منذ أربعة عشر عامًا، حصلت بتول التي تسكن الزرقاء على وظيفة إدارية في عمان، قرب دوار المدينة الرياضية. في العام الأول، كانت تعتمد في مواصلاتها على باصات الكوستر الصغيرة التي تكلف في الرحلة الواحدة 60 قرشًا. ولكنها سرعان ما قررت شراء سيارة بقرض من البنك لأسباب تتعلق بالراحة. ومنذ ذلك الحين وهي تتنقل يوميًا بين المحافظتين بسيارتها، بما يكلفها ذهابًا وإيابًا ستة دنانير مصروفًا للبنزين. لذلك، كانت بتول تترقب إتمام مشروع الحافلات عالية التردد (BRT)، المعروف بالباص السريع، بين الزرقاء وعمان لتعتمده بدلًا من السيارة.
يُقدّر الصرف السنوي للفرد على النقل في الأردن بـ18% من دخله،[1] وهو ما ينطبق على بتول كذلك. ففي ظل مركزية العاصمة إداريًا واقتصاديًا، بات سكان باقي المحافظات مضطرين للتنقل إليها للالتحاق بالفرص التعليمية والمهنية. إذ تبلغ الرحلات المرورية القادمة من المحافظات إلى عمان على أقل تقدير مليون رحلة يوميًا، من أصل 11 مليون حركة مرورية تسجّل في عمّان كل يوم. ومن هذا المليون، تأخذ الزرقاء، التي تبعد عن عمان 28 كم، الحصة الأكبر. إذ يصل عدد الرحلات اليومية بينهما إلى حوالي نصف مليون رحلة، غالبيتها العظمى عبر المركبات الخاصة.
منذ بداية التخطيط لمشروع الباص السريع، أُعلن عن ربط الزرقاء بعمان كمرحلة ثانية منه، ليبدأ تشغيل الخط بنسخته التجريبية منتصف أيار الماضي. كان الهدف هو الحد من الازدحام المروري وزيادة استخدام وسائل النقل العام من 13% إلى %20. وبالفعل، في نماذج لمدن مشابهة لعمان، عملتْ تقنية النقل السريع بالحافلات على تقليل ازدحام الطريق بنسبة 9%، وتحسين سرعة حركة المرور بنسبة 24%، وتقليل المؤثرات الخارجية لازدحام الطريق بنسبة 18%، كما يمكن أن تخفف من مصروف الفرد على النقل.
منذ الأسبوع الأول لتشغيل المشروع، جاءت بتول بسيارتها إلى المحطة الرئيسية، اصطفت في أحد الشوارع الموازية للمواقف، واشترت بطاقة الباص بدينار واحد وشحنتها بمبلغ آخر لتتمكن من استخدام الباص، الذي يكلفها للرحلة الواحدة 65 قرشًا. وصلت إلى موقف الحافلات الساعة السابعة والربع صباحًا، أي في وقت الذروة، فالساعات الأكثر اكتظاظًا بالمسافرين إلى عمان هي بما بين السابعة والتاسعة صباحًا. وبعد عشرة دقائق أو أقل للركوب والانتظار، انطلقت الرحلة لتصل إلى دوار المدينة الرياضية في الثامنة إلا خمس دقائق، ثم تمشي إلى مكان عملها لخمسة دقائق وتصل في الموعد.
كان الاعتماد على الباص السريع ليمكنها من توفير 100 دينار شهريًا، فعلى عكس خدمات النقل العام التي اعتادتها في السابق، كان الباص مُكيّفًا في ظل درجة حرارة وصلت مؤخرًا إلى 35° في الخارج، ومريحًا، رغم أنها لم تعتد مسبقًا الوقوف في مواصلات عامّة، إلا أنها لم تمانع لأن الباص «مهيأ للوقوف» بحسب قولها. ولكنها سرعان ما توقفت عن ركوبه في اليوم الثالث. فبعد عودتها من الدوام، وجدت شواخص «ممنوع الاصطفاف» لم تكن موجودة مسبقًا، وحصلت على مخالفة لاصطفافها في الشارع الموازي للموقف.
بحثَت بتول عن مكان اصطفاف آخرٍ، لكن أقرب مكان مسموح وجدته كان في أرضٍ ترابية ومنحدرة تبعد مشيًا عن الموقف حوالي 9 دقائق. أما خيار الانتقال عبر سيارة أجرة من منزلها في الزرقاء الجديدة إلى المحطة، فكان سيكلفها ذهابًا وإيابًا ستة دنانير. لذلك، سرعان ما مسحت فكرة العودة إلى الباص السريع من بالها.
يبدو أن خيار التخلي عن قيادة السيارة كان مفضلًا بالنسبة للكثيرين. فخلال تجربتي للباص على خط الزرقاء عمان، شهدت حوارًا بين السائق وراكب يبلغ من العمر 67 عامًا. «مريح حالك إنك ما بتسوق»، يقول السائق، فيرد الراكب إن لديه سيارته، لكنه اعتمد على ابنه لإيصاله إلى المحطة، مضيفًا إنه لا يحب القيادة لمسافات طويلة رغم عدم اضطراره للذهاب إلى عمان كثيرًا. وبالرغم من تجربته المريحة إلا أن عدم وجود مواقف سيارات قريبة، يعدّ عائقًا أمام استقطاب مستخدمين جدد إلى حدّ بعيد. فحتى المساحات الفارغة الترابية المحيطة بالمواقف ضيقة ومشغولة بسيارت الموظفين في مؤسسات قريبة، ولا تكفي لخلق أعدادٍ فارقة للمستخدمين الجدد للباص من المعتمدين على المركبات الخاصة. ومن خلال تجربتي، بالكاد وجدت مساحة صغيرة فارغة في أحد هذه المساحات للاصطفاف فيها.
لوحات لإرشاد مستخدمي الباص السريع في الزرقاء. تصوير مؤمن ملكاوي
يتساءل البعض ما إن كان المشروع، الذي تبلغ قيمته الإجمالية 153 مليون دينار، ويتضمن 12 تقاطعًا مروريًا جديدًا، وسبعة جسور، وخمسة أنفاق، وخمس محطات ركاب، سيكون قادرًا على تلبية الأهداف التي وضعتها أمانة عمان، باعتبارها الجهة المخولة بتزويد وزارة الأشغال العامة بالدراسات الاستراتيجية الخاصة بالمشروع وتشغيله في الفترة التجريبية. تقول علا كفاوين، مديرة دراسات وتخطيط النقل في الأمانة، إنه من المبكّر القول إن الباص حقق أهدافًا تتعلق بتقليل الاعتمادية على المركبات الخاصة. حيث تبين إنه منذ انطلاق المشروع داخل عمان، كانت استجابة المستخدمين تصاعدية عبر السنوات. وتشير إلى أن المشروع ما يزال في الفترة التجريبية بانتظار طرح عطاء تشغيلي رسمي في الفترة المقبلة، لاستكمال تنفيذ الاستراتيجية التشغيلية لاحقًا.
تشير كفاوين إلى أن دراسة النقل والمرور التي أطلقتها أمانة عمان عام 2010 خلصت إلى أن تقنين الاعتمادية على المركبات الخاصة يحتاج إلى مجموعة حلول متتالية، وقد قُدرت هذه الحلول بـ255 مشروعًا، والباص السريع هو واحد منها. وحتى اللحظة، فإن التخلي عن المركبات الخاصة لصالح النقل العام لا يزال في خطواته الأولى. ولكن الأمانة تسعى بالتعاون مع هيئة تنظيم النقل البري إلى تغطية كافة المناطق المأهولة بالسكان في الزرقاء بشبكة نقل تصلها بمحطات الباص السريع. إذ توضح عبلة وشاح، الناطق الإعلامي في هيئة تنظيم النقل البري، أن الهيئة عدلت مسارات بعض خطوط النقل الداخلي في الزرقاء، أي باصات الكوستر، لتصل محطات التنزيل والتحميل الخمسة التي تقع ضمن اختصاص الهيئة، ولا تزال تعمل على تنفيذ هذه الخطة.
لا شك بأن الإقبال على الباص السريع في الزرقاء في ازدياد. فبحسب التصريحات، استخدم خط عمّان-الزرقاء قرابة 221 ألف شخص خلال أول أسبوعين من افتتاحه. ورغم وجود جامعتين وثلاث كليات مجتمع في الزرقاء، إلا أنه يمكن ملاحظة أن معظم المسافرين من الزرقاء إلى عمان هم بغرض الدراسة، حيث ينعكس ذلك على الاكتظاظ الهائل على مرافق المواصلات العامة المتجهة إلى عمان أثناء أوقات الدراسة الجامعية، وانخفاضها وقت العطل الجامعية. ويبدو أن الطلبة هم أكثر مستخدمي الباص، حيث يتحكمون أيضًا بأيام الاكتظاظ، فالأحد والثلاثاء والخميس يكونون أكثر ازدحامًا في الطوابير الصباحية على موقف الباص من يومي الإثنين والأربعاء. ويتفوق الطلب على خط المدينة الرياضية (في اتجاه الجامعة الأردنية) من خط رغدان.
خلال الأسبوعين الأولين من بدء العمل بخط الزرقاء عمان استعمل حافلات الباص أكثر من 200 ألف شخص، بحسب التصريحات الرسمية.
كان سوء الخدمات المقدمة في النقل العام عاملًا في فقدان البعض، خاصة من النساء، لفرصهم في الحصول على الوظائف في العاصمة أو في المحافظات الأخرى. ففي شهر رمضان الماضي، فقدت هيا (24 عامًا) من الزرقاء وظيفتها في التسويق الإلكتروني في أحد المكاتب في عمان، لعدم توافر مواصلات عامة سريعة تعيدها إلى الزرقاء. حيث كانت تنتهي من عملها الساعة الخامسة، وعادة ما تحتاج ساعة وأكثر قليلًا للوصول إلى منزلها، إلا أنها عانت تلك الفترة من طول مدد الانتظار داخل باصات الكوستر، كون هذه الباصات لا تنطلق قبل تحميل حمولتها كاملة. وبالرغم من اشتهار باصات الكوستر بسرعتها، إلا أنها قد تستغرق وقتًا أكثر مما يجب أحيانًا بسبب التوقف المتكرر لتحميل وتنزيل المشاة على الطريق. «صرت أوصل دايمًا بعد الفطور، يكونوا أهلي أفطروا وصَلّوا وأنا لساتني بالطريق». قررت هيا بعدئذ أن تترك عملها من أجل إيجاد فرصة عمل تنتهي بوقتٍ أبكر.
حين التقينا في الباص السريع، أخبرتني هيا أنها ذاهبة لعملها الجديد، رغم أن أوقات دوامها الجديد لم تتغير عن السابق، ولكنها تشعر بالاطمئنان منذ أن اعتادت على الخدمات الجديدة. «بتلاقي باص كل خمس دقائق، وما بضل يستنى عشان يعبي»، مشيرةً إلى زوال عوامل القلق من العودة متأخرة إلى الزرقاء، ما يمكنها من الحفاظ على وظيفتها الحالية.
ليست هيا وحدها من اعتمدت الباص السريع دون رجعة. إذ تقول هبة (26 عامًا) إنها استبدلت حافلات الكوستر «تمامًا وإلى الأبد» بالباص السريع من أجل الذهاب إلى عملها في عبدون. تقول إن لديها أسبابًا تتعلق بالمساحة الآمنة التي وجدتها في الباص، حيث الطابور المنتظم، وإمكانية ركوبٍ لا تتعدى العشرة دقائق في أسوأ الأحوال، عدا عن إمكانية الانتظار دقائق قليلة لتركب جالسةً في الباص الآخر في حال امتلأت مقاعد الباص السابق. فضلًا عن أنها لم تعد تجلس كراكب ثالث في مقاعد تتسع لشخصين، كما هو الحال في الكوستر. كانت هذه الأسباب حاضرة في آراء معظم النساء اللواتي تحدثنا إليهن ممن قررن اعتماد الباص السريع كوسيلة دائمة للسفر إلى عمان، إضافة إلى عدم حدوث تجاوزات أخرى كالتدخين، أو إمكانية حدوث مشاكل بين الباصات نفسها.
لكن ذلك كله لا يعني أن النساء لم يعدن يستخدمن باصات الكوستر، بل على العكس هناك أعداد لا بأس بها من النساء لا تزال تفضل الكوستر على التجربة الجديدة. الأسبوع الماضي، ركبتُ باص الكوستر المتجه إلى الزرقاء والذي ينتظر امتلاء سعته كاملة من الركاب بالقرب من الباص السريع الذي يتحرك كل خمس دقائق، قرب دوار المدينة الرياضية. كانت الساعة الحادية عشر ظهرًا. انتظر الكوستر مدة نصف ساعة لتحميل الركاب، ومع ذلك كانت ثلث سعته من النساء.
إلا أن الدافع الآخر الذي جعل هبة تفضل الباص السريع هو أنها توفر شهريًا 30 دينارًا عن السابق، حيث كانت تدفع دينارًا إضافيًا من أجل ركوب باصيْ كوستر من الزرقاء إلى عمان، ثم الباص السريع المتجه إلى عبدون. ولكن نظام الاستخدام المجاني للباص السريع داخل عمان خلال ساعة من استخدام خطوط الزرقاء (بعدها أو قبلها)، أو إمكانية استكمال الرحلة في «باص عمان» بسقف دينار، كان فارقًا بالنسبة إليها وللكثيرين.
تقول هيا إن من أسباب اعتمادها الباص السريع للانتقال إلى عمان الطابور المنتظم وتوفر مساحة آمنة فيه.
أحد أبرز السلبيات التي يتفق عليها معظم المستخدمين هي تدني سرعة الباص السريع، إذ أنه وفي بعض الحالات تكون حركة المركبات خارج مسرب الباص أسرع منه رغم وجوده في مسرب مخصص دون معيقات. بحسب أحد السائقين، فإن معظم سائقي الباص السريع يفضلون عدم زيادة السرعة حفاظًا على حياة المشاة الذين يقطعون ممر الباص. في أحد الرحلات، لاحظتُ أكثر من 13 شخصًا قطعوا مسرب الباص على طول الطريق إلى المدينة الرياضية، في مشهد بات معتادًا بالنسبة للركاب. معظم المشاة الذين يفضلون قطع الشارع الرئيسي مرورًا بمسرب الباص السريع كان يبعد عنهم أقرب جسر مشاة حوالي خمسة دقائق وأكثر، ومنهم كبار السن الذين لا يستطيعون صعود الجسور. هذا يبدو جليًا أيضًا عند محطات التنزيل والتحميل، فمن المُلاحظ أن المصاعد الكهربائية لا تعمل دومًا، وهو ما يشكل عائقًا حقيقيًا أمام تجربة استخدام آمنة للمشاة حتى الآن رغم أن هذه الإشكاليات ظهرت للسطح منذ اليوم الأول في تشغيل المشروع بأجزائه الأولى في عمان.
بشكل عام، اتفق مستخدمو الباص السريع على ميزاته من حيث التنظيم والراحة وتقليل وقت الانتظار، إلا أن التحدي الأكبر ما يزال توفير البنية التحتية، من مواقف وخطوط فرعية، القادرة على إقناع المستخدمين بترك مركباتهم الخاصة وركوب الباص السريع من الزرقاء إلى عمّان.
-
الهوامش