين»9.

في هذا العمل، تنشغل قصيدة العناني بتوصيف المعضلات من أصغرها: «على الأقلّ/ لدى/ الموتى مسرات/ لا حرّ/ لا قر/ ولا سطوة أوجاع مبرحة/ تدفعهم/ في الليل بلا عقل/ نحو أطباء الأسنان»10. وحتّى أعقدها؛ الخلق: «في الصورة/ كنت أقف/ على رجلين فقط/ وأفكر…/ يا رب لماذا/ لم تظهر صوري/ الأخرى/ مثل ذوات الأربع/ كاملة؟»11. ليس التوصيف وحده، إنما تقترح القصيدة مواجهات لهذه المعضلات.

«كمائن طويلة الأجل»

صدر هذا العمل عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، سنة 2002، بدعم من بيت الشعر الأردنيّ عن منشورات أمانة عمّان الكبرى. تتخذ طاقة التخييل عند زياد في هذه المجموعة أقصى ما يمكن لمخيلة أن تبتدعه. سيفكّر زياد بالخلاء، بما بعد الأرض، لا يأتي ذلك ضمن مخيّلة فضوليّة، إنمّا مخيّلة تعمل في ضوء الضروريّ؛ إذ شاخ الكوكب، وتساءل العناني: «لمن تدخّر تلك الكواكب الفارغة؟»12. هذه صورةُ متأملٍ في الأرض والسماء، تأمل في الأفكار والأسئلة، وليس لشاعر لم ينظر في السماء صُنع مثل هذه الصورة.

يحضرُ هنا قول بورخيس حول كلّ أولئكَ الذين يتحدثون عن صورٍ مصطنعة: «كلّما تصفحت كتبًا في علم الجمال، راودني إحساس مقلق بأنني إنما أقرأ أعمالًا لفلكيين لم ينظروا إلى النجوم قطّ»13.

إذا كانت هذه القصيدة تسأل عن مكان آخر، فإن قصائد أخرى تسأل عن زمن آخر، حيث: «في البدء/ ما كانت أرضٌ/ ما كان سوى الماء/ يتجول/ ضمن/ المجهول/ ويشكو عزلته/ للكون النائم»14. تبرز في هذه المجموعة صور الإنسان التي يفترضها العناني، لنتخيّل معاً: كائن من كحول، مذراة تحصد قمح الأرواح السيّارة.

يشير العناني في حوار أجراه معه الكاتب الراحل خليل قنديل، إلى حصيلة تاريخ الرعب الذي رافق الإنسان منذ البدايات. لذا فإن القصيدة التي تُكتب الآن هي قصيدة مجموع الطاقات التي طورّها الإنسان بهدف التحرر من أدوات المنع ومن المكبوتات والاستنطاقات اللغوية التي تفتقر إلى المعنى.

«تسمية الدموع»

صدرت هذه المجموعة عن المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر، سنة 2004، وبدعم من أمانة عمّان الكبرى وبيت الشعر الأردنيّ. تظهر نسبيًّا في هذا الديوان قصيدة التوقيعة، ويقول العناني فيه أكثر قصائدهِ تكثيفاً واختزالاً بالإضافة إلى بروز اشتباكه مع المكرّسات؛ الدين: «نامي/ نامي/ لن أصغي إلى أحدٍ/ فأسي بيدي/ والمعبد يرتجف»15، والحرب: «لا حرب في حديقة/ الحيوان»16، والدولة: «جعنا…/جاعوا/فيما الدولة معرض أسلحة وحديد»17.

إن مثلث الرعب الذي عاينه العناني في أذهان البشر يدور حول: الدين، الدول، الحروب. كانت المفردات في قصيدته تتغيّر أحيانًا (بدل الدولة الكرسيّ) (بدل السماء المعبد). كتبَ العناني قصيدة سياسيّة بعيدًا عن الخطابيّة والشعارات، وربّما ظهر ذلك جليًّا في آخر عمل له؛ إذ لم يسلم كل من عمل في السياسية من يمين ويسار، متدينون وليبراليون من مخلبه الشعريّ.

«شمس قليلة»

صدر عن المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر، سنة 2006. إذا كانت سمات بعض دواوين العناني تحمل فكرة أصول ومآلات الموجودات، واقتراح أصول جديدة لها، فهذا الديوان يتحرّك في الجهات، ولا سيّما جهة الشرق حيث: «يبدأ الحوار/ هكذا:/ الآخر حين يموت/ الآخر كيف يموت؟!/ ماذا تُريد يا أبي؟/ هذا العالم/ شذّبنا بالذنبِ/ فصرنا من دون حوافٍ/ وذقون»18. شرقٌ يقول عنه العناني: «الحياة التي صغتها سليمةً على الدرب/عادت إلى الغابة/ البلاد التي حلمت بها / مزقها الغُزاة/ كل ما قلت وكل ما أرسلت لنا/ عبر الوسائط والضلوع/ مجرد هذيان/ مزقّه المحلل والمحرّم/ ثم وزعنا/ شهداء/ ومساكين/ على جبهة الأرض المغبّرة»19. يصف زياد شكل الضحك في الشرق: «أحمدُ… ربي/ لأول مرة/ أضحك/ من دون أن يوجعني/ فمي»20.

«زهو الفاعل»

صدر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، سنة 2009. تنتقل في هذا العمل تأملات زياد إلى ما يدور حوله: الحرب، الدولة، الكرسيّ، رجل الأمن. مع بقاء بعض قصائد العمل تدور في أجواء أعماله الأولى، لكن بتغييرٍ حمل رغبةً ما بالعودة إلى هذه الأصول، حيث لا يُريد الكائن مثقال حفنة من الجنة أو النار لا نصائح يُريدها ولا شهوات، إنّما: «أريد أن أعود ذرةً في جهلي الأوّل/ بين الرمال/ وتلك إهانة/ لا أدري لمن؟»21.

كما نعثر على قصائد مهداة أو تتناول شعراء وكتّابًا أردنيين وعرباً. نقرأ عن خيري منصور الذي يطالبه العناني: «قل كل شيء/ عنك وعني وعن زقطان وعن محمود/ في طين جداريته»22. وقصيدة إلى سركون بولص، حيث «في النعي لا يبدو الموت كاملًا»23، ورجل يدعى ولّعت، شوقي بزيع، شربل داغر الإيطاليّ، وعمه عبدالله، وإلى شاعر ما، وعبد العزيز الأول، أرسطو، وفوكوياما وناعور.

يُمكن ملاحظة أي قصيدة كان العناني يسعى لها؛ باختصار إن القصيدة هي التي تخرج من شاعرٍ ليس لديه إجابات حول الموجودات: «لا أستطيع أن أجزم بأي شيء/ كلّما حدقتُ بثابتٍ/ تحرّك ومشى»24. الموجودات ساكنة حين لا يتناولها الشاعر، متحركة حين ينظر لها؛ بعبارة أخرى: كل موجودٍ ساكن. وحين ينظر الشاعر إليه يتحرّك.

زياد العناني يخمش كل راكدٍ

بعد ديوان زهو الفاعل، وفي صبيحة يوم 28 آب 2011، أصيب زياد العناني بجلطة دماغيّة، وكان آخر ما نشره على الفيسبوك قصيدة، جاء فيها: «البيت مازال هو البيت/ والدرب ما زال هو الدرب/ ربما لم أره وهو يتغير بعد نومك/ ولكن/ لا عليك/ إن ضاعت منك أو ضاع عنك/ سيدلّك الحزن/ وتقودك/ يد البكاء الى جنتي».

بعد هذه الإصدارات لم يكن العناني قد خرج عن السائد فقط، بل وتأكّد كأفضل من قطعت قصيدته الصلات مع قصائد الآباء. وتأكّد أيضًا عند «شعراء الألفيّة الثالثة». حول هذا الموضوع يقول الشاعر والكاتب خلدون عبد اللطيف لحبر: «ليس من الصّعب ترصّد أثر زياد الشعريّ على الجيل الجديد من شعراء قصيدة النثر، في الأردن تحديدًا، منذ «خزانة الأسف» وما تلاها من مجموعات شعرية شكّلت حالة متفرّدة وفارقة من حالات الكتابة الشعرية في ضوء قِصر عمر قصيدة النثر نسبيًا في الأردن».

وعن سرّ تأكّد العناني لدى هؤلاء الشعراء، يستطرد عبداللطيف: «أسلوب العناني في الكتابة الشعرية ينطوي على إغواءات كثيرة، من ضمنها التّمرد ونبرة التّصعيد والتّوتّر الواعي ضدّ كلّ ما يعادي إنسانية الإنسان، وهو ما نعثر عليه راسخاً في شخصية زياد نفسه، وإنسانيته المفرطة، وانحيازه للحقيقيّ فقط».

قبل إصابته بالجلطة، وحتّى يوم ولادته، يُمكن اختصاره بحياة من داخل السخريّة، والنقد وخمش كلّ راكدٍ، ما من أصل إلّا وطاله نقدُ وسخرية العناني: الأب، العائلة، البلاد، بهلوانات اللغة الذين كان يصفهم بـ«مرقّصي الحواجب». أما الانتماء الوحيد الذي ظلّ يحتفظ به فهو الأصدقاء.

«جهة لا بأس بعُريها»

آخر ديوان صدر للعناني، عن الأهلية للنشر والتوزيع، 2017، وهو قصائد مختارة من مجموع قصائد كتبها العناني قبل إصابته بالجلطة، أمّا القصائد التي كتبها كلّها فهي تقريبًا ضعف ما اختير في هذا الديوان الذي أشرف على نشره بعض أصدقائه.

قصائد الديوان هي: جهة لا بأس بعُريها، الرسام، أنوثة الفاكهة، الراقصة، الأوبرج، الشعراء، تلويحة الغرقى، موسوعة الألم، ما لا يُمكن فهمه، أرض المذنبين.

ولاختيار هذه القصائد حكاية؛ إذ جمع الشاعر محمد عريقات ما نشره العناني من قصائد في جريدة الغد ومواقع وصحف على مدى شهور، وفي 13 تموز 2010 بعث هذه القصائد إلى العناني، وقبل مضيّ شهر على هذه الرسالة أصيب العناني بالجلطة ولم يعد قادرًا على كتابة أو تحرير شيء منها.

يقول عريقات حول هذه القصائد: «قلت لزياد إن القصائد بحاجة إلى تحرير، وأشّرت له على بعض القصائد التي حوت بعض التكرارات في المواضيع. فوّض زياد بعض الأصدقاء للتعديل، غير أنَّ التعديل لم يتم».

يرى عريقات أن الديوان لم يكن بالضرورة أن يخرج بهذا الشكل، ويقترح إصدار أعمال كاملة للعناني بدلًا من ديوان واحد. غير أن للشاعر زهير أبو شايب، الذي أشرف على إصدار الديوان، رأيٌ آخر.

يقول أبو شايب: «إن مجموع القصائد يمكن نشرها في ديوانين لأنها مجموعة كبيرة»، لذا رأى أن يكون هناك ديوان، ثم يلحقه آخر بعد فترة قصيرة. وهو ليس مع الاهتمام بزياد كما لو أنَّه «شاعر رحل»، لنشر أعماله كاملة. «لا نُريد نشرًا بل قراءة لقصائد زياد»، يضيف أبو شايب.

هنا، نشير إلى ندرة بعض أعمال العناني، ومنها ما هو مفقود حتّى في مكتبات الأصدقاء المقربين منه؛ نقصد «في الماء دائماً وأرسم الصور»، الصادر عن أمانة عمّان 2002، بالإضافة إلى ديوان آخر يبدو أن زياد العناني أسقطه من مشروعه، «إرهاصات من ناعور»، 1988.

مع أنَّ غير عمل صدر للعناني عن وزارة الثقافة، إلا أن المنع طال أعمالًا له: خزانة الأسف، وزهو الفاعل، بينما لم يصدر له عن مشروع مكتبة الأسرة أي عمل (حسنًا فعلوا، هو ضد الأسرة)، أو حصل على التفرغ الإبداعيّ بعد الجلطة، يُمكن اختصار جهود وزارة الثقافة تجاه العناني بزيارة وزير الثقافة نبيه شقم، وتكريم العناني مؤخرًا في مُلتقى الأردن للشعر في دورته الأولى.

قصيدة لزياد العناني من ديوانه الأخير:

الأوبرج: كلما مشت الأحلام بغيره تصير بساق واحدة

(أو الأوبرج: حانة في عمّان القديمة)

1/

يأتون مع الخيبة

ويذهبون

محملين فوق أكتافها.

2/

في الأوبرج

المُعَلّق

مثل رأس دائخ منذ عمان القديمة

يجلس الندماء عن يمين السماء

وعن يسارها

والندُل يطوفون

بعرق الكروم

وحين تدور الرؤوس

يتناثر الهذر الحزين

كنا.. وكانوا..

وغشاء بعد غشاء

تتعدد الانكسارات مكونة

حياة دمرها الطغاة

وأخرى دمرتها امرأة

ثم تتوالى الحيوات التي تئنّ وتحنّ

إلى أن تسقط الدموع قبل أوانهـا.

***

أدر أيها النادل

من دون أن تعبأ بالحساب.

نريد أن ننسى البلاد والعباد.

نريد أن نثرثر على سبيل السكر من غير أن نخاف.

نريد أن نخرج من المتحف.

نريد أن نتذكر أجسادنا فيشتعل الجحيم دفعة واحدة.

نريد أن نخرج من يد الخلسة

من جنب الحيط إلى الشارع.

نريد صورة كاملة لنا ولكل العائلة.

نريد آباءنا الذين ذهبوا تحت التراب وليس فوقه.

نريد أمهاتنا على عتبات البيوت بلا مرض أو مقبرة.

***

أدر أيها النادل

فنحن سكارى

مسنا النقصُ

ومسنا الحيفُ

ونريد أن ننتقم من المدير

من الوزير

ومن زوجاتنا اللواتي

يضحكن من قبضة الموت ويفلتن من جهودنا القاتلة.

أدر بلا قلّة

هي دورة أو دورتان ونلمس في الفضاء

مدينةً طالحةً في غير هذي الأرض

الموحشِة.

***

أدر أيها النادل

بزوجة العنب

أدر لا عليك

بأخته القديمة والمعتقة.

يؤلمنا الصحو

وتؤلمنا العزلة

ويؤلمنا لصوص السياسة

وسماسرة البنوك والدول

وتؤلمنا أشباح النهار

حين تطل في عز الظهر

على هيئة تجار حرب ربحوا بها

وسيربحون بعدها.

3/

سكارى نحن

كأننا في قصيدة لم تقرأ بعد ولم تنشر.

كأننا ننسى.

كأن النسيان يشرب معنا

كي لا يجف

فخذنا بحدبك يا حليب السباع

خذنا

كي لا نجفّ مثل بلعوم ميت

غاية الناس أن يضحكوا وغايته الوحيدة في البكاء.

ها نحن هنا:

مبدعو أمجاد لا تُرى بالعين المجردة.

سيئو معشر تأخذنا شجاعة الكحول إلى شجار

لا يمكن الجزم بنهايته إلا في مخفر المدينة.

موظفو حكومة جاءت وحكومة ترجلت.

مستشارو حزن قديم يهزون رؤوسهم المرهقة.

صحافيو خبر باهت يعتقدون أنهم البلد.

شعراء بموهبة

وآخرون لم يعرفوا أين بابها.

وحدويو نزهة على ظهر دبابة.

ثوريو مرحلة

وعمال نظام مال بهم وفرغ صورتهم

ولم تبق سوى مؤخرة في الظل من إطارها.

جماليو لون يؤثثون الفن بامرأة في الخيال

كصورة متحركة.

ملتحو موضة وبرؤوس تميل نحو سفارة أو منحة معولمة.

سائقو شحن عادوا إلى الكحول بدلا من بيوتهم.

أبناء منظمات تقطعت بهم السبل.

أيتام أحزاب عادوا من الطريق إلى الطريق.

كتاب تقارير بالمياومة.

***

أدر أيها النادل

وأسند لنا هذي الجدران قبل أن تتأرجح أو تقع

وكلم الأرض لكي لا تدوخ على الأقل، فلم نزل في أول السهرة

ندس أكتافنا في فم الغياب لكي نهرب.

أدر كلما زاد الفقد

لا نريد الحزن

سكارى نحن بالجمع

بالكاد نرى أو نُرى

وبغير الماضي لا أحد يدل علينا

ولا أحد يعرف دربنا.

.. وأنت يا هذا الأوبرج

خذنا إليك وضمنا بأضلاعك المتوجعة

فنحن من كنا نحارب

وندفع بجنودنا

وفي جنباتك تولدت أفكارنا

ومنها كنا ندير العالم بسياسة مثلى

وجغرفة خدرة

لا يسقط فيها إلا من ثمل وضيّع الطريق إلى فمه.

نحن قادة الليل إن طار أم قصر

ولنا المجد بين تماثيل النهار

ولنا كبد طرية في كل حزن

وفي كل غناء.

ولنا جروح قديمة وأخرى جديدة

وأنت مكان لمن لا مكان له

وربما مشفى

وربما عيادة مختصة بالنفس

وربما كرسي للظهر المكسور

أو فكرة لبقاء محتمل لمن تقاعد

أو أراد أن يسير مترنحا

بمثانة ملأى برغوة الشعير.

***

أدر

وقل لنا

لِمَ يبدو المكان رائقا في هذه الليلة

وكيف صارت اللوحة هكذا:

عاشق مع عاشقة

بأصابع من دفء

ينظر الجمع إليهم بحسد

وربما بسخط

يحبذ أن يطفئ نورهم

نكاية بمن يتحدثون بفم واحدة

ويشربون مزاجها بهدوء لا يغتفر

ويرجعون إلى أسرة

غير «منجدة».بالملل.

4/

نريد أن نكون في هذه اللوحة الرائقة

وها نحن مع الحلم

ولكن كلما مشت أحلامنا في غير هذا المكان

تصير بساق واحدة.

5/

يا رشدنا

لا تجرح الليل

ليس في الخمر كارثة

نفيق منها

شبنا ونحن على طاولةٍ

لم نؤذ بها أحدًا

وكنا نشنق الطغاة فوق أخشابها وفي الصباح نطلقهم

لعل المعاصي تموت أو تتوب فجأة.

يا رشدنا

مائة عام أو أكثر صار عمرنا ونحن نقول:

لا تعض الكرم

فهو لنا كأس قد تذهب العقل وقد تعود به

ولكن

هل..

هل سجل التاريخ أن نشوانًا

سمّم الملح أو الخبز أو تبوّل في محبرة؟

هل سجل التاريخ أن مخمورا

أقام مقبرة جماعية

أو خطف طائرة أو اختلى ببلد؟

هل سجل التاريخ حادثة مشابهة؟

وإذا حدث

فلن يسجل إلا سقطاته في العمر

وتدحرجه

بملء

رغبته

من

فوق

الدرج.

  • الهوامش

    1- نشر زياد قصائده في الصحف والمجلّات العربيّة والأردنيّة بين 1990- 1999.

    2- راشد عيسى- رؤية بانوراميّة في شعريّة العناني- مجلّة أفكار عدد 295 آب 2013 ص 110.

    3- هناك ديوان بعنوان «إرهاصات من ناعور» يبدو أن الشاعر أسقطه من مشروعه الشعريّ.

    4-  ص23.

    5- في مقال للنقادة الفلسطينيّة أماني أبو رحمة تصف المصطلح(سايبورغ) بأنه الكائن الحي السيابرنيتيكي. والكلمة بحد ذاتها نتاج اندماج كلمتي الكائن الحي organism والسايبرنيتيكي cybernetic إنه باختصار نتاج اتحاد الإنسان بالآلة ولكنه ليس اتحادا بسيطا، ذلك أنه غير قابل للفصل ضمن السايبورغ الذي يعمل من خلال تفاعل الجزأين معا.

    6- ص 19.

    7- من قصيدة لوحة السحر ص 93.

    8- ص34.

    9- ص33.

    10- ص50.

    11- ص 43.

    12- المصدر السابق من قصيدة مع التراب ص 91.

    13- بورخيس، صنعة الشعر، ترجمة صالح علماني، ص14، ط 2 2014، دار المدى.

    14- ص46.

    15- تسمية الدموع من ظل المئذنة ص 27.

    16- تسمية الدموع من علة الحرب 81 و82.

    17- علة الحرب ص 84 و 85.

    18- ص31و 32.

    19- ص 69 و 70.

    20- ص104.

    21- من زهو الفاعل ص 60.

    22- ص 103.

    23- زهو الفاعل ص 94.

    24- زهو الفاعل ص60.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية