«أصعب من كورونا»: البترا بلا سياح

سياح في السيق، في المدينة الأثرية في البترا. تصوير ساجدة زياد.

«أصعب من كورونا»: البترا بلا سياح

الإثنين 24 شباط 2025

البضائع تتراكم على الرفوف، والغبار يغطي أثاث الفنادق، أمّا المطاعم والمقاهي ومحلات بيع التذكارات التي كانت تعج بالحركة فصارت شبه فارغة، والشارع السياحي الذي لطالما كان مزدحمًا بالكاد يشهد حركة سياحية. هكذا يبدو المشهد في مدينة وادي موسى، مركز لواء البترا، والتي يعتمد معظم سكانها على القطاع السياحي مصدرًا رئيسيًا للرزق، بما يضمه القطاع من فنادق ومطاعم ومحلات ومخيمّات سياحية.

وهذه هي الحال منذ اندلاع العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة عقب السابع من أكتوبر 2023، حيث تدهورت الحركة السياحية ما وضع أصحاب المنشآت السياحية والعاملين فيها أمام تحديات اقتصادية جسيمة. وسبق أن شهدت منطقة البترا قبل سنوات وضعًا مشابهًا عندما تكبدت خسائر فادحة بسبب إجراءات الحظر ومنع الحركة إثر جائحة كورونا عام 2020، وما إن بدأت بالتعافي مع حلول العام 2022، ووصول عدد السياح الوافدين إليها خلال عام 2023 إلى قرابة 1.8 مليون زائر، حتى جاءت الحرب على غزة وتراجعت أعداد السياح بنحو 75% خلال العام 2024 مقارنة مع العام السابق، وهو ما أوقف إلى حد بعيد النشاط السياحي في البترا، حتى أغلقت العديد من المنشآت أبوابها أو خفّضت العمل إلى الحد الأدنى، وقد أفاد رئيس جمعية فنادق البترا عبدالله الحسنات لحبر أن 15 فندقًا من أصل 70 أغلقت بالكامل، فيما تعمل بقية الفنادق بأقل من 10% من طاقتها الاستيعابية، مضيفًا أن نسبة المسرحين من موظفي الفنادق بلغت 80% من مجمل عددهم البالغ 1200 موظف.

أحد البازارات المغلقة بالقرب من وادي موسى، والشارع السياحي في المدينة. تصوير ساجدة زياد.

داخل فندق «بترا أريتاس» يجلس المالك هاشم الهلالات وحده بانتظار سائحٍ يبحث عن إقامة في فندق بأسعار زهيدة لعله يؤجره واحدة من الغرف الخمسة عشر الخالية. كان فندق الهلالات يعمل بشكل جيد في السابق بفضل موقعه في الشارع السياحي قرب الموقع الأثري، لكن مع تراجع الحجوزات بعد الحرب على غزة واجه الهلالات صعوبة في تغطية أجور الموظفين وفواتير الكهرباء والماء المتراكمة، ما اضطره لتسريح ثمانية موظفين والإبقاء على اثنين فقط. خلال كانون الثاني الماضي بلغ عدد الحجوزات لديه أربعة فقط، بإيراد وصل لحوالي 200 دينار، فيما بلغت التكاليف التشغيلية من إيجار وفواتير ورواتب قرابة 2000 دينار: «إذا ظل الوضع هيك لأربع أو خمس شهور بدي أسكر الأوتيل»، يقول الهلالات.

من أجل خفض التكاليف والحفاظ على الاستمرارية سرّحت بعض المنشآت العاملين لديها، حتى إن المئات من العاملين في القطاع الفندقي خسروا وظائفهم، من بينهم فداء عبد الرحمن (31 عامًا) وهي متزوجة وكانت تعمل في خدمة الغرف والتنظيف، براتب 200 دينار شهريًا، لدى أحد المخيمات السياحية في البترا: «روحونا لإنه ما في شغل، مش قادرين يدفعلولنا الرواتب» تقول فداء، ولم تتمكن من العثور على فرصة عمل أخرى تساهم من خلالها بإعالة عائلتها: «وين بدي أشتغل؟ ما في سياحة يعني ما في بكل البلد شغل».

الحركة التجارية في حدودها الدنيا، وقد أغلقت بعض المخيمات السياحية والمطاعم أبوابها. تصوير ساجدة زياد.

اضطرت بعض المنشآت السياحية لإجراء آخر من أجل تخفيض التكاليف؛ تخفيض الرواتب بنسب تتراوح بين 40% إلى 70% من الأجر الأصلي، وقد قبل بعض الموظفين مضطرين بهذا الحل، منهم سليمان الفلاحات العامل في محل تجاري براتب 350 دينار شهريًا. أُغلق المحل الذي يعمل به لمدة أربعة أشهر قبل أن يتمكن الفلاحات من إقناع صاحب العمل بإعادة افتتاحه مقابل حصوله على نصف الراتب، مؤكدًا أن صاحب العمل يدفع الراتب من جيبه، لا من إيراد المحل.

الحال نفسه تقريبًا ينسحب على علي الفلاحات، موظف الأمن والحماية في أحد الفنادق، إذ اضطر في بداية الأزمة إلى القبول بنصف أجره الأصلي الذي يبلغ حوالي 400 دينار شهريًا، لكنه تقدم مؤخرًا بإجازة غير مدفوعة خلال كانون الثاني الماضي وشباط الحالي، من أجل العمل كسائق سيارة كهربائية داخل الموقع الأثري بدخل يعادل أجره الأصلي بالفندق، في محاولة لإعالة نفسه وأسرته بعدما تراكمت الديون عليه.

وتتردد على ألسنة معظم أصحاب المنشآت السياحية جملة «هاي الأزمة أصعب من كورونا» التي توقفت فيها الحركة تمامًا لأشهر جراء قيود الحركة والتنقل، ذلك أن الإغلاق التام أيام كورونا خفف من الكُلَف التشغيلية، أمّا هذه الأيام فغابت الحركة فيما تضطر المنشآت للعمل وتحمّل بعض الأعباء المالية، على عكس ما كان عليه الوضع خلال جائحة كورونا، إذ اتخذت حينها الحكومة إجراءات عدة لتخفيف الضرر على القطاع السياحي مثل تخفيض الضريبة العامة على المبيعات للفنادق والمطاعم، وإعفاء المنشآت السياحية من الرسوم المستحقة لوزارة السياحة وسلطتي إقليم البترا والعقبة.

يقول معتصم الهلالات، وهو مستثمر وصاحب مطعم، إن السياحة بعد كورونا تحسنت، ما شجعه على الاستثمار في القطاع السياحي فافتتح مطعمه في بدايات 2023، لكنه بعد عام كامل من دفع الإيجار البالغ 800 دينار شهريًا دون تحقيق إيرادات، اضطر في نهايات 2024 إلى هدم المطعم من الداخل قبل تسليم المخازن للمؤجر حسبما ينص عقد الإيجار، قائلًا وهو ينفض يديه: «خلص، التوبة، حتى لو رجعت السياحة ما رح استثمر فيها».

مطعم الهلالات بعد هدمه من الداخل وإعادته للمؤجر. تصوير ساجدة زياد.

وبالإضافة إلى التكاليف التشغيلية في ظل تدهور الإيرادات، ثمة قضية أخرى يعاني منها بعض أصحاب المنشآت السياحية، هي تراكم الأقساط للبنوك وصناديق التمويل، إذ اعتمد كثير منهم على القروض للاستثمار في القطاع السياحي، لكنهم اليوم متعثّرون ماليًا ومطالبون بسداد ما تراكم عليهم من أقساط. كان هاشم القرعان، صاحب فندق «فاميلي»، قد موّل مشروعه عبر صندوق التنمية والتشغيل وافتتحه في تشرين الأول 2022 مع عودة الحركة السياحية لأوجها بعد كورونا. وكان ملتزمًا بتسديد الأقساط البالغة حوالي 1250 دينار شهريًا، ويخطط لفتح مشروع «دراي كلين» بجانب فندقه نظرًا لنشاط الحركة السياحية آنذاك. لكنه الآن متعثر لا يستطيع سداد أقساط القرض البالغ 25 ألف دينار: «في أي وقت ممكن ينزلوا علي تعميم»، يقول القرعان. لذا، أغلق فندقه وعرضه للبيع، مؤكدًا أنه لن يستطيع إعادة فتحه حتى لو تحسّنت الحركة السياحية، لما ترتّب عليه من فواتير ماء وكهرباء، كما أنه لا يستطيع تحمل تكاليف إعادة تشغيل الفندق وما يحتاجه من صيانة وتجهيز للغرف. 

يشتكي أصحاب المنشآت السياحية من سوء تعامل البنوك معهم في مثل هذه الظروف، من بينهم إبراهيم النوافلة، مالك فندق الضيافة، الذي سعى للحصول على قرض يمكّنه من صيانة الفندق بعدما توقفت الحركة عنده، لكن معظم البنوك التجارية رفضت طلبه: «هاي اللي كسرت ظهري مزبوط»، مضيفًا أن البنوك ترحب بالمستثمرين وتمنحهم القروض عندما يزدهر النشاط السياحي، لكن الأحوال تنقلب إذا تعثّر القطاع السياحي أو مرّ بأزمة.

سياح في مركز الزوار بعد الخروج من الموقع الأثري. تصوير ساجدة زياد.

وقد أكّد كثير من أصحاب المنشآت أنهم لم يتلقوا أي دعم حكومي يعوّض خسائرهم عن الأزمة الحالية، على عكس ما حدث خلال جائحة كورونا عندما قدّمت -على سبيل المثال- مؤسسة الضمان الاجتماعي برامج لدعم العاملين في المنشآت الأكثر تضررًا أو غير المصرح لها بالعمل آنذاك. فيما اقتصر الدعم الحكومي حاليًا على إعفاءات من بعض الرسوم والفوائد، من ذلك مثلًا إعلان وزارة السياحة أواخر العام الماضي عن تمديد العمل بقرار إلغاء الفائدة المترتبة على جدولة الاشتراكات المتأخرة في ذمة منشآت القطاع السياحية حتى نهاية 2025، والسماح بتقسيط أصل المبالغ المترتبة عليها لصالح المؤسسة العامة للضمان الاجتماعي لفترة تصل إلى (180) شهرًا دون فوائد.

كما أصدرت رئاسة الوزراء قرارًا بإعفاء المنشآت التجارية -السياحية وغيرها- في سُلطة منطقة البترا من رسوم رخص المهن لعام 2025، بهدف دعم القطاع السياحي والتسهيل على الأنشطة الاقتصادية وتحفيزها، فيما لم ينفذ القرار بعد وينتظر أصحاب المنشآت تطبيقه.

عاملون على الحيوانات التي تنقل السياح في البترا. تصوير ساجدة زياد.

أما برنامج «أردننا جنة» الذي أطلقته هيئة تنشيط السياحة لتعزيز السياحة الداخلية، فيتعامل مع عدد من الفنادق في البترا، وتتراوح تكلفة المبيت للفرد مع وجبتي طعام بين 13 و28 دينارًا بحسب تصنيف الفندق بين نجمتين إلى خمسة. يقول الكثير من أصحاب الفنادق ذات التصنيف الأقل إن الفنادق العالمية وحدها من يستطيع استقبال الزوار وتحقيق استفادة ولو منخفضة لقاء هذه المبالغ، على عكس منشآتهم التي لم تستفد من البرنامج نظرًا لأن التكلفة التشغيلية للغرف أعلى من إيراد البرنامج، في حين لا تستفيد المطاعم من البرنامج بأي شكل من الأشكال.

هكذا يطالب كثير من أصحاب المنشآت السياحية بإعانتهم على مواجهة الأزمة من خلال تخفيض أسعار التذاكر للموقع الأثري، وتخفيض أسعار تذاكر الطيران عبر الملكية الأردنية، وإعادة التعاقد مع شركات الطيران منخفض التكاليف مثل «ريان إير» و«ويز إير»، مع ضرورة الترويج السياحي للأردن في الخارج من خلال هيئة تنشيط السياحة. ورغم أن الهدنة في غزة تشي باحتمالية عودة السياحة، لكن أصحاب المنشآت السياحية والموظفين فيها يشعرون بالقلق إزاء أوضاع القطاع، خصوصًا أنه سريع التأثر بأحداث المنطقة، آملين أن يتمكن عبر التسهيلات المالية والحوافز الحكومية والحملات الترويجية الفعالة من التعافي في المستقبل القريب.

Comments are closed.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية