هل يسهم الباص السريع في استعادة ركاب النقل العام؟

هل يسهم الباص السريع في استعادة ركاب النقل العام؟

الثلاثاء 03 آب 2021

لو يتمكن أحدنا من إعداد سجل مفصّل للنقاش العام في البلد خلال العقد الأخير ومطالعته، ربما سيكتشف وسنكتشف معه بسهولة أن عنوان «الباص السريع» كان حاضرًا وبقوة، واحتل ولا يزال يحتل، حيزًا كبيرًا من هذا النقاش. وسنكتشف أيضًا تنوع ميادين ومجالات هذا الحضور؛ فهو حاضر عند نقاش النقل العام، وعند نقاش الاقتصاد والديون، وإدارة المدينة، خاصة لجهة أزمات السير وكثرة الإغلاقات والتحويلات في الشوارع الرئيسية والفرعية التي تسبب بها، وكان ولا يزال عنوانًا للشكوى من تأثيره على العمل التجاري في المناطق المتأثرة. كما حضر المشروع في بداياته بقوة تحت عنوان الفساد، وحصل ذلك في النقاش الرسمي، كما قرر مجلس النواب عام 2011 وكما ورد في تقرير لديوان المحاسبة. ولكنه أيضًا كان على الدوام حاضرًا على المستوى الشعبي، وبالتحديد على منصات التواصل الاجتماعي، كموضوع للنقاش التهكمي الساخر، حيث انتشرت النكات من شتى الأصناف.

من الواضح أن وجود المشروع بشكل ملموس ومرئي أمام الناس وعابري الطريق، كان سببًا رئيسيًا في اتساع النقاش حوله، ولكن ربما لعب دورًا إضافيًا في ذلك، طولُ المدة منذ أن طُرح المشروع علنًا عام 2009، ثم احتفل بوضع حجر الأساس له في تموز عام 2010، برعاية رئيس الوزراء آنذاك سمير الرفاعي وبحضور أمين عمان الكبرى حينها عمر المعاني.

تهتم هذه المقالة بمتابعة أبرز تبدلات الموقف من النقل العام، وتغيرات سلوك الناس «التنقلي» خلال السنوات الفائتة، وصولًا إلى الوضع الحالي، مع محاولة تقديم بعض التوقعات للمستقبل، (مع التركيز على قطاع النقل بالباصات الكبيرة كوننا نناقش هنا الباص السريع).

قد يكون من المفيد التذكير بـ«مؤسسة النقل العام» التي كانت مملوكة للحكومة، وتشغل الباصات التي اشتهرت بلونها الأحمر منذ منتصف السبعينيات وحتى أولى خطوات خصخصة القطاع في نهاية التسعينيات. (وقتها كان الاسم الشهير للباص الأحمر قد أصبح «جحش الحكومة»). في عام 1998 دخلت شركة صغيرة -حينها- وتشغل أربعة باصات على طريق المطار، فاشترت جزءًا من حقوق النقل في العاصمة، قبل أن تتوسع في العام 2007 من خلال أسطول بلغ حجمه 450 حافلة. وقد عرفها العمانيون تحت اسم «باصات المتكاملة».

لم تمض سوى سنوات قليلة حتى بدأت الأزمة مع الشركة الخاصة التي أعلنت في عام 2011 إضرابًا عن العمل لأكثر من أسبوع، تسببت خلاله في أزمة اضطرت أمانة عمان للاستعانة بباصات الأمن العام وشركات النقل السياحي وشركات تأجير الحافلات.

في تلك الأثناء، كانت أمانة عمان الكبرى، وفي سياق مشروع «التحديث» الذي حمل اسم «المخطط الشمولي»، تتخذ إجراءات وتنفذ خطوات ذات صلة مباشرة بالنقل، وذات تأثير فوري ولكن طويل المدى، على سلوك الناس التنقلي في العاصمة.

من داخل الباص السريع في ثاني أيام تشغيله التجريبي.

مجمعات رغدان والعبدلي والجنوب

منذ مطلع سبعينيات القرن الماضي، كانت قد نشأت في عمان ثلاثة مجمعات نقل كبيرة، أحدها وسط عمان حمل اسم «مجمع رغدان»، يخدم النقل للقادمين والمغادرين من وإلى شرق وجنوب عمان، فيستقبلهم في طريقهم إلى أعمالهم ثم يودعهم في طريقهم إلى منازلهم. والمجمع الثاني هو مجمع العبدلي، الذي يضم يخدم المواطنين القادمين للعاصمة من مدن الشمال. وكان يرافق هذين المجمعين شبكة من خطوط «السرفيس». والمجمع الثالث هو مجمع «الجنوب» الذي يؤدي الخدمة ذاتها للمناطق الجنوبية.

في عام 2003 أغلقت الأمانة «مجمع رغدان» بهدف إعادة إقامة مجمع حديث في الموقع ذاته، ونقل المجمع وبشكل مؤقت إلى منطقة «المحطة». وتقررت مدة العمل في المشروع ثلاث سنوات، وكان مقررًا أن يفتتح في احتفالات عيد الاستقلال في 2006. وبالفعل أنجز المشروع وأعلن موعد الافتتاح، ولكن قبل ذلك بأيام أوقف الافتتاح، ليعلن لاحقًا أن المشروع لا يصلح كمجمع نقل، وبدأت سلسلة لم تنته إلى اليوم من الاقتراحات لهذا المبنى الكبير الفارغ لغاية الآن، والذي كلف مبلغ ثمانية ملايين دينار، وبالتوازي أعلن أن موقع مجمع «المحطة» سيكون موقعًا دائمًا، وببساطة جرى تبديل الكلمة المكتوبة على اللوحة الواقعة على مدخل المجمع، لتصبح «الدائم» بدل «المؤقت».

في العام ذاته، تقرر نقل مجمع العبدلي ليبتعد عن أنظار المشروع الحديث المقام في منطقة العبدلي، الذي قدم حينها تحت اسم «وسط البلد الجديد» أو «سوليدير عمان»، نسبة إلى المشروع المماثل المقام في العاصمة اللبنانية بيروت. وفي عام 2007، نقل مجمع السفريات فعلًا إلى منطقة طبربور، حيث أقيمت على عجل مظلات قماشية لتخدم العمل.

بطاقة ركاب الباص السريع.

أدت هذه التغيرات إلى بعثرة كاملة للسلوك التنقلي لسكان عمان وزوارها والعاملين فيها. في الواقع، إن سنوات تأسيس وقيام واكتمال مجمعات النقل القديمة تلك كان يتوازى ويترافق مع نشوء حياة كاملة، اقتصادية واجتماعية، في المناطق القريبة والمؤدية إلى تلك التجمعات التي كانت تخدم مئات آلاف المواطنين. وهذا ما يحصل في تشكّل وعمران المدن الكبيرة عمومًا.

شكليًا، «نجح» الانتقال إلى المواقع الجديدة، ولكن المواطنين الركاب «اختفوا» منها، ولم تنتقل الحركة والخدمة إلى المواقع الجديدة.

كنت حينها قد أجريتُ متابعات متفرقة لسلوك الركاب سعيًا للإجابة على سؤال: كيف يتنقل المواطنون بعد أن توقفت المجمعات السابقة؟

لقد بدأت مظاهر جديدة بالانتشار والتوسع: فقد تشكل قطاع نقل «غير رسمي»، أخذ يتسع باضطراد. بل نشأت مواقع خاصة لتجمع الركاب بانتظار وسائط النقل غير الرسمية أو الرسمية التي غيرت مساراتها لخدمة الركاب في الميدان.

الباص السريع

أخذت أزمة النقل تظهر بكثافة للعيان، فتقلصت نسبة استخدام النقل العام في عمّان عام 2011 إلى 13% من مجمل التنقلات ثم إلى 5% عام 2018 (مع ملاحظة استثناء مستخدمي سيارات التاكسي من مفهوم النقل العام باعتبارها استئجارًا لسيارة). وتفاقمت الأزمة مع سهولة متزايدة في فرص اقتناء سيارة خاصة، عن طريق برامج إقراض ميسرة خاصة بشراء السيارات، إلى جانب التخفيضات على جمارك السيارات.

في عام 2009 أعلن عن فكرة مشروع الباص السريع. ثم وضع حجر الأساس له، وبدأت مظاهر التنفيذ، وقد قوبل المشروع بهجوم حاد، ونسّب تقرير لمجلس النواب بوقف المشروع وإخضاعه للتحقيق، وأصدر ديوان المحاسبة تقريرًا يؤيد مراجعة المشروع بصورته في ذلك الحين، وأحيل التقييم إلى شركة دولية، أوصت بتغييرات جذرية عليه، وتوقف المشروع فعلًا لثلاث سنوات، ليعاد استئناف العمل فيه في أيلول 2014، على أن ينتهي العمل فيه ويبدأ التشغيل عام 2016، وفق ما أعلن رسميًا حينها. وقد نشرت أمانة عمان كتيبًا هو الأشمل عن تطورات المشروع ومراحله ومعيقاته.

ويمكن لبحث سريع عبر محركات البحث على الإنترنت أن يكشف بوضوح عن اضطراب العمل في المشروع. ببساطة، لم يبدأ العمل بشكل ملموس ومتواصل إلا في العام 2018، وصدرت تصريحات رسمية تقول إن منظومة النقل ستكتمل عام 2020. غير أن إجراءات مواجهة جائحة كورونا أوقفت العمل لأشهر، ثم استؤنف مجددًا.

داخل نقطة انطلاق صويلح.

تشغيل الباص السريع

في 27 تموز الفائت، جرى الاحتفاء بتشغيل تجريبي لأول خط مكتمل من خطوط الباص. يبتدئ من محطة صويلح، مرورًا بمحطة دوار المدينة، ثم إلى وسط البلد، لينتهي في محطة رأس العين.

قوبل التشغيل بموجة نقاش ساخرة تهكمية، خاصة على مواقع التواصل الاجتماعي وبعض وسائل الإعلام، التي غطت النقاش إلى جانب تغطية أخبار تشغيل الباص.

لغايات استكمال هذا المقال، وصلت إلى محطة صويلح، واستخدمت الباص ابتداءً من نقطة الانطلاق وحتى نقطة النهاية في رأس العين، ثم العودة في الاتجاه المعاكس إلى محطة صويلح، وفي الأثناء أجريتُ عددًا من المقابلات السريعة مع الركاب وبعض موظفي الأمانة وعمال النظافة في الموقع.

على عكس اتجاه النقاش في التواصل الاجتماعي، هناك اهتمام وإقبال ملحوظين على «تجريب»، الباص مع قدر من الترحيب والابتهاج إلى حد ما.

في محطة صويلح، وهي الأكبر، يتنتشر عدد وافر من موظفي أمانة عمان الكبرى، يستقبلون الركاب ويجيبون على أسئلتهم ويرشدونهم إلى نقاط الخدمة، حيث يتعين إصدار بطاقات الاستخدام وشحنها بالمبلغ المطلوب، أو تنزيل تطبيق على جهاز الهاتف النقال وشحنه بمبلغ مالي حسب الرغبة. قيل لي إن التعليمات واضحة بأن يُستقبل المواطنون بشكل حسن. وقد انعكس ذلك بالفعل على وجوه الطرفين.

الباص السريع في محطة رأس العين.

في مرحلة التجريب وضعت الأمانة سعرًا رمزيًا للرحلة هو قرش واحد للراكب الواحد. يبدو أن الأمر لغايات إحصائية، فلم تعلن رسميًا تسعيرة الاستخدام الفعلية، وصدرت كلمات متفرقة تحدثت عن سعر 60 قرشًا.

أغلب مستخدمي الخدمة جاؤوا للتجريب، وقد ركنوا سياراتهم قريبًا، ولوحظ وجود بعض الأسر التي جاءت للتجريب بشكل جماعي. الباصات حديثة ونظيفة ومزودة بخدمة (واي فاي)، وتتوفر في كل منها مساحتان إلى جانب المقاعد؛ واحدة لعربات الأطفال والأخرى لعربات أصحاب الإعاقات الحركية. ويبلغ عدد المقاعد 30 مقعدًا، مع عدد من المقابض اليدوية للركاب للوقوف.

في يوم الجمعة الأول حصل اكتظاظ على استخدام هذه الباصات. على الأغلب اعتبر المشوار نوعًا من السياحة المجانية في المدينة. ولغاية الآن، فإن المحطات نظيفة، وعمال النظافة يعملون حتى ساعات المساء، والمحطات مزودة بحمامات عامة. 

في مختلف نقاط التحميل وفي المحطات الرئيسية، لا تزال الرقابة والملاحظة والدراسة والتقييم تجري بانتظام. حصل عدد من الحوادث، دهس وتصادم. تبدو هناك حاجة لزمن كافٍ للاعتياد على الحركة الجديدة في الشارع. كما توجد نقاط تداخل بين خط الباص الخاص مع الطريق الاعتيادية المستخدمة من قبل السيارات، وهذا ينتج قدرًا من التأخير، غير أن ركاب الباصات كانوا يشعرون بتميزهم عن ركاب السيارات الخاصة، ذلك أن حافلتهم تسير بيسر على خطها الخاص بينما تتحرك السيارات الخاصة ببطء في الشارع الملاصق بفعل أزمة السير. بدا أن في الأمر قدر من إعادة توزيع «الوجاهة» كي لا نقول «الكَشْخَة» لصالح راكب الباص.

بسهولة يمكن الاستنتاج أن استقبال الخدمة الجديدة والتفاعل معها كان إيجابيًا. من غير المعروف تمامًا كيف ستتطور الأمور لاحقًا. من المرجح أن الأجرة ستلعب دورًا في احتمال استعادة الركاب، وخاصة الذاهبين إلى أعمالهم أو مصالحهم، وذلك باعتبار أن التوفير في الوقت متحقق وفق الصورة الحالية. إذ تستغرق الرحلة من صويلح إلى رأس العين من 45 إلى 50 دقيقة. 

الباص السريع في محطة صويلح.

لم تحسم الأمانة تفاصيل دفع الأجرة، وإذا ما ستكون مجزأة ومربوطة بالمسافة المقطوعة التي يحتاجها الراكب، أم موحدة لكامل الرحلة. وإذا كان من الواضح أن الخدمة ستحال على القطاع الخاص، فهل تستفيد الأمانة من تجربتها السابقة، بحيث لا تجد نفسها خاضعة لابتزاز «التوقف عن العمل» -على الأقل- وبالأساس، هل تستعد الأمانة بصفتها الجهة الرسمية لاحتمال أن تضطر إلى دعم الخدمة ماليًا، بحيث تضمن ديمومتها، وهل الشركة الخاصة وأمانة عمان مستعدتان لانتظار الوقت اللازم لاستعادة الثقة بالنقل العام؟

من المتوقع أن تجربة الخط الأول ستسهم في تحديد إجابات مناسبة على هذه الأسئلة وغيرها، بما يخدم الحال بعد اكتمال تشغيل المشروع كله. ولا يملك العمانيون سوى الانتظار، ولا بأس، فقد جربوه طويلًا.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية