حدائق الملك عبدالله الأول: هل تعود متنفسًا للناس؟

حدائق الملك عبد الله بعد أن توقفت عن العمل. تصوير: مجد حجاوي.

حدائق الملك عبدالله الأول: هل تعود متنفسًا للناس؟

الخميس 15 آب 2024

في ندوة أقامتها مؤسسة عبد الحميد شومان في آب 2022، استضافت فيها أمين العاصمة، الدكتور يوسف الشواربة، سأل أحد الحضور الشواربة عما تنوي أمانة عمّان فعله بحدائق الملك عبدالله الأول، في وادي صقرة، التي هي الآن، كما قال السائل، «كوم من الأحجار».

كان هذا وصفًا دقيقًا لما آل إليه حال الحدائق، التي افتتحت عام 1988 على مساحة 79 دونمًا تقريبًا،[1] في قلب العاصمة، وكانت وقتها الحديقة الكبرى الأولى في الأردن.[2] وضمّت إلى جانب مساحاتها الخضراء مرافق ترفيهية، مثل قاعة للتزلج على الجليد، وتلفريك هوائي، ومدينة ملاه كبيرة، إضافة إلى مطاعم ومقاه ومحلات تجارية وبورصة للزهور، ومدرجًا لإقامة المهرجانات وغيرها من مرافق.

كان الناس يأتونها من العاصمة والمحافظات، إضافة إلى السياح من الدول المجاورة، يقول الدكتور حابس محافظة، الذي استلم إدارة الحدائق بين العامين 1994 و1998. وفي شهور الصيف والأعياد ونهايات الأسبوع، لم يكن هناك موطئ قدم من الازدحام، في المكان الذي كان يظل مفتوحًا إلى الساعة الثانية بعد منتصف الليل.

سبب هذا الرواج هو أنها كانت الوحيدة من نوعها آنذاك، يقول صلاح شاهين، الذي كان عمره 10 سنوات، عندما افتتحت، وشكّلت قسمًا كبيرًا من ذكريات طفولته وبداية شبابه. في البداية، كان والداه يصحبانه وإخوته من بيتهم في طبربور إليها في الأعياد والعطل. ثم عندما التحق عام 1993، بعد الصف العاشر، بكلية عمون الفندقية القريبة من الحدائق، صار يذهب إليها بشكل شبه يومي مع أصدقائه بعد انتهاء دوامهم، حيث كانوا يستطيعون بنصف دينار للواحد شراء سندويشة وعلبة عصير ولعب دور «بيبي فوت» أو بلياردو، والعودة بعدها بالباص إلى المنزل. لكن أطفاله لم يكن لديهم الحظ بأن يصنعوا ذكريات في هذه الحدائق التي تدهورت ثم انهارت بعدها.

جانب من الأنشطة والمرافق التي كانت موجودة في الحدائق أثناء سنوات عملها. المصدر: المسافرون العرب.

لم يكن هناك سبب واضح لانهيار الحدائق. عام 2008، وجّهت «الأمانة» فجأة إنذارات بالإخلاء للمستأجرين من أصحاب المحلات التجارية والمرافق الترفيهية، وأعطتهم مُهلًا لتدبير أمورهم، مبررة هذا بأنها تنوي طرح الحدائق للاستثمار. خلال السنوات القليلة التالية، أغلقت المحلات والمرافق الترفيهية تباعًا، وانفض الزوار، بخاصة العائلات، نتيجة تشوّه سمعة المكان، الذي تم ربطه بأنشطة «لا أخلاقية» تمارس هناك. ثم تحوّل المكان إلى خرابة،[3] من دون أن يعرف أحد تفسيرًا واضحًا لما جرى. ولا أحد كان يعرف أيضًا ما الذي تنوي «الأمانة» فعله بالمكان الذي ظل لأكثر من عشر سنوات بؤرة تشوه بصري، بمبانيه الإسمنتية المهجورة، وساحاته وأشجاره المهملة، ومحلاته المفتوحة على الشارع، وقد تحولت إلى مكبات للقمامة. يضاف إلى كل هذا، السرقات التي تعرضت لها موجودات الحدائق خلال سنوات هجرانها، كما أخبر حبر مسؤول سابق في «الأمانة»، عاصر تأسيس الحدائق وانهيارها، وطلب عدم الكشف عن اسمه. ما قاله المسؤول أكده عامل في مجمع تجاري مجاور، طلب أيضًا عدم الكشف عن هويته، وقال إن اللصوص كانوا يستعينون في الليل بمصابيح لفك ما يمكنهم نقله، من كوابل كهرباء، وتمديدات صحية، وكشافات.

في ندوة «شومان»، أجاب أمين عمان السائل بأن عطاءً سيُطرح قريبًا لإعادة تأهيل الحدائق، بهدف إعادتها متنفسًا لأهالي عمان. وقد بدأ بالفعل تنفيذ مشروع التأهيل بكلفة 17.8 مليون دينار بداية تشرين الثاني 2023، فأحيط المكان بألواح صفيح عالية، ومحكمة، حجبته عن أعين المارة، وبدأت تجري أعمال هدم وبناء، تذكر اللوحة المثبتة على البوابة أنها ستستغرق سنتين.

تقسيم التركة

كانت حدائق الملك عبدالله الأول واحدة من ثلاثة مشاريع أنشأتها مؤسسة إعمار العاصمة، التي تأسست عام 1979 وألغيت عام 1990. ولم تكن هذه المؤسسة، على غرار مؤسسات إعمار المدن الأردنية الأخرى آنذاك، هيئة تطوعية، بل شركة ربحية ضمّت ثلاثة شركاء؛ بنك الإسكان وأمانة عمان وصندوق التقاعد،[4] الذي ألغي لاحقًا وحلّت محله المؤسسة الأردنية للاستثمار.[5] 

المشروعان الآخران إلى جانب الحدائق هما مجمع مواقف سيارات شارع الأمير محمد ومجمع الشابسوغ. وعندما ألغيت المؤسسة عام 1990، تقاسم الشركاء الثلاثة الممتلكات. وتظهر محاضر جلسات مجلس النواب تساؤل بعض أعضائه وقتها عن عدالة القسمة، إذ آلت ملكية مجمعي شارع الأمير محمد وشارع الشابسوغ مناصفة لبنك الإسكان والمؤسسة الأردنية للاستثمار، وهما كما قال النواب من «العقارات التي تدر أرباحًا»، في حين كانت الحدائق التي هي مشروع «خدمات ترفيهية ولا يدر أرباحًا» من نصيب الأمانة.[6] 

لهذا، كان أول ما فعلته «الأمانة» عندما استلمت الحدائق هو أنها حاولت توليد الدخل منها، بإضافة محلات تجارية على حساب المساحات المفتوحة، ما ضرب وظيفتها الأساسية كحديقة.

وفق التصميم الأصلي للحدائق كانت أبرز المرافق فيها مجمعًا تجاريًا يضم 56 محلًا، إضافة إلى كشك لبيع المرطبات، وسوبرماركت ومطعم، ومدرج يتسع لـ2176 شخصًا، ومواقف سيارات في طابق التسوية، تتسع لـ727 سيارة، ومدينة ألعاب صغيرة، ومحطة بنزين، ومنطقة لغسيل وخدمة السيارات، ومسرحًا للأطفال يتسع لـ958 شخصًا، ومساحة للتزلج في الهواء الطلق وعلى الجليد. ومع ذلك، لم تكن المساحة المبنية تتجاوز 25%، والفراغات المبلطة 30%، أما المساحات الخضراء فكانت تشكل 45% من المكان.[7] في حين أن النسب حاليًا في الحدائق (قبل مشروع التأهيل القائم) هي 25% للمساحة الخضراء، و37% مباني، و38% مبلطة، وذلك وفق ردّ مكتوب من «الأمانة».

الحدائق بعد توقفها عن العمل. تصوير مجد حجاوي.

يقول محافظة، الذي تقاعد عام 2010، إنه عندما استلم الإدارة أواسط التسعينيات، لم تكن معظم المحلات التجارية القائمة قد أُجّرت بعد، لهذا عملوا بجد وقتها لاستقطاب مستأجرين. ويتذكر أن ذلك تم بإيجارات زهيدة. عندما استلم الإدارة كان هناك مكتبان لتأجير السيارات السياحية داخل الحدائق، ارتفعت إلى 20 تقريبًا. ثم في مرحلة لاحقة أقيمت محلات جديدة، وأكشاك خارجية على واجهة الحدائق، أُجّرت أيضًا لمكاتب سيارات سياحية.

أمام زحف المحلات تضاءلت المساحات المفتوحة، يقول المدير السابق للحدائق، المهندس زيد الفلايلة، الذي استلم إدارة الحدائق بين العامين 2012 و2019، وتقاعد العام الماضي. يقول الفلايلة إنه أقيمت داخل المكان الكثير من الأكشاك التي تعدت على المساحات المفتوحة المبلطة منها والخضراء، وكانت تعيق حركة الناس. وقد أضيفت عشوائيًا لأن «الأمانة» كانت تمنح تصاريحها من دون دراسة. ثم زاد الأمر سوءًا بعدها مع إقامة أكشاك السيارات السياحية على الواجهة.

لم تجب «الأمانة» على سؤال حبر بخصوص الإضافات التي تمّت بعد امتلاكها الحدائق عام 1990، ولا عمّا وصل إليه عدد المحلات التجارية بعدها. لكن العدد وفق مقال للمستشار في العمارة والتخطيط الحضري، الدكتور المهندس مراد الكلالدة، نُشر عام 2014، كان 113 محلًا تجاريًا، و52 مكتب سيارات سياحية، و31 مطعمًا، إضافة إلى عدد من المقاهي. الكلالدة قال لحبر إنه حصل على هذه الأرقام من أمانة عمان.

لم يقف الأمر عند تآكل الحدائق لصالح المحلات التجارية، إذ يقول الفلايلة إنه كان هناك «إهمال» في الرقابة على هذه المحلات، تسبّب في أنها تعدّت على مساحات إضافية، وأنشأت إضافات من دون ترخيص. كما أنها بدأت بتغيير نشاطاتها «بطريقة عشوائية»؛ فتعدّت مكاتب السيارات السياحية، مثلًا، التأجير إلى بيع السلع الخاصة بالسيارات. كما أن منها من كان يعيد تأجير مواقف السيارات التابعة للحدائق بالباطن لأصحاب المصالح التجارية المجاورة. ومنها من كان يستخدم هذه المواقف «منامات» لعماله ولتخزين سلع خاصة بالسيارات. ويقول الفلايلة إن «الإهمال» في المتابعة من قبل «الأمانة» وصل إلى أن أصحاب العديد من المحلات ظلوا لسنوات طويلة يمارسون نشاطاتهم من دون تجديد العقود، ولا دفع مستحقات «الأمانة»، ولا حتى دفع أثمان المياه والكهرباء. بل إن الانفلات وصل حد أن أحد المكاتب جعل ماسورة مياه الصرف الصحي التابعة لحمام المكتب لديه، تصب في مواقف السيارات محولًا إياها إلى «مكرهة صحية».

يقول محافظة إنه عندما زادت مكاتب السيارات السياحية، صار زوار الحدائق مضطرين، في الغالب، للوصول إلى المكان بالمواصلات العامة لأنه كان من الصعب جدًا تأمين مصفات للسيارات، التي كانت محتلّة بالكامل بسيارات المكاتب.    

«حدائق مبلّطة»

في بلد فقير جدًا بالمساحات الخضراء العامة، يقول الكلالدة، إنه كان خطأً من الأساس إقامة حديقة يحتل البناء والبلاط أكثر من نصفها، ناهيك عن السماح، لهما عبر السنوات بأن يتعديا أكثر. فوظيفة الحدائق في العالم هي أن تكون مساحات خضراء مفتوحة للناس، لا «حدائق مبلّطة».

توصي منظمة الصحة العالمية بألا تقل حصة الفرد في المدينة من المساحة الخضراء عن خمسة إلى 10 أمتار مربعة، في حين تبلغ حصة الفرد من الحدائق في الأردن 2.5 مترًا مربعًا.[8]

للإنصاف، يقول الكلالدة إن «الأمانة» رفعت خلال السنوات الماضية الرقعة الخضراء بإنشاء المزيد من الحدائق المحلية في الأحياء. لكن النسبة ما تزال بعيدة جدًا عما يوصى به عالميًا، في مدينة كانت تعرّف في الماضي بوصفها مدينة خضراء.

ظلّت عمان قرابة الستين سنة، بعد إنشاء أول تنظيم بلدي فيها، تُعرّف بوصفها مدينة خضراء، يقول الكلالدة. فعندما تأسست أول بلدية فيها عام 1908، كان سيل عمان قلب المدينة، وظل يشكّل هويتها، إلى أن بدأت عملية سقفه عام 1964، بسبب ارتفاع الطلب على الأراضي نتيجة الهجرات، إذ أكسب إلغاء السيل بسقفه المدينةَ أراضيَ جديدة.

خطوة السقف لم تكن حتمية، يقول الكلالدة، فقبل ذلك، كان هناك مخطط شمولي هو الأول لمدينة عمان، أعدّه عام 1955 خبيران من الأمم المتحدة، جاءا استجابة لطلب مساعدة من الحكومة الأردنية للتعامل مع تدفق اللاجئين بعد النكبة. وضع هذا المخطط تصوّرًا عمليًا يحّل مشكلة ارتفاع الطلب على الأراضي، مع الحفاظ على السيل والمساحات الخضراء. لكن المخطط لم ير النور.

اقترح المخطط إنشاء أحياء سكنية على الجبال، وترك السيل في الأسفل، يتدفق عبر ممرات مجراه إلى قلب المدينة على شكل «أصابع خضراء»، بما يساهم في خلق مساحات عامة مفتوحة للناس. كما اقترح إنشاء حديقة مركزية، وسط المدينة، تضم مبنى البلدية ومكتبة ومسرحًا ومعرضًا للفنون. لكن أيًّا من هذا لم ينفذ، بل سُقف النهر، الأمر الذي أدّى إلى التغيير التدريجي في النظام البيئي في المدينة، كما أن هوية عمان التي كانت معروفة بأنها «مدينة المياه» اضمحلّت.[9]

لقد كسبت المدينة، يقول الكلالدة، بعملية السقف ألف دونم تقريبًا. وكان هذا آنذاك مجديًا اقتصاديًا بشكل مرحلي فقط، لكننا الآن نرى كيف تحول إلى «عبء على عمان». ولهذا التاريخ علاقة وثيقة بحدائق «عبدالله الأول»، فإلغاء النهر كان نتاج «فكر» لا يرى في الأرض سوى أنها فرصة استثمارية مربحة، ولا يقيم أهمية للمساحات الخضراء المفترض أن تكون لسكان المدينة، يقول الكلالدة. إنه الفكر «النيوليبرالي» ذاته الذي حكم تعامل أصحابه مع حدائق الملك عبدالله الأول، والتي بسبب موقعها الممتاز، ظلت «عيونهم عليها».

أحلام استثمارية

عام 2008، قررت «الأمانة» إخلاء جميع المستأجرين في الحدائق لطرحها للاستثمار. قال عمر المعاني، أمين عمان آنذاك، إن «أرض الأمانة في حدائق الملك عبدالله تكلّف ملايين الدنانير ومن حقنا أن نستثمرها». كان أحد المشاريع الاستثمارية المقترحة إنشاء فندق وقاعات مؤتمرات داخل الحدائق، وهو مشروع حاولت «الأمانة» اجتذاب مستثمرين من السعودية لتنفيذه. كما طرحت عام 2015 عطاء مشروع استثماري آخر لإنشاء مقاهٍ ومطاعم وألعاب في القسم الشمالي العلوي من الحدائق.

لا شيء مما سبق سار قدمًا، لأن «الأمانة» كانت أثناء محاولتها اجتذاب مستثمرين تخوض معركة لإخلاء المستأجرين، وهي معركة استمرت تسع سنوات، قدّمت لهم خلالها العديد من المغريات ليرحلوا. فمنحتهم مهلًا جُدّدت الواحدة تلو الأخرى وإعفاءات من الإيجار، وخفّضت الكفالة العدلية من 150 ألف دينار إلى 50 ألف دينار، وخفّضت لهم عدد مواقف السيارات التي يشترط على كل مكتب توفيرها من 30 إلى خمسة. لكنها لم تتمكن من إخراج آخر مستأجر إلا نهاية عام 2017.

الحدائق بعد توقفها عن العمل. تصوير مجد حجاوي.

يقول الفلايلة إن «الأمانة» تمكّنت من إخراج المحلات داخل الحدائق أولًا، لكن مكاتب السيارات السياحية قاوموا أكثر من غيرهم عملية الإخلاء. مشكلة هذه المكاتب، والتي كان من بينها وكالات أجنبية، يقول مسؤول «الأمانة» السابق، هي أنها خسرت موقعًا استراتيجيًا، في قلب العاصمة، قريبًا من المطار والفنادق الكبرى. 

السبب الآخر هو الفرق في قيمة الإيجار، ففي مواقع مشابهة، تبلغ الأجرة للمتر الواحد 500 دينار، في حين أنهم كانوا يستأجرون من «الأمانة» بـ50 دينارًا للمتر.  

بعد اكتمال خروج المستأجرين، توقفت أخبار «الأمانة» عن خطط استثمار الحدائق، فحسب تصريحاتها، فوّت تأخر المستأجرين في الخروج عليها فرص الاستثمار المرتقب على مساحة 79 دونمًا نتيجة تراجع المستثمرين. وهي تصريحات أظهرت أن الاستثمار الذي كان مخططًا له، كان يستهدف كامل مساحة الحدائق.  

من ترفيه الأهالي إلى تنفيرهم

لم يكن الاستثمار هو السبب الوحيد الذي قالت «الأمانة» إنها تريد إخلاء الحدائق من أجله. كان هناك أيضًا السمعة السيئة للمكان، بعد ربطه بممارسات «لا أخلاقية» في بعض المحلات داخله. المعاني، في تبريره الإخلاء عام 2008، قال إن «الحدائق أصبحت مرتعًا غير صحي، ولا يتناسب مع العائلات الأردنية فيما لو فكرت بزيارة المكان». وهو أمر أكّده الفلايلة، الذي قال إن الوضع من هذه الناحية كان بالغ السوء داخل الحدائق.

يتذكر شاهين أن أولى بوادر التحوّل بهذا الاتجاه كانت أواخر التسعينيات، مع بدء ظاهرة الفتيات اللواتي كان يستغلهن أصحاب المقاهي والمطاعم بالوقوف على أبواب المحلات ودعوة الشباب إلى الدخول. في السنوات القليلة التالية، بات واضحًا أن الكثير ممن يقفن على الأبواب ومن يعملن داخل هذه المحلات كن «بنات ليل». يقول إنه عندما تزوج أوائل الألفينات زار وزوجته الحدائق بعدها ثلاث مرات مرات فقط، لأن المكان صار بسبب هذا طاردًا للعائلات.

أشارت إلى ذلك تغطيات صحفية عديدة تحدثت عن محلّات تقدم «خدمات جنسية»، وتتورط في عمليات ابتزاز للشباب من مرتاديها. وهو أمر أكّد عليه جيران الحدائق ممن التقتهم حبر. أحدهم، وهو مالك محلّ تجاري طلب عدم ذكر اسمه، قال إنه كان يحدث كثيرًا أن يأتي إليه شباب يرجونه أن يعطيهم دينارًا أو دينارين بعد أن خسروا كل نقودهم في الداخل، ولم يبق لديهم أجرة التاكسي للعودة إلى بيوتهم.

محمد طريف، كان واحدًا ممن عُرضت عليهم هذه «الخدمات». طريف، الذي كان عمره 15 سنة عندما افتتحت الحدائق، كان يأتيها أسبوعيًا من سحاب بصحبة أصدقائه. «كنا نلم حالنا باصات شباب. نلعب بالملاهي، ناكل نتمشى (..) صرنا ناخذ أهالينا، خواتنا».

غادر طريف الأردن عام 1997، وهو يعيش في حاليًا في الولايات المتحدة، حيث يعمل متعهد بناء. يقول إن الحديقة عندما غادر «كانت بخير». ثم عاد في زيارة عام 2007 واصطحب عمه الذي كان ضيفًا على البلد إليها. يقول إنهما جلسا في مقهى فجاءت فتيات وسألتهما واحدة «بدكم تتسلّوا؟». وعندما استفسرا عن القصد، عرضن تزويدهما بأرقام تلفوناتهن وإمكانية ترتيب لقاء في شقة حتى إنهن أخبرنهما بالأسعار. يقول إنهما غادرا بالطبع مذهولين.

مسؤول «الأمانة» السابق قال إن الهدف الأساسي من تأجير «الأمانة» للمحلات كان أن تكون مركزًا اجتماعيًا وثقافيًا، وأن تستغل هذه المحلات من قبل فنانين ومثقفين. لكن الذي حدث هو أن المكان تحوّل سريعًا إلى تجمّع للمطاعم ومحلات الأراجيل ومكاتب السيارات السياحية. ثم بدأت بعض المحلات تمارس «أنشطة مشبوهة». وهذا لم ينفّر العائلات فقط، بل أدّى إلى خروج العديد من أصحاب المصالح التجارية داخل الحدائق نفسها. كما انفضّت عن المكان الرحلات السياحية، التي كان الأدلاء يصحبون فيها السياح لشراء المشغولات اليدوية والتقليدية.

السؤال الملحّ: لماذا سمحت «الأمانة» للوضع بأن يسوء إلى هذا الحد عبر السنوات؟ لماذا لم تفرض رقابتها، ولم تحافظ على الحدائق مكانا للترفيه العائلي؟ وما هو المنطق في تصريحها بأنها قررت التدخل لضبط الأمور، وذلك «بإنهاء كافة العقود المبرمة مع الغير، بعد الإساءة في الاستعمال من قبل البعض»؟

يقول المسؤول السابق إن هذا النوع من الرقابة لم يكن من صلاحية «الأمانة»، بل جهات أمنية. لكن الكلالدة  يرى أن «السيناريو» واضح؛ انعدام الرقابة الذي أدّى إلى استشراء هذه الممارسات قاد إلى «شيطنة الحدائق»، واستعداء الناس لها، وتقبّلهم في النهاية فكرة إغلاقها، تمهيدًا لعرضها على المستثمرين.

عود على بدء

عام 2019، أعلنت «الأمانة» نيتها إعادة الحدائق متنفسًا للناس، وأكّد الشواربة بعدها العودة عن قرار تحويل الحدائق إلى «منظومة استثمارية».

بالفعل، بدأ مشروع إعادة التأهيل أول تشرين الثاني 2023، ومن المقرر أن يستغرق سنتين. وهو يشمل، بحسب ردّ «الأمانة»، إعادة استخدام طابق التسوية (مواقف السيارات)، والمدرج، والممرات، والمركز المجتمعي. في حين هدمت مباني المطعم وبورصة الزهور والصيوان (pavilion). وسيتم بناء مطعم وصيوان جديدين، وإضافة جدران فاصلة وبوابات علوية.

حفريات حدائق الملك عبد الله والأسوار المحيطة بالحفريات. تصوير مؤمن ملكاوي.

بداية العام الماضي، قبل بدء مشروع التأهيل ببضعة أشهر، صرّحت «الأمانة» بأن مشروع التأهيل سيعيد الحدائق لتكون «مساحة خضراء، ورئة ومتنفس للناس. [ولن] نزرع فيها مجددًا مباني، ومحلات تجارية».

ليس واضحًا إلى أي مدى يمكن لمخرجات التأهيل أن تنسجم مع الوعد أعلاه، ونسبة المساحة الخضراء في الحدائق ستكون بعد التأهيل 29%، أي أقل من الثلث، في حين سيشكّل البلاط 37%، والمباني 34%، كما قالت «الأمانة» لحبر. ومع ذلك، فإن الأمر في النهاية سيكون مرهونًا بكيفية إدارة المكان بعد إنجاز تأهيله. هل سيدار بوصفه مساحة ليتنفّس فيها الناس فعلًا؟ أم سيعلق مجددًا في مخططات الربح والاستثمار؟

منظر عام للحدائق ويظهر بقايا مدخل مدينة لونا الترفيهية. تصوير مؤمن ملكاوي.

مضى من مشروع التأهيل تسعة أشهر تقريبًا، أي أكثر من ثلث المدة المقررة له. ونسبة الإنجاز حتى الآن، كما أفادت «الأمانة»، هي 6%.[10] لهذا، من المرجح أن الانتظار سيطول.

  • الهوامش

    [1] هناك عدة أرقام متداولة لمساحة الحدائق في المصادر المختلفة. وفق ردّ من أمانة عمان، مساحة المشروع الفعلية للحد التنظيمي للحدائق هي 78.683 مترا مربعا. وتبلغ المساحة الشاملة، والتي تشمل مساحة الحد التنظيمي، مع الأرصفة والشوارع المحيطة 80.614 مترًا مربعًا.

    [2] الحديقة الكبرى التالية، هي حدائق الحسين، افتتحت 2005، في حين افتتحت حدائق الملك عبدالله الثاني في المقابلين 2019.

    [3] لم تجب أمانة عمان عن سؤال حبر عن التاريخ الذي أغلفت فيه الحدائق رسميًا. ولم يكن لدى المسؤولين السابقين في الأمانة ممن تحدثت حبر إليهم جواب حول الموعد المحدد لإغلاق الحدائق. لذا، ربما  لم يكن هناك قرار رسمي بإغلاقها في موعد محدد، وأنها هُجرت تدريجيًا مع إغلاق محلاتها.

    [4] محاضر جلسات مجلس الأمة، المجلس رقم 11، الدورة 1 (عادية)، الجلسة 10، بتاريخ 13-1-1990. الموقع الإلكتروني لمجلس النواب.

    [5] تأسس صندوق التقاعد عام 1976، لكنه ألغي لتحلّ محله عام 1989 المؤسسة الأردنية للاستثمار. ورغم أن قانون المؤسسة الأردنية للاستثمار، صدر عام 1991، لكن كما يتضح من نص قانون إلغائها الذي تم عام 2008، هي كانت موجودة منذ عام 1989، حيث كانت تعمل وفق نظام صدر تلك السنة. ويشير إلى ذلك طاهر كنعان وحازم رحاحلة في كتابهما (الخصخصة في التطبيق، التجربة الأردنية): «ثم کرست هذه السياسة [الخصخصة] مؤسسياً بإنشاء «المؤسسة الأردنية للاستثمار» في عام 1989 كذراع استثماري للحكومة لتحل قانونيًا محل صندوق التقاعد».

    [6] محاضر جلسات مجلس الأمة، المجلس رقم 11، الدورة 1 (عادية)، الجلسة 10، بتاريخ 13-1-1990. الموقع الإلكتروني لمجلس النواب.

    [7] Bareqa Hbeishan, Amman Urban Park / Performance Art Institute, German Jordanian University, School of Architecture and Built Environment (SABE), Department of Architecture and Interior Architecture. 2019.

    [8] يذكر أن الرقم الذي تورده «الأمانة» في استراتيجيتها للأعوام 2022-2026 لحصة الفرد من المساحة الخضراء في عمان يبلغ 3.18 مترًا مربعًا، وقد أرسلت حبر لـ«الأمانة» سؤالًا حول هذا التفاوت، دون أن تتلقى ردًا.

    [9] Anne A. Gharaibeh, Esra’a M. Al.Zu’bi and Lama B. Abuhassan. Amman (City of Waters); Policy, Land Use, and Character Changes. Land 2019, 8 (12), 195; https://doi.org/10.3390/land8120195

    [10] ردّ «الأمانة» على حبر كان بتاريخ 14 تموز

Leave a Reply

Your email address will not be published.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية